شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عَبْد الله عِنْدمَا فقَدَ ذاكِرَته
(1)
منذُ سنينَ أُحَملِقُ في المرآةِ وأسأَلُها
-: مَنْ هذا الْمَرْسومُ بوجهكِ واللاَّئِذُ بالْعُزْلَهْ؟
يَتَرحَّلُ في وديانِ الصمتِ نَهاراً
ويُعانِقُ في الظُّلْمَةِ ظِلَّهْ
ما اتَّخذَ لَهُ في البحرِ سَبيلاً سَرباً
والْبَرُّ اعتذرَ عَنِ الرِّحْلَهْ
يسألُ: منْ يعرفُني؟
وأنا بدوِيٌّ أَسَعى مِنْ أَقْصى الصَّحْراءِ إليكُمْ
مِنْ غيْرِ أَدِلَّهْ
مَنْفوشُ الشَّعْرِ
ومَجْروحُ الْقَلْبِ
واِسْمي ما عادَ بذاكِرَتي
حادي الْعيسِ يناديني: أَحْمَدْ
والْمَصْلوبُ على بابِ القُدسِ
يُناديني: عيسى
والنسوةُ يَرْكُضْنَ ورائي
ويُنادينَ: أَيا عَبْدَ اللهِ
أيا عَبْدَ اللهْ
فأنا.. مَنْ؟
أَذكُرُ أني مجروحٌ جُرْحَينْ
جُرْحاً يُدْعى الْقُدسَ
وجُرْحاً تَخْجَلُ منهُ الْعَينْ
وأَمامي سيفٌ
وورائي سيفٌ
وبخاصرتي نَزْفٌ
وأنا أركضُ بينَ الْبَينْ
أَذْكُرُ.. أَنَّ بَساتينَ النَّخلِ تُعرِّشُ فوقَ ضُلوعي
ثم تَميسُ على الْكَتِفَينْ
وحُقولَ الْقمحِ تَشِعُّ بوَجْهي
ثم تَطيرُ على الكَفَّينْ
أَذكرُ.. أنَّ القمرَ الصَّحْراويَّ ينامُ بِحِضْني
ونُجوماً بيضاً تَخْضَرُّ على الزِّنْدَينْ
والْحُبَّ الْعُذْرِيَّ يُغَطِّيني
مِنْ قِمَّةِ رأسي حتى الْقَدَمَينْ
أعرفتُمْ اِسْمي؟ وأَنا أَينْ؟
(2)
أذكرُ.. أني لا أعرفُ مِنْ سُكّانِ الدنيا
إلاَّ اثنينْ
قابيلَ وهابيلْ
والدَّمَ والسَّيْفَينْ
أذكرُ.. أَنَّ أبي راعي إبلٍ ضاقَتْ نَجْدٌ بِحُمولتِهِ
فانْتَشَرَ مَعَ الطِّيبِ معَ الحُبِّ مَعَ الشِّعْرِ
مَعَ الْقُرآنْ
وَزَّعَ ألبانَ النُّوقِ على أَطْفالِ الدُّنْيا
وابتكَرَ أَغانيَ للأَرْضِ ولِلإِنْسانْ
نادى في صِفِّينَ:
أَيا عَربَ الرِّدَّهْ
يا أَشْباهَ الريحِ الْمُرْتّدَّهْ
مَلْعونٌ مَنْ رَفَعَ السيفَ بوجهِ أَخيهْ
ملعونٌ مَنْ زَرَعَ الْحَنْظَلَ في أَفْواهِ بَنيهْ
الرّاياتُ الْبيضُ حَرامْ
والرَّاياتُ السُّودُ حَرامْ
والرومُ يَجيئونَ إليكُمْ
مِنْ شِقٍّ يَعْوي
بينَ الراياتِ الْمُبْيَضَّةِ
والراياتِ الْمُسْوَدَّهْ
وظَلَلْتُمْ مَشْغولينَ بصُنْعِ وِسامْ
لأَميرٍ يغرقُ ف دَمِكُمْ
ورفعتُمْ أَوسِمَةَ النَّصْرِ الْمَكذوبِ
على صَدْرِ خَليفَهْ
(3)
أذكرُ.. أني ضَيَّعْتُ الناقَةَ والْقُرآنْ
وحِقاقَ الطِّيبِ وديوانَ الشِّعْرْ
ونَسيتُ بَراعِمَ حُبٍّ بِكْرْ
نبتَتْ في بُستانِ القلبِ الْبِكْرْ
ورحَلْتُ أُسائِلُ مَنْ كانَ رآني
هل يَعرِفني أحدٌ والدنيا لَيْلٌ صَحْراوِيٌّ
والْقَفْرُ يُسَلِّمُني للْقَفْرْ
وَسَمِعتُ أبي يَصرخُ: يا وَلَداً
يَرحَلُ بين الصِّفْرِ وبينَ الصِّفْر
أنتَ تَدورُ على نَفْسِكَ يا وَلَدي
كالرّاحِلِ في عَتْمِ الْقَبرْ
وتَلفَّتُّ.. تَلَفَّتُّ.. ولا أَعْرِفُ في أيِّ مكانْ
مِنْ هذا الوطنِ الممتدِّ مِنَ البحرِ إلى البحر
أَوْقَفني حَرسُ السُّلْطانْ
قالوا: هَلْ تَحمِلُ سَيْفاً؟
قلتُ لهمْ: ضاعْ
قالوا: هَلْ تَحمِلُ قَلَماً؟
قلتُ لهمْ: ضاعْ
قالوا: هل يُخْبِئُ حُلُماً؟
قُلتُ لهمْ: ضاعْ
قالوا: ماذا تحملُ في هذا الرأسِ الملتفِّ كَعَوْسَجَةٍ
يَطمرُها الثَّلْج؟
قلتُ لهم: أَحْمِلُ ذاكِرةً مَشْلولَهْ
فيها طَمْيٌ وَدُخانْ
وحِكاياتٌ ما اكْتَمَلَتْ
وتَصاويرُ بلا أَلْوان
وفُصولٌ تبكي مِنْ جَدْبٍ
وبَساتينُ مِنَ الأَحزانْ
ضحِكَ الْحُرّاسُ طَويلاً
وسيوفُ الْحُرَّاسِ مُفَتَّحَةٌ أَعْيُنُها
قالوا: اِخْلعْ ذاكِرَتَكْ
فخلعتُ لهم رَأْسي
وأبي كانَ يُراقبُ هذا الْمَنْظَرْ
وإلى اليومْ
لا أعرفُ إنْ كانَ أبي يَضحَكُ أم يَبْكي
أمْ يَزأَرُ أَمْ يَجْأَرْ
اللَّيلُ طَويلاً كانَ وكُلُّ نُجومِ الدُّنيا
خائِفَةٌ.. راجِفَةٌ.. تَتَقَهْقَرْ
وأتيتُ لأَسْأَلَكُمْ
هل رَأْسي عادَ إلى مَوضِعِهِ
أم ما زالَ لديهِمْ
يَتَنَقَّلُ بينَ الْمَخْفَرِ والْمَخْبَرْ؟
(4)
أَذكرُ.. في السادسِ مِنْ تشرينْ
قالَ مُؤَرِّخُ ساعاتِ الْفَرحِ: تَقَدَّمْ
وتَجاوزْ عَصْرَ الرِّدَّهْ
الريحُ مُواتِيَةٌ والْقَمرُ يُغَنِّي
والنِّسوَةُ يتَحَفَّزْنَ لإِنْجابِ الشُّهَداءْ
وتقدَّمْتُ قَليلاً
فرأيتُ يَداً بيدي الْمُمْتَدَّهْ
تحملُ سيفاً أُمَويّاً
غَطَّى ما بينَ الأَنْبارِ وَعَكّا
ورأيتُ شَراييني
تلتفُّ على عُنُقِ الليلِ لتَخْنُقَهُ
ودَمي يَطْفُر مِنْ جَسَدي
يركضُ حَولي
ويَطيرُ.. يَطيرُ فَراشاتٍ مِنْ وَرْدٍ وسَنابِلَ مِنْ أَفْراحْ
وتَدَحْرَجَ رَأْسي مُخْضَرّاً مِنْ أَعْلى الطورِ إلى سيناءْ
يفرشُ أمواجَ الفرحِ على وَجْهِ الصَّحْراءْ
ويُحاوِرُ أَطْياراً لم تولَدْ
ويُغَنِّي لِحَبيباتِ الشُّهَداءْ
وتَوقِّفَ رأسي فوقَ الْجُلْجُلَةِ ومَرْيَمُ تَغْسِلُهُ
بدموعِ الْفَرحِ الْعَذْراءْ
أسكَرَهُ الْحُبُّ فَنامْ
* * *
وسمعتُ أبي يَطرُقُ بابَ الْقبرِ عَلَيَّ
يُناديني: اِرجعَ للدنيا يا ولدي
إنَّكَ لم تَسْتَشْهِدْ
لم تُقْتَلْ
الْعَصْرُ تَعَطَّلْ
والدّنْيا سِجْنٌ مُقْفَلْ
لا حَرْبَ ولا سِلْمَ ولا عَوْدَهْ
ما زالَ الْفِرعونُ بِزَمَنِ الرِّدَّهْ
والْمَقْتولُ بهذي اللَّيْلَةِ يوسفُ وَحْدَهْ
* * *
فخلعتُ غَطاءَ الْقَبرِ ولَمْلَمْتُ شَراييني
ولَبِسْتُ دَمي
وأعدتُ الرأسَ الْمَقْطوعَ إلى جَسَدي
ورجعتُ حَزيناً ضَيَّعَ اِسْمَهْ
أَصحيحٌ أَنَّ فَراشاتِ الغابةِ يحرقُها الضَّوْءْ
وفَراشاتِ دَمي تَحْرِقُها الظُّلْمَهْ؟
(5)
أذكرُ.. أَنَّ لِيَ امرأةً
يَتَفَيَّا الليلُ بِظِلِّ جدائِلِها
والصبحُ يَسيلُ على الْخَدَّينْ
تَتَحَلَّى بالدُّمْلُجِ والخَلْخالُ
وتُغازِلُ سِرْبَ فَراشاتٍ بِغناءِ الْقُرْطَينْ
يَتوَثَّبُ في عَيْنَيْها الشِّعْرُ
قِطافاً مِنْ عَسَلٍ بَرِّيٍّ ثم يَذوبُ على الشَّفَتَيْن
لا تَشْكو ضيقَ الصَّدرِ ولا تَعْرِفُ شُحَّ الْعَينْ
ولها أَحْبابٌ في الشامِ وصَنْعاءَ ومَكَّةَ والأَنْبارِ
وطَنْجَةَ والْبَحْرَيْنْ
مِنْ مَكَّةَ طَيرُ حَمامْ
ومِنَ الطائِفِ نَحْلَهْ
وفِراخُ حُبارى مِنْ نَجْدٍ
ومِنَ الْغوطَةِ فُلَّهْ
وعَصافيرٌ مِنْ طَنْجَةَ ومِنَ الْبَصْرَةِ نَخْلَهْ
أذكُرُ.. أني كنتُ أُسافِرُ في عَيْنَيْها لَيْلاً
وبعَيْنَيْها بَحْرٌ مَنْسِيُّ الشَّطَّينْ
وأَعودُ إلى الدنيا صُبْحاً
أتأَمَّلُ وَجْهَ اللهِ بهذا الْكَونْ
ومَعي مِنْ ثَمَرِ الْعشقِ سِلالْ
ومِنْ الأَمْنِ سِلالْ
ومِنْ الشِّعْرِ أَكاليلٌ لم تُضْفَرْ
أوقِظُها مِنْ فَرَحي.. وأُسائِلُها
: يا امرأةً
أَأَنا سافرتُ بعَيْنَيْكِ إلى الْبَحْرِ الأَخْضَرْ
أمْ كنتُ الضَّيْفَ على الْقَيْسَينْ
أَتَنَقَّلُ في وادي عَبْقَرْ؟
كانَتْ تضحَكُ.. تَضْحَكُ تلكَ الْحُلْوَهْ
حتى تَشْرُقَ باللَّذَّةِ أَوْ تَغْرقَ بالنَّشْوَهْ
وأَحارُ أنا
أَأُسافِرُ في عَيْنيها ثانيةً
أمْ أَغْمُرها بالْهُدبَيْنْ؟
* * *
لكنَّ امرأتي ضاعَتْ مِنْ أَلْفِ سَنَهْ
إنْ يَقْتَربِ الْعَصْرُ سَنَهْ
تَبْعُدْ تلكَ الحُلْوَةُ عَنْ عَيْنَيَّ سَنَهْ
فإذا عادَتْ هل تَعْرِفُني؟
وأنا مَنْفوشُ الشَّعْرِ ومَجْروحُ الْقَلْبِ واِسْمي
ما عادَ بذاكِرَتي
لا أذكُرُ.. مُنْذُ متى أَوْ أَيْنْ
غَنَّيْتُ لِمَنْ أَخَذَتْ قلبي وارْتَحَلَتْ
في الْحُلْمِ أَوِ الْيَقْظَةِ أَوْ ما بينَ الْبَينْ
يا سامِعَ الصَّوْتِ ضَيَّعْتُ الْحَبيبَ هُنا
فهل تَراني؟ أَتَدْري مَن أَكونُ أَنا؟
راعي مَنامٍ.. عَبَرْتُ الْعُمْرَ أَحْرُسُهُ
مِنْ الضَّياعِ ولم أُنْشِئْ لَهُ سَكَنا
فضاعَ اِسمي، وشُلَّتْ عَنْهُ ذاكِرَتي
وجئْتُ أَسْأَلُ عَنْهُ الأَهْلَ والْوَطَنا
تَدورُ أَشْرِعَتي مثلي، ومِلْءُ فَمي
بَعْضُ الذي فاضَ مِنْ بَعْضِ الذي كَمُنا
أدميتُ كَفَّيَّ والأَبْوابُ مُغَلَقَةٌ
عني جَميعاً.. فَقولوا مَن أَكونُ أَنا؟
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :441  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 17 من 61
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.