شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
السَّــاحِرُ وَالأطفَـــال
إنها حكاية أصحاب الوعود كتبت بأعقاب هزيمة حزيران 1967
ناعِمُ الْمَلمسِ، مِثْلَ الأُفْعُوانِ
وشَدِيٌّ صَوْتُهُ كَالْكَرَوانِ
أبيضُ الْمعطفِ كَهْلٌ
هادئُ النَّظرةِ مَسحورُ الْبيَانِ
غامِضٌ شَعَّتْ على مبْسَمهِ
وَمَضاتُ الافْتِنانِ
قيلَ عنها: بَسمةٌ عُلْوِيَّةٌ
تعكسُ مَخْبوءَ الْجَنَانِ
* * *
قالَ للأطفالِ يوماً: يا صغاري
سأريكم كُلُّ ما تحْتَ وِفاضي
مِنْ أَعاجيبِ الزمانِ
سَأُريكمْ رائِقَ الْماءِ بلونِ الأُرْجُوانِ
وحِبالاً مِنْ دُخانِ
وجِبالاً تَتَبَدَّى.. تَتَخَفَّى في ثَوانِ
هل رأيتم رقصةَ الأَفْعى
على الْبِلَّوْرِ أَوْ فوقَ الدِّنانِ؟
ومناديلَ، وحُلوى
مِثْلَ لَمْحِ الطَّرْفِ مِنْ تَحْتِ لِساني؟
وقِلاداتِ نُضارِ
مِنْ جُيوبِ الْغَيْبِ تَنْحَطُّ على صُغْرى بَناني؟
وَحِساناً.. راقِصاتٍ، وغَواني؟
يتلَوَّيْنَ إذا أَوْمَأْتُ مِثْلَ الْخَيْزُرانِ
عارِياتٍ كالدَّراري
نَضِراتٍ ناعماتٍ مثلَ مَسْبوكِ الْجُمانِ
مُرْهَفاتٍ مثْلَ أَطْرافِ السِّنانِ
* * *
يا صِغاري
سأريكُمْ كُلَّ أَصْدافِ الْبِحارِ
سأريكم أَنْجُماً، تُسْقِطُ مثل الْخُبْزِ ضَوْءاً
رُغْمَ وَهْجِ الشمسِ في كَفِّ النَّهارِ
سَأُريكُمْ شَهْرزادْ
فِتْنَةَ الشَّرقِ تَلَوَّى وتُغَنِّي
حَوْلَ عَرْشَيْ شَهْرَيارْ
سأريكم طائِرَ الْعَنْقاءِ مِنْ تَحْتِ دِثاري
يَنْهَبُ الأُفْقَ ويَهْوي في خِماري
وجُنَيْناتٍ وَريفاتِ الظِّلالِ
مثلما يَنْسجُ مَفْتونُ الْخيالِ
عائِماتٍ في ربيعٍ مُسْكِرِ الأَنْسامِ
فـي غـابِ الْجَمـالِ
* * *
يا صغاري
سَأُحيلُ الماءَ خَمْرا
ورمالَ الأَرضِ فَيْروزاً وَتِبْرا
وحُطامَ القِشِّ حيتاناً وطَيْراً
فَخُذوا ما شئْتُمُ
مِنْ مُتْقَنِ الصُّنْعِ ومِنْ تِلْكَ الَّلآلي
* * *
يا صِغاري
اِرْفعوا أَبْصاركم نَحْوَ السَّماءْ
واتْرُكوها تُرْبَةَ الأَرْضِ الْكئيبَهْ
إنَّها بعضُ فَضاءٍ وخِواءْ
أَوْ ملاذٌ يَتَلَطَّى فيه خَوْفُ الْجُبَناءْ
حَلِّقوا وارْتَفِعوا عَنْ نَزْوةِ الشَّرِّ الْمُريبَهْ
وأَصيخوا السَّمعَ إني
مُرْسِلٌ في سامِقِ الْجَوِّ حِبالي
ها هُنا أعينكم، إني مُريكُمْ، من أَعاجيبِ فِعالي
لا يَسَلْني أَحَدٌ عن أَيِّ شيءٍ خيفةَ الْبَطْشِ بهِ
مِنْ قُدرةٍ فاقَتْ أَفانينَ الْخَيالِ
اِخْلَعوا أثوابَكُمْ والْقوْا بها تَحْتَ نِعالي
وتَمَشُّوا حَوْلَ أَشيائي حُفاةً وعُـراةْ
وانْظُروا حَبْلي الَّذي امْتَدَّ وَراءَ الأُفْقِ
في أَعْلى الْجِهاتْ
سوف يأتي بَعْدَ حينٍ
حامِلاً من عالَمِ الْغَيْبِ جَميلَ الأُمْنِياتْ
* * *
شاهَدَ الأَطفالُ حَبْلاً
كان فَوْقَ الأَرْضِ مُلْقىً ثُمَّ غابْ
-: لا تَخافوا يا صِغاري
سوفَ يَنْشَقُّ الْحِجابْ
سوفَ يَنْداحُ الضَّبابْ
سوفَ يأْتي الْحَبْلُ مِنْ عَلْيائِهِ
حامِلاً سِرَّ الَّلآلي وَالْكِعَابْ
* * *
فُغِرَتْ أَفْواهُهُمْ وانْذَهَلوا.. جَفَّ اللُّعابْ
ضَحِكَ الساحِرُ مَزْهُوَّاً وقالْ:
-: إنَّ حَبْلي سابحٌ فوق الذُّرى
فَوْقَ السَّحابْ
وسَيَأْتي بعد حينٍ
عندما يُفْتَحُ في الْمَجْهولِ بابْ
إنَّهُ يبحَثُ عن جِنِّيَّةٍ
تَرْضَعُ أَثْداءَ السَّحابْ
إنني أُبصِرُهُ الآنَ على أَعْلى الأَعالي
يَتَمَلَّى فائِقَ الْحُسْنِ ومَسْفوحَ الْجَمالِ
* * *
ها هِيَ الْجِنِّيَّةُ الْحَسْناءُ في حَمّامِها مُضْطَجِعَهْ
وأنا الآنَ هُناكْ
انْظُروها قَدَّمَتْ بِضْعَ كُؤوسٍ مُتْرعَهْ
هل تَرَوْنَ الْحَبْلَ والْجِنِّيَّةَ الْحَسْناءَ؟
- لا
صَرخَ الأَطفالُ: لا
-: هل تَرَوْنَ الْجِنَّ حَوْلَ الْحَبْلِ؟
-: لا
-: هل تَرَوْنَ النارَ فوقَ الماءِ؟
-: لا
-: هل تَرَوْنَ الْحُورَ أَسْراباً تُغَنِّي؟
إنَّهُنَّ الْعاجُ مَحْبولٌ بماءِ الْفَجْرِ
-: كلا. لا نرى شَيْئاً ولا نَسْمَعُ شيْئا
-: وأَنا.. لستُ الذي نادَيْتُ أَوْ مَنْ تَسْمَعونَهْ
أَوْ تَرونَهْ
بَلْ خَيالي، وظِلالي
أنا فَوْقَ الْغَيْمِ أَسْعى
بينَ أَسْرابِ الطُّيورِ
بينَ وِلْدانٍ وحورِ
إنَّهُ الْحَبْلَ الذي طار يُنادي
سامِعٌ هاتِفَهُ المِرْنانَ من تِلْكَ القُصـورِ
إنَّ هذا الحَبْلَ يَصْطادُ عَصِيَّ الْمُعْجِزاتْ
مِثلما تُصْطادُ أَطْيارُ الْحُبارى بالصُّقورِ
أَرْهِفوا الْحِسَّ ثَـوانْ
تُبْصِروا تلكَ الْجِنـانْ
وتَرَوْا ما لا تَراهُ مُقْلَتانْ
ها هُوَ الطَّائِرُ عادْ
بَعْدَ يَوْمٍ مِنْ رُقادْ
نافِضاً عنْهُ بَقايا مِنْ دُخانٍ وَرَمادْ
هل تَرونَهْ؟
عَلِقَتْ أَبْصارُهُمْ حيثُ أَشارا
لم يَرَوْا شَيْئاً بَدا
أَوْ جَسَدَ الشَّيْخِ تَوارى
كانَ سِرْبٌ يَخْطِفُ الأُفْقَ مِنَ الطَّيْرِ الْمُهاجِرْ
صرخَ الأَطفالُ: ها رَأَيْنا الطَّيْرَ تَهْوي
-: ليس هذا يا صغاري
بَلْ هُنا الطَّائِرُ يَثْوي
وأَشارا
فرأى الأَطْفالُ عُصْفورَيْنِ مِنْ كُمَّيُهِ طارا
-: سوفَ يَمْشي جَسَدي الآنَ وظِلِّي
ثُمَّ سارا
* * *
ومَشى الأَطفالُ خَلْفَ الشَّيْخِ أَشْباهَ سُكارى
هَمَسَ الشَّيخُ: عليكم أَنْ تَظَلُّوا
مِثْلما ظِلَّيَ مِنِّي
إنني أَتْبَعُ صَوْتاً
في السَّماواتِ يُغَنِّي
هابِطاً مثلَ هَزيمِ الرَّعْدِ من أَعْلى السَّماءْ
إنَّ أُذْني
وَحْدَها تَسْتَرِقُ السَّمْعَ.. وإنِّي
أَقْتفي خَطْوَ النِّداءْ
* * *
سَقَطَتْ شمسُ النَّهارْ
كَسِياط وَقْعُها مِثْلُ الشَّرارْ
شُويَتْ أَوْجُهُهُمْ
في لَهْفَتَيْ جوعٍ ونارْ
صَرخوا: جُعْنا.. ظَمِئْنا
فَأَعِدْنا حَيْثُ كُنَّا
حَيْثُ خَلَّفْنا الْكِتابا
ونِعالاً وَثِيابا
قَبْلَ هذا السَّيْرِ في ضَحْلِ الْبَراري
أُدْمِيَتْ أَقْدامُنا يا سيدي
مِنْ نارِ وَحْشِيِّ البَراري
أَرِنا الحَلوَى ومَخْبوءَ الدَّراري
أَرِنا الجِنِّيَّةَ الْحَسْناءَ أَوْ سَبْكَ النُّضارِ
أَرِنا الْخُبْزَ فإنَّا سُغُبٌ بَعْدَ الْمَسارِ
نَحْنُ أَشْلاءَ غَدَوْنا
نَحْنُ في بَحْرِ أمانيكَ غَرِقْنا
نَحْنُ رُغْمَ الفُسْحَةِ الْغَبْراءِ كُنّا
في مَتاهاتِ إِسارِ
وأَجابَ الشَّيْخُ مُلْتَذّاً بِتَعْذيبِ الصِّغارِ
-: لِتَكُنْ أَقْدامُكُمْ
في خِفَّةِ الريشِ وَرائي
لتكُنْ أَحْلامكُمْ فَوْقَ السَّماءِ
لتكُنْ أَجْسادكم باقاتِ ضَوْءٍ في الْفَضاءِ
قلتُ: اِنْسَوْا كُلَّ ما في الأَرضِ
مِنْ خُبْزٍ وموسيقى وماءِ
حيثُ ما تَسْقُطُ أَنْفاسِيَ كِنْزُ
إنَّما لا تُبْصِرونَهْ
تحتَ أَقْدامِيَ خُبْزُ
إِنَّما لا تَعْرفونَهْ
مُعْجِزاتي ها هُنا تَصْنَعُ دُنْيا وحَياةْ
فأَغِذُّوا السَّيْرَ خَلْفي
بينَ عُرْيٍ وانْفِلاتْ
كُلُّ ما حَدَّثْتكُمْ عَنْهُ لديكُمْ فَخُذوهُ
* * *
-: إنَّنا يا سيدي لَسْنا نَراهُ
شاهَتِ الأَنْفُسُ في مَعْسولِ وَعْدٍ
نَتَشَهَّى مُجْتَناهُ
وسَأَلْناكَ
فلم تَبْطُشْ بِنا أَيَّةُ قُدْرَهْ
أَرِنا مِنْ أَيِّ شَيءٍ بَعْضَهُ
نَحْن ضَحايا الْجوعِ والْعُرْيِ وَحُمَّى الاغْتِرابْ
أَهوَ حُلْمٌ.. كانَ هذا السَّفَرُ الْمَحْمومُ
في سودِ الشِّعابْ؟
دَمْدَمَ الشَّيْخُ: غَداً
عندما تَسْتَيْقِظونْ
خَفِّفوا أَعْباءَكُمْ بالنَّوْمِ حَتَّى
تَجِدوا الْحَبْلَ الّذي طارَ تَأَتَّى
حامِلاً ما في الأَعالي
مِنْ طَعامٍ.. مِنْ شَرابٍ مِنْ لآلي
مِنْ جَمالٍ مِنْ فُتونِ الْحُسْنِ
مِنْ حورٍ كِعابْ
* * *
1967
 
طباعة

تعليق

 القراءات :383  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 25 من 61
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.