د- مقالات الرفاعي تحت مجهر النقد والملاحظة |
النقد الأدبي في مفهوم عبد العزيز الرفاعي هو تلك البوتقة التي تجلو أدب الكاتب، وتبدي محاسنه فالناقد عون للأديب شاعراً أو ناثراً يشتركان في أن يوصلا النص الإبداعي إلى المتلقي بصورة يقبل على قراءته، ويتذوق ما تخبئه سطوره، وما تنطوي عليه كلماته من ظلال، وعبد العزيز يحرص دائماً على سماع آراء النقاد في أدبه نثره وشعره، والدليل على حرصه الشديد في سماع ذلك هو قوله: |
أكرموني فقوموني بنقد |
أنا أشتـاق أسمـع النقـادا
(1)
|
|
والنقد الذي ينشده عبد العزيز الرفاعي هو ذلك النقد الذي يحاكم النصوص الأدبية سواء أكان هذا النص جملة أو سطراً كالأمثال أو ديوان شعر أو قصة أو رواية، أو كتاباً أدبياً، ولا يحاكم صاحب النص، ولا يحفر القبور وينبش ما بداخلها ليحاكم آباء المؤلف وأجداده، والنقد الذي يطالب به الرفاعي – رحمه الله – هو النقد المجرد من الشللية، والمذهبية، أو المتعصب للطائفية والشعوبية. |
والنقد الذي يشتاق الرفاعي أن يسمعه من النقاد هو النقد الموضوعي الهادف الذي يبين المزايا والحسنات في النص موضوع النقد، ولا أقول يتجاوز عن الأخطاء التي تظهر له في النص وإنما يطلب فيه أن يضع على مواضعها رموزاً تمثلها عبارات رقيقة تحمل بين طياتها ما يمنح صاحب الكتاب أو النص على وجه العموم القدرة على إدراك معانيها لإصلاحها وتجنب أمثالها. |
ولكن السؤال الذي يطل برأسه علينا هل يستطيع في هذا العصر أن يجد المرء ذلك الناقد الذي تجتمع فيه كل الصفات المطلوبة. |
قد لا أكون صادقاً إن قلت: إنه من المتعذر عدم وجود هذا الناقد بسهولة ويسر، وقد يكون في قولي مبالغة إذا قلت: إنه من المستحيل العثور على مثله. لأن النقد الأدبي في القديم كان يكتفي أربابه عند تمييز النصوص بما يلامس شغاف قلب الناقد، ويساير مذهبه، ورؤيته الخاصة في جودة النص ولذلك اختلفت الأحكام التي تصدر على نص واحد لاختلاف ميول النقاد واختلاف موازين الجودة عند كل منهم، وقد ذكر ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء "الجزء الأول" (صفحة 70) النص التالي: "قال أبو محمد
(2)
. تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب: |
1- ضرب حسن لفظه وجاد معناه كقول القائل في بعض بني أمية. |
في كفه خيزران ريحه عبق |
من كف أروع في عرنينه شمـم
(3)
|
يغضي حياءً ويُغْضَى مـن مهابتـه |
فما يُكلَّمُ إلا حين يبتسم |
|
2- ضرب حسن لفظه وحلا فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى. |
3- ضرب جاد معناه وقصرت ألفاظه وهو وإن كان جيد السبك والمعنى فإنه قليل الماء والرونق. |
4- ضرب تأخر معناه وتأخر لفظه ومثل هذا الضرب بين التكلف رديء الصنعة وهذا القول يجعلنا نقف على حقيقة النقد في العصور الأولى للنقد الأدبي فكل ناقد يرفع منزلة الشاعر الذي ينال استحسانه، ويضرب على الوتر الذي يثير أحاسيسه ويميل إلى الضرب الشعري الذي يؤيده، ولهذا جاءت آراء بعض النقاد في أشعار بعض الشعراء متباينة. |
وإذا كان هذا الاختلاف قد ساد العصور الأولى فإننا في القرن الخامس عشر الهجري نعاني نفس المعاناة بل ربما أشد، فنحن نعيش في عالم لا تربط سكانه أية رابطة يمكن اعتبارها حلقة الوصل بين الجميع، وإنما يحس المرء أنه يقطن في غابة أشجارها أعمدة الدخان المتصاعد الذي يحجب الأفق، ويمكن الوحوش البشرية من اغتنام فرائسها، واقتناصها في أحضان تلك العتمة، وبعيداً عن أعين النور التي لم يعد لها وجود، حتى أننا أصبحنا لا نصدق أننا نعيش في عصر الحضارة، بل على النقيض فنحن نعتقد أن هذا العصر ليس إلا عصر غثاء الحضارة الذي يشبه غثاء السيل فالحضارة التي يتمناها الإنسان لما تأت بعد، أو أنها قد أتت منذ زمن بعيد ولم تبقى منها إلا أطلالها التي لم يبقى لها ظلال نتفيؤها، ولذلك ولَّدت هذه الحالة تغيراً سلبياً في سلوك الناس، وتعطلت فيهم كل القيم الإنسانية، وأصبح النقد العربي يساير السلوك العام، كما أصبحت النصوص الأدبية تجتر معطياتها وعطاءاتها من أيدلوجيات متناثرة يغلب على عناصرها التفكك، ولأضرب على التدهور النقد الأدبي في هذه الحقبة من الزمن، وأنه قائم على ما يعتلج في نفس الناقد من شعور نحو النص وصاحبه بالمثال التالي: |
وطني لو شغلت بالخلد عنـه |
نازعتني إليه في الخلد نفسـي |
|
هذا بيت شعر لأحمد شوقي من سينيته الأندلسية والتي مطلعها: |
إختلاف النهار والليل يُنسـي |
أذكرا لي الصبا وأيام أنسـي |
|
وهي قصيدة عارض بها سينية البحتريَّ والتي مطلعها: |
صنت نفسي عما يدنس نفسي |
وترفعت عن جدى كل جبس |
|
البيت تناوله ناقدان أحدهما مصطفى صادق الرافعي فقال عنه: هذا البيت يتمثل به الشبان، وكتَّاب الصحافة، ولم يفطن أحد إلى فساده وسخافة معناه، فإن الخلد لا يكون خلداً إلا بعد فناء الفاني من الإنسان وطبائعه الأرضية، وبعد ألاَّ تكون أرض، ولا وطن، ولا حنين ولا عصبية، فكاد شوقي يقول: لو شغلت عن الوطن حين لا أرض ولا أمم ولا حنين إلى شيء من ذلك فإني على ذلك أحن إلى الوطن الذي لا وجود له في نفسي ولا في نفسه وهذا كله لغو والمعنى يعد من قول ابن الرومي: |
وحبّب أوطان الرجال إليهـمُ |
مآرب قضَّاها الشباب هنالكا |
|
هذا هو الرأي النقدي للأستاذ مصطفى صادق الرافعي – رحمه الله – في بيت شوقي المذكور. فما رأي الدكتور الأستاذ محمد بن سعد بن حسين في هذا البيت؟. |
لقد رد الدكتور على نقد الرافعي بقوله: كأنه – رحمه الله – والضمير في "كأنه" يعود إلى الرافعـي – قد أغفل معنى لو وهي كما يقول النحاة، (حرف امتناع بامتناع) وهذا يبطل رأي أستاذنا الرافعي، ويبقى على قول شوقي جلاله وجماله الذي لا ينقصه سوى هذه المبالغة المتمثلة بكلمة "نازعتني" وإن كان خلواً من التفضيل إلى ما يربطها بـ "لو". أما قوله أي الرافعي: "إن شوقياً أخذ معنى بيت ابن الرومي فدعوى باطلة أيضاً لأن شوقيّاً يجعل الحب للوطن في حين أن ابن الرومي قد جعل الحب للمآرب لا للوطن، فشتّان بين المعنيين". |
فنحن بين نقدين متعارضين حول نص واحد، وسيجد القارىء أمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى تدور في هذا الفلك. |
ولقد تعرضت بعض مقالات الرفاعي لنقود النقاد وتعليقاتهم، وقد تلقفها بصدر رحب، ورد على ما يحتاج إلى الرد عليه، وأثنى على من ساهم بإرشاده إلى ما غاب عنه، ولكنه لا يحب المماحكة والمناحلة، إذا أقتنع برأيه، وهو لا يقتنع إلا بعد الرجوع والاستقصاء والبحث عن الحقيقة حتى يعثر عليها، ومتى ضمن ذلك فإنه يغلق عليه الباب ولا يسمح لرياح التشكيك تنفذ من خلاله بل لا يسمح لها بذلك حتى من خلال ثقوبه، وعبد العزيز لا يكره من ينتقده حتى وإن قسا عليه ناقد ما فأنه يقبل نقده، ويرد عليه إن كانت هناك دواعي للرد أو يحفظه في ملفات خصصت لذلك، ومن المقالات التي تعرضت للنقد مقالة من سلسلة مقالات "وللحديث شجون" والتي كانت تنشر بمجلة "الفيصل" وكانت المقالة تتحدث عن خَلَفِ الجاحظ "أبي حيان التوحيدي" هذه المقالة نشرت بالعدد 90 ذو الحجة 1404هـ ونصها: |
|