شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ب- حبُّ عبد العزيز الرفاعي للقراءة وبداياته الكتابية
لقد تناولت هذا الموضوع بشيء من التفصيل في الجزء الأول عندما تحدثت عن المراحل الأولى من حياته الدراسية، وأوضحت مدى تعلقه بالكتاب، ومدى حرصه على اقتنائه، فإن وقف ضيق ذات اليد عائقاً في تمكنه من امتلاك الكتاب فإنه يسعى جاهداً إلى الحصول عليه ولو عن طريق الاستعارة من زملائه وينكب على قراءته وتلخيصه. إنَّ هذا الحب وإدمان القراءة قد ولَّدا لديه شغفاً متزايداً بعد أن أفاض الله عليه من نعمه فكوَّن مكتبة كبيرة عظيمة موزعة بين مقر سكناه بجدة ومنزله بل دارته بالرياض وسكنه الصيفي بالأندلس.
ولقد كان يرحمه الله مغرماً بقراءة كل كتاب يقع في يده، ويجهد نفسه على فهم محتواه، وكان ذلك دأبه منذ دراسته في المرحلة الابتدائية ولنقرأ قوله في مقالة نشرها في المجلة العربية العدد "101" الصادر في جمادى الآخرة عام 1406 تحت عنوان "عبث الولي" وهو عنوان كتاب مؤلفه أبو العلاء المعري جاء في منتصف المقال هذه العبارة التي نقتطفها من مقال طويل لنستدل بها على صدقه وعشقه للقراءة "لقد قرأت "عبث الوليد" وأنا طالب في الابتدائية ولقد حاولت أن أفهم ماذا يريد أن يقول أبو العلاء فاستعصى عليَّ فهمه، فقد كانت لغته ومحتواه فوق مستواي ولكنني كنت أكابر لأقنع نفسي بأنني قرأت أبا العلاء".
ولعلنا نستطيع أن نقف على بدء تاريخ انطلاقته في القراءة فمتى كانت بداياته في الكتابة؟.
هناك مثل يدور على ألسنة أبناء مكة والزائرين يقول: "أهل مكة أدرى بشعابها" وأنا أقول إن عبد العزيز الرفاعي أعلم منا بمعرفة بداياته في الكتابة فلنرجع إليه ليدلنا فأمامنا كتيّبه "رحلتي مع التأليف" فقد ذكر في الصفحة السابعة منه قوله "وأحسب أن أول محاولة لي لكي أخربش شيئاً في دنيا الأدب، هو أن أصنع أبياتاً على طريقة أبي نواس ليس في لهوه، ولكن في حكمته، بعد أن آل أمره إلى الحكمة أي أنه بدأ الكتابة في سن مبكرة أي قبل بلوغه السادسة عشرة من عمره ولكنها كتابة ذاتية غير صالحة للنشر وهي طريقة لجأ إليها معظم الكتاب إن لم يكن كلهم في مطلع شبابهم وقبل أن تشتد أعوادهم، وتستقيم أقلامهم أسلوباً وتفكيراً فالشاب ينزع في مطلع حياته الأدبية إلى قراءة الشعر والقصص ولا سيما تلك الأبيات والقصص الوجدانية التي تجتذب معشر الشباب وتفجر طاقاتهم الفوارة فيبدؤون إثبات ما يعتلج بصدورهم، ويلامس وجدانهم سطوراً على الورق مليئة بالكلمات العذبة تطفح بصنوف شتى من عبق الرياحين والأزاهير التي اقتطفوها من رياض الكتب التي قرؤوها، ولذلك نجد الواحد منهم يحاول كتابة الشعر، وكتابة القصيدة إرضاءً لتفاعلات داخلية تدفعه بقوة إلى حمل سلاحه الكتابي "وهو القلم والقرطاس" ويسكب مداد قلمه صوراً بلاغية تعبر عن مستوى ثقافته ومدى سعة قاموسه اللغوي، وقد لا يجرؤ على نشر ما يكتبه في بادئ الأمر، ولكنه قد يحمل ما يكتبه إلى من يثق بإخلاصه له ومحبته وقدرته على نصحه إلى الطريق الذي يحقق له الوصول إلى غاياته التي يتوق الوصول إليها. وهذه هي الطريق التي سلكها عبد العزيز الرفاعي فقد بدأ بصنع أبيات من الشعر قال عنها أنها قد لا تكون مستقيمة الوزن ونحن لا يسعنا إلا أن نصدقه فالأبيات التي كتبها لم نعلمها ولم نقرأها ولم يذكرها في كتاب لنحكم على مدى صحتها وسلامتها من الناحية العروضيَّة والفنية أو اللغوية ولكننا سنؤمَّن على ما قال لأننا لم نشهد منه كذباً وإن كنا نعلم أن عبد العزيز الرفاعي كان يميل إلى نفي جدارة ما يكتبه بالنشر فنراه يجيب على سؤال من سأله: لِمَ لَمْ تقم بنشر ما كتبت بقوله: "يحول بيني وبين تحقيق هذه الغاية سبب يسير صغير، هو أنه ليست لي آثار، أو ليس لي أثر، نعم ليس لي أثر أدبي يسعني أن أنشره" وردت هذه العبارة في كتاب "المقالة في الأدب السعودي الحديث" للأستاذ محمد عبد الله العوين صفحة 239 الفقرة (1) من الهامش ثم حاول ممارسة القصة والمسرحية بعد أن قرأ قصة الزباء ملكة تدمر ووزيرها قصير واطلع على قصة المثل "لأمر ما جدع قصير أنفه" والشعر الذي قيل في هذه الحادثة وهو:
ما للجمال مشيهـا وئيـدا
أجندلا يحملـن أم حديـدا
أم الرجال جثما قعودا
وقد أشار إلى ذلك في كتيبه "رحلتي مع التأليف" الصفحة الثامنة والتاسعة حيث جاء فيها قوله: "وأتيح لي أن أقرأ مسرحيات شوقي الشعرية، فحاولت أن أكتب شيئاً في هذا الاتجاه، وكان أن أتيح لي أن أقرأ قصة الزباء ملكة تدمر ووزيرها قصير رأيت أنها صالحة لكتابة مسرحية شعرية وفعلاً حاولت ولا أدري الآن أأكملت تلك المسرحية أم لم أكملها؟ ولا أدري أين مصيرها".
هذا لباب محاولاته الأولى في عالم الشعر وعالم الشعر المسرحي وذلك قبل تخرجه من المعهد العلمي السعودي عام 1361هـ.
وقد أشار رحمه الله بالصفحة العاشرة من كتابه أو بالأصح من كتيبه "رحلتي مع التأليف" إلا أنه كان يساهم في المسامرات الأدبية التي كان يحييها طلاب المعهد العلمي السعودي وطلاب مدرسة تحضير البعثات وكانت مساهمته في تلك الأمسيات تتمثل بصفة خاصة في قراءة قصص من إعداده حتى أطلق عليه زملاؤه في المعهد "قصصي المعهد". وكان يرفض أن تدخل تلك القصص في إطار القصص الأدبية التي يحق لها أن تأخذ مكانها بين المطبوعات العربية بل يراها من الغثاء الذي لا يستحق الجمع أو النشر.
ومن بدايات عبد العزيز الرفاعي في الكتابة محاولته تأليف الكتب المدرسية وقد اتجه هذه الوجهة عندما تخرج من المعهد وعين مدرساً بالمدرسة العزيزية الابتدائية وكلف بتدريس مادة التاريخ أو بالأصح السيرة النبوية فأراد أن يؤلف كتيباً صغيراً يتضمن المنهج المقرر تدريسه في تلك المرحلة بأسلوب سهل مبسط وشد إزار الجد وحاول الحصول على تلك المراجع ووجد العون ممن استعان بهم ولكنه لم يكمل الرحلة بل قطع الحبل في منتصف الطريق، وقد علل ذلك بانتقاله من مجال التدريس إلى العمل الإداري بمديرية التعليم، وربما كانت الأعمال الإدارية لا تسعفه بالوقت الكافي، أو لزوال الهدف الذي كان يسعى إلى تحقيقه وهو إيجاد كتيب للسيرة النبوية يقوم بتدريسه لطلاب المرحلة الابتدائية وزوال الهدف قد يكون سبباً مباشراً في إلغاء السبل التي تؤدي إليه.
وإذا تجاوزنا المرحلة التي استعان فيها الأستاذ عمر عبد الجبار – يرحمه الله – به في مراجعة مؤلفاته المدرسية لأنها لا يمكن إدراجها ضمن بداياته فإننا نجده في الصفحة السابعة عشرة من نفس الكتيب يقول: "كنت وثيق الصلة بمعهدي الذي تخرجت فيه وأعد نفسي من أسرته، فكنت أحرص على أن أشارك في نشاطه الأدبي، بحضور مسامراته، وأذكر أنني قدمت في إحدى هذه الحفلات مسرحية بعنوان "بالمفتشري أحسن". وهو في هذه الفقرة يثبت أن محاولته الأولى في كتابة المسرحية لم تكتمل لكنه هنا أثبت لنا أن تلك المحاولة قد تمخضت بعد سنوات عن كتابة مسرحية مثلت على مسرح قام هو باختيار أعضائها وإخراجها مستعيناً بالأستاذ طاهر زمخشري – يرحمه الله –.
لكننا نقف أمام عقبة كأداء لا يمكننا صعودها وهي عدم ذكر تاريخ هذه الحادثة الذي قد يعطينا الضوء الأخضر لمعرفة البداية الحقيقية لعبد العزيز الرفاعي في مسيرته الكتابية حيث الوثائق التي تحقق هدفنا مفقودة وليس هنالك مستند ما نستطيع الاعتماد عليه لنتخذه نقطة انطلاق غير أنني عثرت في مقالة للأستاذ أحمد محمد الصائغ رثى بها عبد العزيز الرفاعي بعد موته وقد نشرت المقالة في صحيفة البلاد بتاريخ 28/3/1414هـ جاء فيها "وكاتب هذه السطور ممن عرف نشاط ومساهمات الفقيد الرفاعي في مجال الأدب والصحافة منذ عهد بعيد، أي منذ أواخر عهد الملك عبد العزيز – رحمه الله – حين كان الأستاذ الرفاعي يعمل في ديوان نائب الملك في مكة المكرمة، وكان إلى جانب ذلك يسهم في التعاون مع أسرة تحرير جريدة (البلاد السعودية) في عهد رئاسة الأستاذ عبد الله عريف – يرحمه الله – لتحريرها من عام 1365هـ إلى عام 1375هـ.
وقد أورد الأستاذ محمد عبد الله العوين في الجزء الأول من كتابه "المقالة في الأدب السعودي الحديث" صفحة 215 عند الحديث عن المقالة السياسية وذكر من تلك المقالات مقالة عبد العزيز الرفاعي التي حملت عنوان "حادثة دير ياسين يجب ألا تتكرر" وقد نشرت المقالة بالعدد 712 من جريدة البلاد السعودية بتاريخ 16/4/1367هـ.
وفي مجلة المنهل التي صدر العدد الأول منها عام 1355 لم أجد له مشاركة فيها قبل عام 1367هـ وهو موضوع عنوانه "التعليم العام أم التعليم العالي" وقد نشر بالعدد 198 تاريخ ربيع الأول 1367هـ.
ولم أعثر في الوثائق التي عثرت عليها أو استعنت بها من الغير على وثيقة تبين ممارسته الأولى للكتابة الصحفية ولكنني لا أستبعد وجود مثل هذه الكتابة لأن اعتماد جريدة البلاد السعودية في تلك الفترة لعبد العزيز الرفاعي كاتب يوميات ملتزم دليل على أنه قد استوى علماًً وإدراكاً ومعرفة بالعمل الإبداعي الصحفي، وأخذ قلمه طريقه إلى البروز ووجد له قراء ومتلقين يعجبون بما ينشره، وما يعالجه من موضوعات ذات مساس بالمجتمع والوطن، وأن هذه المرحلة إنما جاءت بعد أن تفتقت سنوات من عمره الشبابي عن طاقة من النضج الثقافي تمكنه من وضع قدمه وساقه على أرض صلبة يستطيع السير عليها في طريقه إلى تحقيق طموحاته البعيدة، ولا أستبعد أن تكون هناك مقالات له قبل هذا التاريخ ولكنها لا ترقى به إلى درجة كبار الكتاب وربما كان ذلك أحد الأسباب التي وقفت مشجعة له على عدم جمع تلك القصاصات التي تمثل تلك الفترة من حياته وأقصد بها الفترة التي بدأت منذ تعلقه بالكتابة بعد تخرجه من المعهد العلمي السعودي واشتغاله بمديرية المعارف قسم التحرير متجاوزاً مرحلة عمله مدرساً بالمدرسة العزيزية الابتدائية والتي امتدت من 1/12/1361هـ إلى 12/4/1364هـ فهي مرحلة المعاناة والضغوط التي أحس بقسوة وقعها على صدره لأنه ذاق ما في مهنة التعليم والتدريس من مشاق لا تتناسب مع ما يحصل عليه المعلم من راتب لا يوفر له كامل احتياجاته الضرورية وليس في إمكانه تحقيق طموحاته العريضة التي رسمها في ذاكرته وخطط لها منذ أن عشق القلم وضحى بجزء أو بكل مصروفه اليومي في شراء القلم والدفتر والمحبرة والكتاب.
فمهنة التدريس تشغل كافة وقت المعلم ولا تترك فراغاً وأعني المدرس المخلص الذي يحاول جاهداً أن يطبع صورته في أذهان طلابه وأن يخلد اسمه مكتوباً على جدران قلوبهم. فإن أنجز تصحيح الكراريس عاد لتحضير درس الغد ومراجعته حتى لا يحرجه طلابه المتفوقون بالأسئلة التي تنم عن ذكاء حاد واجتهاد منهم، فقد كانت تلك الفترة غنية بمثل هؤلاء الطلاب الذين يصرفون وقت فراغهم في القراءة الجادة المجدية، ثم يحاولون أن يسبروا غور أستاذهم لتزداد ثقتهم به فيسألونه أسئلة جمة في المادة التي يقوم بتدريسها ليعرفوا من إجابته مدى معرفته وثقافته وعلمه ومدى أحقيته بأن ينال رضاهم وحبهم وتقديرهم واحترامهم له لذلك نجد عبد العزيز الرفاعي قد صرف جل وقته في إعداد كتيب عن السيرة النبوية لتدريسه لطلاب الفصل الذي يتولى تدريس طلابه، كما انشغل في إعداد كتيب عن تدريس مادة الرياضيات لذلك الفصل أيضاً بأسلوب سهل شيق فضلاً عن ما تفرضه عليه الواجبات التعليمية التي سبقت الإشارة إليها وقد حال هذا الوضع دون شك بين عبد العزيز الرفاعي والكتابة الصحفية.
ورغم هذه المشاغل التي فرضها على نفسه ليكون نموذجاً صادقاً للأستاذ العالم الصالح الذي يحب لأبنائه أن يكونوا لبنات طيبة في بناء شاهق عظيم هو المملكة العربية السعودية، رغم كل ذلك كان لهم أسوة في اتخاذ الكتاب صديقاً ورفيقاً ومعلماً ومرشداً فقد بقي كما شب على ملازمة الكتاب ومنادمته في حله وسفره، ولم يكن له سفر إلا إلى الطائف أو إلى المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم .
هذه الصداقة القوية بينه وبين الكتاب هيأت لي الوصول حين صحبته فيها إلى أن أعرف بدايته الصحفية خارج حدود الوطن.
لقد كان من عشاق قراءة مجلة الرسالة التي كانت مشعل الأدب والثقافة في البلاد والتي تعلم على أساتذتها أجيال من أبناء البلاد العربية أصبحوا فيما بعد رواداً يقودون نهضة بلادهم العلمية والأدبية والثقافية وقد كان كتَّابها من نوابغ العصر وعمالقته لم يبخلوا على أبنائهم وقرائهم بما يرون أنه نافع لهم، يزيد من معرفتهم ويقوي ملكتهم ويهيئ أمامهم الفرص لكي يصلوا إلى ما وصلوا إليه يفتحون صدورهم وقلوبهم لما تجود به أقلامهم ويجيبون على أسئلتهم في رفق دون استعلاء أو كبر أو عنجهية زائفة وهكذا يكون العظماء .
وكان من شغف عبد العزيز الرفاعي رحمه الله بالقراءة أنه لا يترك قراءة الموضوع الذي يقع بين يديه حتى يستوعب ما فيه، ويدرك أبعاده ومغازيه ويلم بعجره وبجره، ويستقصي ما تخبئه حواشيه من المعاني والصور الخفية التي يلمسها القارئ من أول قراءة بل يعثر عليها الرجل الصبور الذي لا يعرف الكلل والملل إلى قلبه سبيلاً، وعبد العزيز من هذا الطراز كان يحرص كل الحرص أن لا يضيع وقته هباء، وأن تكون قراءته مفيدة والعائد منها عظيم، ويدون في مذكراته الخاصة خلاصة ما يشد انتباهه ويأسره مما قرأه لعله يرجع إليه ذات يوم أو يكتب عنه في مجلة أو جريدة وهكذا كان عندما اشتد عوده وقوي ساعده وتفتحت مداركه وسهل أمامه ما كان صعباً.
قلت إن عبد العزيز بحبه للقراءة ساعدني على أن أضع يدي على التاريخ الحقيقي لبداية رحلته مع الكتابة الصحفية خارج حدود المملكة.
لقد كان ذلك عام 1363هـ وقد يسأل الكثير وكيف كان ذلك؟ الجواب لا يقبل المجادلة وهو صريح الوضوح لقد قرأ عبد العزيز الرفاعي في مجلة الرسالة العدد 555 الصادر بتاريخ20|2|1944م موضوعاً للأستاذ الأديب الكبير محمد إسعاف النشاشيبي عنوانه "الغناء زاد الركب" وورد في سياق الحديث عن الغناء قول الكاتب "قال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا أبا سعيد؟ فقال: نِعْمَ العونُ الغناء على طاعة الله، يصل الرجل به رحمه، ويواسي صديقه".
عَجِبَ عبد العزيز الرفاعي من تلك العبارة وظن أن فيها خطأ مطبعياً غير مقصود لأنه لم يدر في خلده وهو ذلك الشاب الذي عاش متمسكاً بدينه وعقيدته في وقت لم يكن للغناء في مجتمعه مكان يعلن فيه نفسه، فإن وجد شيء من الغناء فإنما كان يتم في أقبية داخل المنازل لا ينفذ منها الصوت ولا يحضرها إلا القلة فلم يعهد في طفولته شيئاً من هذا القبيل ولذا نراه يسرع ليبدي تساؤله إن لم يكن في الواقع اعتراضاً منه على هذه العبارة التي وردت في مقالة الأستاذ محمد النشاشيبي ولم تقف حريته أمام العبارة "أن الغناء عون على طاعة الرب" في حد ذاتها لكنه لم يصدق أن يصدر مثل هذا الكلام من الحسن البصري إمام أهل البصرة خير الأمه في زمانه فحرر رسالة ورد فيها قوله: كيف يكون الغناء عوناَ على طاعة الرب، وكيف يصل الرجل به رحمه، ويواسي به صديقه؟ وهل هذا الوصف ينطبق على الغناء بالمد أم على الغنى بالقصر كما فهمت؟ وذيل الرسالة بكتابة اسمه عبد العزيز، ثم بعث رسالته إلى مجلة الرسالة، وانتظر مصيرها ولم يطل انتظاره فقد أحال المسؤولون بالمجلة رسالته إلى الأستاذ النشاشيبي ليرد عليها ولكن إكمالاً للفائدة أرى أن أورد نص الرسالة التي بعث بها عبد العزيز الرفاعي لرئيس تحرير مجلة الرسالة الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات ورد الأستاذ النشاشيبي عليها.
 
نص الرسالة
سعادة الأستاذ الأديب الكبير رئيس تحرير مجلة الرسالة .
أحمد حسن الزيات المحترم
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد أورد الأستاذ الجليل محمد إسعاف النشاشيبي في العدد 555 من مجلة الرسالة تحت عنوان "إن الغناء زاد الركب" من "نقل الأديب" هذه الفقرة:
قال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا أبا سعيد؟.. فقال: نعم العون الغناء على طاعة الله، يصل الرجل به رحمه، ويواسي صديقه".
فكيف يكون الغناء عوناً على طاعة الرب، وكيف يصل الرجل به رحمه، ويواسي صديقه؟ وهل هذا الوصف ينطبق على الغناء بالمد أم على الغنى بالقصر كما فهمت؟.
مكه المكرمة عبد العزيز الرفاعي
 
لم يتوان الأستاذ النشاشيبي بعد أن قرأ ما حوته صفحة 339 من مجلة الرسالة العدد 563 تاريخ 24 ربيع الآخر 1363هـ من استفسار موجه إليه من عبد العزيز الرفاعي في الرد عليه.
لم يكن عبد العزيز الرفاعي في ذلك الوقت شخصية أدبية لها وزنها ومكانتها أو معروفة في ميدان الأدب عربياً بل ربما لم تكن معروفة محلياً وعليه فلا يمكننا أن نفسر سرعة مبادرة الأستاذ النشاشيبي بالرد على رسالة الرفاعي احتراماً لمنزلته وتقديراً.
لكنها سمة بارزة كانت تلازم رجالات الرعيل الأول من قمم النهضة الثقافية في البلاد العربية لا يبخلون على سائل أي كان يريد أن يستفيد أو يستزيد لأنهم يرون أن نشر العلم فريضة على كل عالم فهو وسيلة حياة الأمم ورقيها قال الشاعر أحمد شوقي:
بالعلم والمال يبني الناس ملكهـمُ
لم يُبن ملك على جهـل وإقـلال
فكانوا يحملون المصابيح، ويشعلون الشموع حتى يمحوا دياجير الجهالة التي غرقت فيها الأمة العربية فترة طويلة من الزمن، بعد سنوات الانحطاط التي منيت بها.
وكان رد الأستاذ النشاشيبي شافياً وافياً، حيث أورد الأدلة التي تؤكد ما ذهب إليه، من أن ما قصده الحسن البصري رضي الله عنه من قوله: "نعم العون الغناء على طاعة الله الخ". إنما الغناء المعروف وليس غير ذلك. وقد استشهد بعدد من الأدلة وردت في عدد من أمهات الكتب الأدبية، أول هذه الأدلة ما استقاه من العقد لابن عبد ربه حيث رده المنشور بمجلة الرسالة العدد 567 بالصفحة 404 بتاريخ 15 مايو سنة 1944م قوله:
"رجعت إلى ابن عبد ربه وقلت له: أنتَ رويتَ قول الحسن البصري في كتابك "العقد" - واسمه اليوم العقد الفريد – فكيف يكون الغناء عوناَ على طاعة الرب؟ وكيف يصل الرجل به رحمه؟ ويواسي أخاه؟ فتلقيت منه هذا الكلام: إنَّ الصوت الحسن يسري في الجسم، ويجري في العروق، فيصفو له الدم، ويرتاح له القلب، وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة، فمن ذلك: أنَّها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف، وصلة الرحم، والذبِّ عن الأعراض الخ ".
وجئت إلى ابن خلدون، وفاتحته بما قصدته لأجله فأملى عليَّ: "إن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك، فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل معها الصعب، ويزيد ذلك تأثيراً إذا كانت الأصوات متناسبة".
ووجدت عند صاحب كتاب "إنسان العيون" المعروف بـ "السيرة الحلبية" هذه المقالة: "قد شوهد تأثير السماع في الحيوانات غير الناطقة بل في الأشجار، ومن لم يحركه السماع فهو فاسد المزاج، غليظ الطبع".
وختم رده بقوله: "تلكم أقوال جماعة في الغناء، وحيَّا الله أخانا الفاضل المكيَّ، وحيَّا ربْعَه، وحيَّا مواطنَ عظيمةً كريمةً بهر الدنيا منها ذلك الضياء".
ما أوردته هنا ليس إلا مقتطفات مما جاء في ردّ الدكتور النشاشيبي على استفسار الأستاذ الرفاعي وهدفي من إيراد هذه المقتطفات هو التدليل على أن كبار الأدباء في مطلع عصر النهضة الحديثة كانوا لا يستنكفون أن يجيبوا على أسئلة السائلين دون أن يتعرفوا عليهم، رغم أن القارئ لموضوع الدكتور النشاشيبي الأول الذي استفسر عن بعض ما فيه الأستاذ الرفاعي يستطيع أن يدرك الجواب بسهولة. والمقال نشر في العدد 555 من مجلة الرسالة بالصفحة 178 تحت عنوان "نقل الأديب" وهذه النقل متسلسلة بدأها الأستاذ النشاشيبي منذ مدة وكان رقم النقلة التي حملت عنوان "إن الغناء زاد الركب" هو 516 وجاء في صدرها: خرج عمر للحج فسمع غناء راكب يغني – وهو محرم – فقيل يا أمير المؤمنين: ألا تنهاه عن الغناء وهو محرم؟ فقال: دعوه فإن الغناء زاد الركب.
والجملة الأخيرة هي التي أثارت سؤال الأستاذ عبد العزيز الرفاعي غير أنَّ الأستاذ النشاشيبي أورد في مقاله بعد ذلك ما يلي: دخل الشعبي وليمة فأقبل على أهلها فقال: "مالكم كأنكم جمعتم على جنازة؟ أين الغناء والدف؟".
وهنا يبرز السؤال :
أليس من السهل أن يدرك القارئ أن المقصود بالغناء في هذه الجملة هو الغناء بالمد وليس الغنى أي الثراء. فإذا كان الأستاذ النشاشيبي قد أجاب على استفسار الأستاذ الرفاعي وتوسع في إجابته فقد أوضحت الدوافع وراء ذلك وأنه يصور لنا في ذلك الزمن نموذجاً طيباً من النماذج الكثيرة التي ضربها حملة العلم وأرباب القلم لمن أراد الاقتداء بهم .
لكن السؤال الذي انتصب أمامي ولم أجد له إجابة شافية في بداية الأمر وهو: هل عجز عبد العزيز الرفاعي حين قرأ الموضوع في تلك السن من عمره عن فهم ما كانت تهدف إليه كلمة الغناء مع كل العبارات المبسطة المرافقة لها، والكلمات الأخرى التي كانت تلقى عليها الأضواء من قريب ومن بعيد، ربما يقول قائل: إن عمره في ذلك الوقت قد لا يساعده على فهم ذلك، وأنا هنا أستبعد هذه الإجابة فهو يبلغ من العمر عشرين عاماً وفي السنة النهائية من المعهد العلمي السعودي ومثله لن يغيب عنه التفرقة بين الغناء والغنى وقد يقول آخر: إن دراسته في المعهد العلمي السعودي والتي تركز على الفقه في الدين بشكل كبير، وسلوكه الخاص وتربيته المنزلية التي لم تعرف اللهو واللعب، أو حضور حفلات الزفاف غياب كل هذه الأمور عن ممارسته لها حجبت تفكيره أن يصدق أن يكون سيدنا عمر والحسن البصري والشعبي رضي الله عنهم قد قالوا تلك العبارات أو أن يكونوا قد قصدوا الغناء بالمد، وربما كان يعتقد يقيناً أن قصدهم لم يكن لينصرف إلا إلى الغنى بالقصر، والذي يصدق عليه أن يكون زاد الركب، وأنه نعم العون على طاعة الله، فبه يصل الرجل رحمه، وبه يواسي صديقه.
قد يكون لهذه الإجابة وجه من الصحة لكن ما جاء بعد ذلك مباشرة يدفع هذه الإجابة خارج نطاق الدارة ويصبح بقاؤها نشازاً غير مقبول، فالكلمة التي قالها الإمام الشعبي وهو أحد التابعين الأجلاء لا تجعل مكاناً للشك في أن المقصود بالكلمة هو الغناء حيث قال حين دخل وليمة وأقبل على أهلها: مالكم كأنكم جمعتم على جنازة؟ أين الغناء والدف؟.
إنني أستبعد أنَّ فهم ذلك استعصى على عبد العزيز الرفاعي مما جعله يستفسر عن الحقيقة لأن دراسته بالمعهد كفيلة بأن تكون قد سلحته بالمعلومات الإملائية والعلمية التي تجعله قادراً على حل مثل هذه المسائل البسيطة التي لا تحتاج إلى إجهاد ذهني ولا معالجة فكرية مستعصية للوصول إلى الحلول المرضية.
فإذا لم نستطيع الوصول إلى الإجابة التي يمكن أن تقنع رغباتنا، وتريح نفوسنا من كل ما سبق فما هو السبب الذي حدا بعبد العزيز الرفاعي أن يبعث بتلك الرسالة المتضمنة ذلك الاستفسار الذي لم يتوان الأستاذ النشاشيبي في الرد عليه؟. من وجهة نظري الخاصة أن الأستاذ عبد العزيز الرفاعي كان ملماً بذلك تمام الإلمام وكان على يقين ومعرفة تامة بأن المقصود بالغناء التي حملتها الفقرات التي قرأها في "نقل الأديب" للنشاشيبي كانت تعني الألحان والدف والطبول، ولكنه أراد أن تكون فاتحة علاقته بالكتابة الصحفية أمراً يثير انتباه زملائه وأصدقائه ومعلميه ويجتذب أنظارهم ليحقق لنفسه بذلك مكانة في نفوسهم واختار مجلة الرسالة وسيلة لذلك لأنها كانت المدرسة الأولى التي تخرج منها أو فيها آلاف الأدباء والشعراء وكان الأساتذة بها نخبة مختارة من أرباب العقول الناضجة ذات التفكير السليم، والتي تعتبر بحق في زمانها قمماً تشرئب إلى ذراها الأنظار لعلها تكتحل بنورها وتقتبس منه ما يهيئ لها سبل السير إلى تحقيق أهدافها.
ولقد حقق بذلك هدفه ونشرت رسالته بل الأصح لنقل نشر سؤاله الموجه إلى الأستاذ النشاشيبي وفي نشره مكسب عظيم بالنسبة له فقد دلَّ على قبوله، وسلامة وجهة نظره لدى المسؤولين عن ذلك الباب في مجلة الرسالة، فشعر بالاعتزاز والفخر أن يحظى سؤاله بالقبول وينشر في مجلة ذات مكانة مرموقة في العالم العربي لا تستكتب إلا فحول الشعراء وكبار الكتاب ولا تقبل إلا المواضع القيمة المفيدة التي يجني من ورائها القرَّاء المنفعة والفائدة العلمية.
وعندما نشرت الرسالة في عددها 567 تاريخ 15 مايو 1944م رد الأستاذ النشاشيبي على سؤال الأستاذ الرفاعي كاد يطير فرحاً واستبشاراً فقد أصاب الهدف وبلغ ما أراد وأصبح محل تساؤل من قبل أصحابه وأقرانه، ولا أستبعد أن يكون قد حدث حوار مستفيض حول هذا الموضوع.
لقد كان عبد العزيز الرفاعي في هذه الخطوة موفقاً ودل ذلك على ذكائه ونبوغه وحرصه على اتباع الطرق السليمة التي يستطيع أن يبلغ بها مأمن أحلامه بشيء من التأني والتروي واليقظة والحنكة والدراية دون اللجوء إلى استخدام الأساليب الملتوية التي سرعان ما تتكشف عن مساوئ ومنزلقات خطيرة جداً.
إذن لقد كانت هذه الرسالة هي الخطوة الأولى التي خطاها عبد العزيز الرفاعي في ميدان الكتابة الصحفية والتي اتخذ منها مشعلاً يستضيء به في خطواته التي تبعتها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :738  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 19 من 94
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.