أ- المدخل |
الأدب بمعناه العام هو السلوك الحسن وهو مشتق من المأدبة أو المأدبة مشتقة منه والمأدبة هي مائدة الطعام التي يجتمع حولها عدد من الأشخاص يلتزم كل منهم بخلق كريم يرضى عنه من حوله. ثم تطور معنى الأدب إلى التعليم ومن ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي ومن هنا نجد الخلفاء والأمراء والأثرياء كانوا يطلقون على معلمي أبنائهم كلمة "مؤدبين" أي أنهم يقومون بوظيفتين في آن واحد "وظيفة التعليم" و "وظيفة التأديب" أي تربيتهم تربية إسلامية مبنية على أسس سليمة وأخلاق كريمة ولذلك نجد أن بعض الدول تسمى "وزارة المعارف" باسم "وزارة التعليم والتربية" أو "وزارة العلوم والتربية". |
وهذا لا ينفي ما ذهب إليه البعض من أن الأدب يدل على رياضة النفس على ما يستحسن من سيرة وخلق، وعلى التعليم برواية الشعر والقصص والأخبار والأنساب، وعلى الكلام الجيد من النظم والنثر وما اتصل بهما ليفسرهما وينقدهما لأن ذلك القول ينضوي تحت مظلة السلوك الحسن، فالسلوك الحسن يشتمل القول والعمل. |
على أن العصور المتأخرة شهدت تطورات عظيمة في كل المجالات ولعل التخصص كان أشدها بروزاً وامتدت يده إلى الأدب والآداب حيث اقتصرت هذه الكلمة على العلوم والفنون المقعَّدة أي ذات القواعد المكتوبة كآداب المرور وآداب الزيارة والآداب العامة، وأخذ الأدب في العصر الحاضر معنيين هما عام وخاص فالعام يدل على الإنتاج العقلي بصفة عامة ويدون في الكتب أما الخاص فيقتصر على الكلام الجيد الذي يحدث لمتلقيه لذة فنية إلى جانب المعنى الخلقي. ولذلك نجد لفظة "أديب" ذات معانٍ مختلفة حفلت قواميس اللغة العربية بذكرها ومنها: |
الأديب: هو الحاذق في الأدب وفنونه. |
والأديب: هو الآخذ بمحاسن الأخلاق. |
والأديب: هو الحيوان المروَّض المدلَّل. |
الأديب: هو المثقف ثقافة عالية. |
ولعل ما جاء في المعجم الأدبي للأستاذ جبّور عبد النور من تفسيره لكلمة أديب أكثر عمقاً ووضوحاً حيث ورد بالصفحة العاشرة من الكتاب المذكور قوله "الأديب كاتب متمكن من لغة التعبير وقواعدها وأسرار البلاغة فيها وغني بالأفكار والأحاسيس والأخيلة قادر على الإبانة في دقة وأناقة عن خواطره. |
الأديب الحق تفرض فيه سعة من ثقافته العامة، واطلاع على الآداب العالمية، ووقوف على التيارات الفكرية والأدبية والفنية في العالم ومسايرة للعصر، وإحساساً بالقضايا الإنسانية المحركة للمجتمعات والمشاركة في تطوير المجتمع وترقيته. |
ولا يستحق الكاتب صفة أديب ما لم تكن لآثاره ميزات خاصة به وطابع لغوي يفرده عن غيره وأن تتراءى شخصيته وموقفه وخصائصه الفكرية والأدبية من خلال ما يكتب من مقالات أو مصنفات". |
وإذا نظرنا إلى آثار عبد العزيز الرفاعي التي خلفها بعد موته وإلى سيرته الذاتية التي دونها معاصروه في قلوبهم وألبابهم ومشاعرهم وأحاسيسهم ثم سطروها على صفحات الجرائد والمجلات والكتب ثناء عاطراً ورثاء حاراً مشبوباً بالحزن والأسى على فقدان صاحب تلك المجموعة الخلقية التي قل أن تجتمع في إنسان واحد. لوجدنا أن لفظة أديب تنطبق تمام الانطباق بكل تفاصيلها وجزئياتها على عبد العزيز الرفاعي رحمه الله ولا داعي بنا إلى الحديث عن الجانب السلوكي فقد تحدثنا عنه في الجزء الأول مكتفين بما تم اختياره مما نشر في الصحف والمجلات رغم القناعة بأن ما تم اختياره لا يمثل إلا أقل القليل مما كان يتمتع به رحمه الله، ومما خطته الأقلام الأدبية وغير الأدبية وما عبرت به عن ألمها لفقدان رجل يتمتع بصفات كريمة بهرت الجميع، واستولت على مشاعرها وأجمع الكاتبون فيما كتبوا على أن الفقيد صورة فريدة لشخصية فريدة ظهرت في عصر لن تتكرر في عصر آخر. |
لكنني سأحاول في هذا الجزء أن أتناول آثاره الأدبية التي رحل وترك بعضهـا بـين دفـتي كتيب أو ديوان، وبعضها ما زال أضابير وأوراقاً محفوظة باطن ملفات أو أدراج وقد يكون متناثراً هنا وهناك ويحتاج إلى جمع حتى يأخذ طريقه إلى النور ويصل إلى القارئين والمتلقين حتى يتاح للجيل الحاضر والأجيال القادمة فرصة الاطلاع على أدب عبد العزيز الرفاعي نثره وشعره قصصه وخطبه ورسائله. |
ولا أزعم أنني قادر على أن أخوض بحار تحليل قصائده أو مقالاته أو حتى رسائله إلى أصدقائه لأن فن النقد والتحليل ودراسة النصوص الأدبية وبيان ما تشتمل عليه من الصور الإبداعية، والنواحي الجمالية والأهداف النبيلة السامية التي تتعرض لها النصوص كل ذلك يحتاج إلى رجال مؤهلين تأهيلاً علمياً أكاديمياً بالإضافة إلى توفر الذوق الفني والحس الأدبي عندهم حتى يمكنهم الغوص إلى أعماق تلك النصوص التي تقع تحت أيديهم وتحفزهم على دراستها وتحليلها لاصطياد ما تختزنه من اللؤلؤ والمرجان وتقدمه لعشاق الأدب وطلابه عقوداً نفيسة يتهافت على الإقبال عليها الشغوفون باقتنائها المحبون للتطلع إليها صباح مساء يجلون بها عقولهم وأسماعهم وأبصارهم تحفة الناظرين ومورد السائلين بل أعتقد أنها مطلب كل ذي قلم لا يأباها شخص منحه الله قدراً من العقل يميز به الغث والسمين والنافع والضار. |
ولقد أوردت في عبارة سابقة ما يفترض في الأديب لكي يكون أديباً وذكرت عدة أشياء يجب توفرها في كل أديب أحبَّ أن يطلق عليه "أديباً" ومنها أن تكون ثقافته محلقة في كل أفق، وأن يطرق أبواب المعرفة شرقيها وغربيها حديثها وقديمها وأن يطلع على الآداب العالمية وأن يختار منها ما يعينه على الوصول إلى منابع الإبداع حتى إذا اشتد ساعده وبلغ أشده وثبتت قدمه على أرض القدرة على العطاء تدفق إبداعاً يبهر المتلقين ويأسر القراء ويكتم بل يخرس ألسنة وأفواه المتشدقين المتنطعين الذي يلقون شباكهم في المياه الجارية ولو كانت مياهاً تجري من عين حمئة ولا يأنفون بما تصطاده شباكهم مما يعلق بها من الأوضار والقاذورات. |
ومن هنا ندرك أن الأديب يجب أن يكون قارئاً قبل أن يكون كاتباً، والكاتب لا يستطيع الإبداع إن لم تكن لديه موروثات أدبية يكتنزها في ذاكرته يمكنه الرجوع إليها عند الحاجة بل تمده في ساعة العسرة بما يعينه على تخطي الأزمة التي تقف عائقاً في طريق تقدمه وإبداعه. |
والدليل على ضرورة القراءة قول الله سبحانه وتعالى: اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق فابتدأ السورة بالقراءة لأنها مصدر العلم الذي يمكن الإنسان من معرفة ما حوله وما قبله وما سيأتي من بعد رحيله ولن يستطيع أن يخوض بحار العلم إلا بوسيلة قادرة على أن تقله وتمخر عبر بحار العلوم الزاخرة ذات الأمواج المتلاطمة، تلك الوسيلة هي سفينة الصلاح والنجاح والفلاح وهي الكتاب. ولقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالقلم الذي هو وسيلة الكتابة كما أقسم بالكتابة التي هي السفينة المأمونة لينال المرء الذي يتخذها مركباً له كل ما يتمناه من ثمار العلوم والآداب مما جاء في كتب المتقدمين والمتأخرين والتي تمده متى نضجت أفكاره وتلاحمت معارفه وأخذت تصب روافده كلها في مصب واحد كان في إمكانه حينئذ أن يفجر ينابيع تتدفق أدباً وعلماً ينتفع به الآخرون ويضعه القارئون في الدرجات العلى من سلم الرواد الذي تزخر بهم وبأمجادهم سجلات الخالدين . |
|