مدْخَــل |
بعد أن ودّع المشيعون عبد العزيز الرفاعي إلى مثواه الأخير توافد المعزون إلى داره الكائنة بحي الأمير فواز السكني بجدة لمدة ثلاثة أيام متتالية شهدت داره خلالها جموعاً كثيرة من سكان جدة ومكة والطائف والمدينة والرياض قدموا لمواساة أسرته وتقديم أحرَّ التعازي بوفاة عميد أسرتهم، وكانت الأماكن المعدة لاستقبال المعزين ممتلئة بصفة دائمة، فما تغادرها طائفة حتى تزدحم بأخرى، وكان ذلك دليلاً كبيراً على حب الجميع له، ولِمَ لا؟ فهو تلك الشخصية التي عُرفت أو بالأصح عرفها الآخرون بكل الصفات الحميدة التي قلما تجتمع في شخصية واحدة، فهو الذي تنطبق عليه هذه الخصال الفاضلة التي أشار إليها الشعراء، فهو قليل الكلام كثير الاستماع وكثيراً ما تمثل بهذه الأبيات لأبي تمام : |
من لي بإنسـان إذا أغضبتـه |
وجهلت كان الحلم رد جوابه |
وإذا صبوت إلى المدام شربت من |
أخلاقه وسكرت مـن آدابـه |
وتراه يصغي للحديث بطرفـه |
وبقلبه ولعله أدرى به |
|
ولقد أشرت في الحديث عن ندوته في الجزء الأول عن حسن استقباله لضيوفه ولمن يقابله ممن يعرف ومن لا يعرف حتى وهو سائر في الطريق ولعل بيت زهير بن أبي سلمى الذي قال في مدح هرم بن سنان ينطبق عليه. قال زهير: |
تراه إذا مـا جئتـه متهـللاً |
كأنك تعطيه الذي أنت سائله |
|
وكان مفضالاً لا يضن على سائل ولا يبخل، لا بمال ولا بعلم فلا يسأله سائل إلا وأعطاه سؤله مما آتاه الله، وما سأله متعلم أو مريدٌ من مريديه إلا وأجابه، وربما نفع بعلمه غيره بأسلوب غير مباشر حيث يضع نفسه موضع السائل بحيث يوقظ همم المسؤولين للتعرف على الإجابة الموجهة إليهم وما يقصد من وراء ذلك ربحاً ولا غنماً إلا امتثالاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما آتى الله أحداً علماً إلا أخذ عليه الميثاق ألاَّ يكتمه. وهو من القلة الذين يطلبون العلم للعلم لا سيما في زمن أصبح للمادة نفوذ كبير على سير كل المجالات بما في ذلك العلم، فطالب العلم في العصر الحاضر يجعل الهدف من تحصيله الكسب المادي، فتراه بعد تخرُّجه وحصوله على مؤهل علمي يفتح له أبواب العمل، يسرع إلى كل طريق يمكنه من الحصول على الغنم المادي الذي يهيئ له أسباب النعيم، دون أن يحرص على بذل هذا العلم الذي تعلمه، وأن يدرك أن هذا العلم ما هو إلا وديعة لديه وهو مؤتمن عليها، وعليه أن يصرفها على أهلها وهم طلبة العلم وفي هذا الصدد يقول الشاعر : |
إني رأيت الناس في عصرنـا |
لا يطلبون العلم للعلم |
إلا مباهاةً لأصحابـهِ |
وعدة للغش والظلـم |
|
ونستعيذ بالله من زمن سلك فيه طلاب العلم هذا المسلك واتخذوا منه حبائل لاصطياد المحتاجين إليه . لكن عبد العزيز الرفاعي أنموذج آخر، بل ربما يصح القول: أنه أنموذج فريد بين الرجال، فما عهدته منذ تعرفت عليه واتصلت به إلا مخلصاً لمن أراد أن يتعلم، ناصحاً لمن طلب النصح، ولمن رآه ولمس فيه حاجَة للتوجيه والإرشاد، فما وقف مكتوف اليدين ولا مغمض العينين، ولا حائر الفكر، ولا مطبق الشفتين أمام المواقف التي تتطلب منه إبداء النصيحة والرأي والتوجيه. |
وهو يحرص دائماً على السؤال عن المحتاجين ويبدأهم بالنوال والعطاء، قبل أن يمدوا أيديهم سائلين، لأنه أدرك أن السؤال مذلة، ولذا عزفت نفسه منذ صغره عن السؤال رغم أنه كان يقاسي مرارة العيش، ولعله تعلم منذ نعومة أظفاره أربع خصال من كنَّ فيه كمل دينه وهي: أن يقطع رجاءه مما في أيدي الناس، وأن يسمع شتم نفسه ويصبر، وأن يحب للناس ما يحب لنفسه، وأن يثق بمواعيد الله، ولقد اجتمعت هذه الخصال فيه، وإنّا لندعو الله أن يجعله ممن كمل دينهم، ويدخلهم الله الجنة واسع رحمته ويحشرنا معهم ولعله يقول إذا أصبح وأمسى: |
ولم أرَ كالمعروف أمـا مذاقُـهُ |
فحلو وأما وجهـه فجميـل |
|
ولقد تناولت هذه الجانب بشيء من التفصيل معتمداً على ما جاء على ألسنة من رثوه من أحبته ورواد ندوته وتلامذته وعارفيه وأقرانه ولداته، وإنما حاولت هنا أن أبين سبب كثرة عدد المعزين بالحضور مباشرة أو المحادثة هاتفياً أو بالتعزيات المرسلة بطريق "الفاكس" ولقد رأيت فيمن رأيت من المعزين كثيراً من الأمراء والوزراء والسفراء ورجالات الدولة ورجال الأعمال ممن يصعب علي حصرهم أو بالأصح تذكر أسماؤهم فهم كثر، وذكر بعضهم دون البعض الآخر يسبب حرجاً فجزى الله الجميع خيراً، يقول الشاعر العربي: |
ولا شيءٌ يدوم فكن حديثـاً |
جميل الذكر فالدنيا حديــث |
|
ويقول شوقي: |
دقات قلب المرء قائلـةٌ لـه |
إن الحيـاة دقائـق وثـواني |
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها |
فالذكر للإنسان عمـر ثانـي |
|
فذكر الإنسان بعد موته بالدعاء له والمغفرة سبب في خلوده أجيالاً وأحقاباً، وهذا شعر صادق يغترف معناه ولفظه من الحديث الشريف الذي جاء فيه "إذا مات أبن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" والدعاء للميت من ابنه أو غير ابنه جائز ومستحب. |
وبعد موت عبد العزيز الرفاعي رحمه الله تسابقت الأقلام والمحابر والأحاسيس والمشاعر إلى رثائه لما تختزنه لهذا الرجل من محبة واحترام وتقدير، اعترافاً بفضله ونبلهِ، وصدقه في معاملته وفي سلوكه. |
وحملت الصحف والمجلات المحلية كثيراً من المقالات والقصائد التي صاغها الكتاب والشعراء والعلماء والمثقفون، ممن تربطهم بعبد العزيز الرفاعي رابطة نسبية أو ادبية أو فكرية أو شعرية أو وظيفيـة أو غيرها من الروابط التي كشفت وفاته عنها. |
وحيث سبق أن اخترت بعض فقرات من المقالات النثرية التي دبجها كاتبوها وحملوها عبارات الأسى والندم وإظهار ما كان يتمتع به الفقيد من كريم الصفات ومحاسن القيم فإنني سأتحاشى ذكر هذه المقالات مرة ثانية، وسأورد بعض قصائد الرثاء التي قيلت في الفقيد، معتذراً لمن لم تذكر قصيدته لعدم تمكني من العثور عليها واعداً إياهم بأنني في حالة العثور عليها سأضمها إلى هذا الجزء في طبعته الثانية. |
|