مَا قَـبل الودَاع |
قبل موعد تحرك موكب رحيل عبد العزيز الرفاعي في رحلته الأخيرة إلى مقر إقامته المؤقتة "الحياة البرزخية" أي قبل ميعاد وفاته بسبع سنوات، أحسَّ ببعض الآلام تنغص عليه صفو حياته، فشرح ذلك لأعزِّ الناس وأقربهم إلى نفسه فنصحوه بالسفر إلى أمريكا لإجراء الفحوص الطبية اللازمة ولتلقي العلاج - إن لزم الأمر - فذهب إلى هيوستن وهناك بعد الفحص تبين أن لديه معضلة تحتاج إلى عملية جراحية فلم ينشرح صدرُه لذلك فأجَّل اتخاذ أي قرار عدة أيام وهنا يحسن بي أن أترك بقية القصة ليكملها الأستاذ الشاعر أنس عبد الرحمن عثمان وهو شقيق الدكتور أسامة عبد الرحمن الشاعر المبدع، إذ جاءت في مقال له عنوانه "أيام مع الرفاعي" نشر بجريدة الرياض في 13/4/1414هـ قوله تكملة للعبارة التي استعنت بها في التوطئة لهذه القصة: |
"ثم أقام مأدبة في الفندق الذي يقيم فيه لكل أصدقائه ومعارفه هناك، وكان يومها في أوج ابتهاجه، وفي أثناء الحفل أفادني بأنه استخار الله وقرر ألا يجري العملية، وزرته في اليوم التالي فسألني عن رأيي فقلت له: بالمقياس الأرضي أنصحك بإجرائها وما فعلته أنت مقياس سماوي، لا يمكن أن أنصح بخلافه، ثم سألني عن عمر النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاته فقلت: ثلاث وستون سنة فقال ضاحكاً: "أنا الآن أربع وستون سنة" عندئذٍ أكبرت عميق إيمانه، ووثيق اطمئنانه" وإلى هنا ينتهي حديث الأستاذ أنس عبد الرحمن. |
وبعد عودته من أمريكا، عرج على جدة في طريقه إلى الرياض، وعلم الأستاذ الفاضل عبد المقصود خوجة بعودته واطمأن على صحته، فأقام له حفل تكريم لعودته بالسلامة إلى أرض الوطن، مكللاً بالصحة والعافية، ودعا إلى تلك الحفلة التي تم انعقادها مساء يوم الاثنين التاسع من رجب عام 1407هـ وحضرها كثير من عشاق الأدب والثقافة ومحبي عبد العزيز الرفاعي والمحتفِي الأستاذ عبد المقصود خوجه والذي سبق له أن احتفى بعبد العزيز الرفاعي عام 1403هـ ضمن من احتفى بهم في ذلك العام وهو العام الذي سنّ فيه سنته الحميدة المتمثلة في تكريم الرواد في الأدب والثقافة والفنون والتجارة والهندسة وكافة المجالات، التي ينبغ فيها المبدعون من أبناء المملكة، أو من أبناء الدول العربية الشقيقة والدول الإسلامية. |
وأما حفلة تكريمه لعبد العزيز الرفاعي بشفائه مما تعرض له من توعك صحي، فقد جاء تعبيراً لما يكنه المحتفِي للمحتفَى به من الود الخالص والإخاء. ولقد سبق للمحتفي أن احتفل بكثير من أحبائه بعد شفائهم مما اضطرهم إلى ملازمة الأسرَّة البيضاء، ومن أولئك معالي أمين مدينة جدة السابق الدكتور محمد سعيد فارسي والأستاذ صالح محمد جمال رحمه الله. |
وتكررت زياراته بعد ذلك سنوياً لأمريكا وألمانيا وإسبانيا، وكان معظمها لإجراء فحوصات طبية. ولم يظهر لأحد من رواد ندوته ما يعانيه من آلام، بل لم تظهر دلائل تبين أنه يعاني مرضاً ما، أو بالأصح تحمل مفاتيح يهتدي بها إلى معرفة ما تخفي بشاشته من كتمان، لما يكتوي به، بل كان منظره يشير إلى أنه مكتمل الحيوية والنشاط، يمارس أعمالَه في مكتبه وفي زياراته الأسبوعية واليومية لأصدقائه ومعارفه وذويه. |
ولقد سألته ذات مرة عندما أخبرني أنه مسافر لإجراء فحوصات طبية، تلبية لأمر الطبيب الذي نصحه بزيارته كل ستة أشهر وكان سؤالي له يدور حول ماهية المرض الذي يشكو منه فقال: "إنه البروستاتا" فقلت له دون أن ينصرف عقلي إلى تأويل بعيد، بل ربما قلت ذلك في براءة أو بلاهة: إن مرض البروستاتا من الأمراض البسيطة التي أصبح علاجها أمراً هيناً؟. وسكت - رحمه الله - عند ذلك، ولم أزد على ذلك حرفاً. |
مضت السنون تُمسِك التالية منها بأذيال السابقة، دون أن يفطن أحد مقدار قسوة المرض الذي ألقى بكلكله على جسد عبد العزيز الرفاعي، حتى وهن منه العظم، وأحس أن الخطر قد تفاقم، وأن الموت يحدق به، ولكنه لا يدري متى يحين، وأخذت استعداداته للقائه تزداد، وهو يزداد إيماناً واطمئناناً. |
وفي شهر شعبان عام 1413هـ أرسل النادي الأدبي بجدة خطابات خاصة لبعض الأدباء يطلب منهم المشاركة في حفل التكريم الذي سيقيمه لمعالي الشيخ عبد العزيز الرفاعي، وحدّدَ موعداً لذلك هو اليوم الثاني عشر من شهر شوال عام 1413هـ وكنت أحد الذين اختارهم للمشاركة، وكان هذا التكريم هو أحد مراسم الوداع لرحلته الأخيرة، حيث ألقى - رحمه الله- في ليلة الاحتفاء به قصيدة عصماء نعى نفسه فيها، وكأنه أحسَّ بدنو أجله إذ جاء فيها قوله: |
سبعون يا لَلهـول أيـةُ حقبـةٍ |
طالتْ ورانَ على الرحيق الصابُ |
سبعون تغتالُ الليالـي صفحـتي |
فينمُّ عن آثارهِنَّ إهاب |
تعبتْ من الألم السنونُ وأغلِقَـتْ |
بيني وبين أطايبي الأبواب |
سبعون قد وفد الشتاءُ يزورنـي |
والنار قد خَمدتْ وليس ثقـاب |
حَنَّت إلى عبَق الترابِ جوانحـي |
لا غروَ يشتاق التـرابَ تـراب |
|
ولقد أشار إلى هذه القصيدة كثير ممن نعاه ورثاه، ولقد قرأها عليَّ في مكتبه بجدة، قبل إلقائها عندما حضرت إليه لأطلعه على الخواطر التي أعددتها، لأتشرف بإلقائها ليلة تكريمه، ولأظفَر منه ببعض توجيهاته وملحوظاته، فقرأ عليَّ هذه القصيدة ليرى تأثري بها فكان يقرأ البيت وهو ينظر إلي من خلف نظارته، وكنتُ أحس بمدى التشاؤم في أبياتها، ولكنني لا أظهر ما يدل على تأثري بما اشتملت عليه بعض أبياتها من مدلولات واضحة على شعوره، بأنه يقترب رويداً رويداً من ساعة الصفر ليومِ رحيله. |
ورغم إحساسي بذلك لم أشعره بشيء يثير انتباهه، كيلا أزيد شعوره بقسوة المرارة، التي قد يجلبها بلْ يجلبها فعلاً التشاؤم لصاحبه، لكن الأمر بدا واضحاً وهو أن الرجل أخذ يشد عدة سفرهِ ويحزم أمتعتَه لرحلة طويلة الأمد. |
وما أحسست به من شعور، عند قراءته تلك القصيدة شعر به الكثيرون ممن استمعوا إليه ليلة تكريمه وهو يلقيها في قاعة النادي الأدبي بجدة، ويجدر بي هنا أن أختار بعض النماذج التي تحدثت عن تلك القصيدة التي نعى الرفاعي نفسَه فيها. |
قال الدكتور بهاء الدين عبد الرحمن الأستاذ المساعد بكلية التربية للبنات بأبها، والذي كان يعمل في دار الرفاعي، قبل ذلك في مقال نُشِرَ له بجريدة عكاظ بتاريخ 28/3/1414هـ بعنوان "عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله -": لقد صدق حَدْس أستاذنا الكبير الأستاذ - رحمه الله - ووقع ما كنت أخشاه، وأتوجس منه، فقد قرأ علي الأستاذ رحمه الله قصيدته التي أنشأها ليلقيها في الحفل الذي أقامه نادي جدة تكريماً له، وكان من أبياتها البيت التالي: |
حنَتْ إلى عبَق الترابِ جوانحـي |
لا غروَ يشتاقُ التـرابَ تـراب |
|
وقد دعوت له عند سماعي ذلك البيت بطول العمر، ولكن يبدو أن الإحساس بدنو الأجل، هبة من الله تبارك وتعالى يهبها من يشاء من عباده، لتكون لهم فُسْحة التوبة والإنابة إلى الله تعالى، ولذلك وردت الاستعاذة من موت الفجاءة في بعض الأدعية المأثورة. |
وفي جريدة البلاد تاريخ 25/3/1414هـ نشر الأديب الشاعر عمران محمد عمران مقالاً عنوانه "ومات الرفاعي" وتطرق في الموضوع إلى تلك القصيدة فقال: "وعدت أتذكر قصيدة له، تعد من عيون الشعر وهي قصيدته التي قالها بمناسبة تكريمه بنادي جدة الأدبي، وعنوانها "سبعون" وهي معبرة عن أحاسيسَ وجدانيةٍ طافت بخيال الشاعر. |
لقد كان شاعرنا الفقيد يُحس من خلال حروف القصيدة بشيء يعتلج بداخله يُحس بهواجسَ تَحُوكُ في نفسه ويَزخَر بها صدره. كانت القصيدة تُعبّر عن شيء قريب. |
وطَوَيْتُ القصيدةَ على مضضٍ وقلت في نفسي : إن الرفاعي يرثي نفسه سابقاً أقرانه الشعراء". |
وفي جريدة الرياض الصادرة يوم 2/4/1414هـ مقال عنوانه "الرفاعي وجه مشرق بين أدبائنا" بقلم مسلم بن عبد الله المسلم جاء فيه "وكأنه [أي عبد العزيز الرفاعي] - طيّبَ الله ثراه - في أواخر عمره قد أحسَّ ببوادر توحي بتوديع الحياة، حيث تلمِسُ هذا الاتجاه واضحاً في قصيدته "سبعون" التي ألقاها في حفلة تكريمه في النادي الأدبي بجدة، والتي جاء فيها قوله، وكأنه يرثي نفسه: |
سبعون قد وفد الشتاءُ يزورنـي |
والنار قد خَمدتْ وليس ثقـاب |
حَنَّت إلى عبَق الترابِ جوانحـي |
لا غروَ يشتاق التـرابَ تـراب |
|
والأستاذ الأديب الشاعر حسن عبد الله القرشي، أشار إلى هذه القصيدة أيضاً، وما اشتملت عليه فقد ذكر في مقال نشر له بجريدة الحياة بتاريخ 5/4/1414هـ عنوانه "حنَّ إلى التراب تراب" جاء فيه "ولقد كان آخر العهد به، يوم كرَّمه نادي جُدَّةَ الثقافي، وتوالى الخطباء في ذكر مناقبه، وكان يتلقى الثناءَ المستطاب عليه شاكراً خَجِلاً، ثم ألقى كلمة رائعة اختتمها بقصيدة عصماء يصور فيها مراحل العمل وكيف أن العمل قد فاجأه فإذا به على مشارف السبعين، وقد ردد ذلك في قصيدته عديد المرات، وكان أحد أشطار هذه القصيدة هذا الشطر: |
حنَّتْ إلى عَبق الترابِ جوانحـي |
|
ثم جاء الشطر الآخر: |
لا غروَ يشتاقُ الترابَ تُـراب |
|
فكأنما كان عزيزنا عبد العزيز يحس بدنو الأجل، فكانت الإشارة واضحة وجارحة، تنم عن رضا بقضاءِ الله حينما يحين قضاؤه". |
وفي صحيفة عكاظ الصادرة بتاريخ 2/10/1993م كتب الشاعر الشريف منصور بن سلطان، عضو النادي الأدبي بجدة وصاحب دار الشريف للطباعة والنشر، مقالاً عنوانه "الصالحون يؤذنون برحيلهم" تناول القصيدةَ التي نعى الرفاعي فيها نفسه حيث جاء في ذلك المقال قوله: |
"نعم بالأمس القريب، كنا نحتفل بتكريمه في النادي الأدبي الثقافي بجدة، تتوالى الكلمات، ويترادف الثناء، وهو في صمت المتلقي النابه، جبينه يتصبب عرقاً من تواضعه، حتى جاء دورُه فيبتسم ابتسامته المعهودة، ويرسل نظراته الثاقبة، في جنبات القاعة، يتلفت يميناً وشمالاً كأنما هو يبحث عن عبارات تواضعه، الذي يخجل التواضع، فتحدث حديث العظماء، وَشَكر شكر الأوفياء، والكل في صمت الوقار، يسمع حتى أفضى بما أسماه سراً بكلماتٍ أراد بها انبثاق الابتسامـة من ذلك الصمت فكانت المضحكـة المبكية وبدأ في إلقاء قصيدته "سبعون" |
لقد عبر فيها باختصار عن رحلة حياته، وأذن فيها برحيله، وأبرز قمة تواضعه وحدّد فيها مَنْهَجَه". |
وفي الأربعاء الأسبوعي الصادر بتاريخ 6/4/1414هـ كتب الأستاذ محمد علي قدس مقالاً عنوانه "ورحل الفيلسوف" جاءت في ثناياه، هذه العبارة التي تحدثت عن القصيدة، التي حملت كلماتها نعي عبد العزيز الرفاعي لنفسه: |
"رحم الله الأديب الكبير عبد العزيز الرفاعي، لم أكن أدرك سر كلمته، في تلك الليلة، التي قدم بها لقصيدته (سبعون) وإن كنت أدركت شيئاً واحداً، وهو أن الأستاذ الرفاعي كم كان عظيماً وفيلسوفاً. كان يستشف الأمور ببصيرة، وحسن تفكير، فقال وكأنه يذيع سراً لم يطلعه على أحد: لقد بلغت السبعين وإني أخطو في العشر الخطيرة من العمر. فهل كان يدرك أن الموت في أعتاب هذه السنوات قادم وأن العمر يقف عند السبعين؟". |
على أن هذه القصيدة، لم تكن الشيء الوحيد الذي يدل على أن الرفاعي - رحمه الله- قد نعى نفسه قبل وفاته، بل هناك ما يقوي هذا الرأي وهو أكثر وضوحاً، ذلك هي رباعيته التي نشرها في جريدة المدينة، يرثي بها صديقه وزميله في الدراسة وأقرب لداته إليه وهو الشيخ أحمد محمد جمال - رحمه الله- الذي سبقه إلى الدار الآخرة بثلاثة أشهر وعدة أيام، والرباعية هي: |
تقاطر صحبي يجرون إلى الغيـب |
فما بالكم خلّفتموني يا صَحْبِـي؟ |
وكان وثيقُ العهد بيني وبينكـم |
تواصلَ هذا الحبِّ في البعد والقرب |
فبالأمس شدَّ الرحلَ أحمدُ تاركـاً |
شذاه عبيرَ المسكِ والصنْدَلِ الرطْب |
رويدَكم إني على الإثـر قـادمٌ |
فشأنكم شأني ودربكـم دربـي |
|
وإذا كانت قصيدة "السبعون" التي ألقاها ليلة تكريمه بنادي جدة الأدبي، قد لقيت كثيراً من التعليقات والتعقيبات عليها بعد وفاته، فإن هذه الرباعية قد حظيتْ هي الأخرى بكثير من الإشارة إليها من رجال الأدب والثقافة. وقد جعلها بعضُهم من الدلائل القاطعة لإحساس عبد العزيز الرفاعي بدنو أجله، لا سيّما إذا علمنا أنه قالها قبل وفاته بثلاثة أشهر، وهو على سرير المرض، يصارع الآلام ويقاسي المرارة، ويعاني معاناة شديدة، من آثار الأدوية الكيماوية التي كان يتلقاها في مستشفى "آخن" بألمانيا. |
ومن تلك التعليقات نقتطف ما يأتي: |
كتب الدكتور أحمد خالد البدلي مقالاً عنوانه "أبو عمار فقيد العلم والأدب" نشره في جريدة الرياض بتاريخ 26/3/1414هـ جاء في الفقرة الأخيرة منه: "ولقد رثى أبو عمار نفسَه يوم مات رفيق دربه وصديق عمره أحمد محمد جمال -رحمه الله- في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة عام 1413هـ وكأنه كان يودعنا إذ قال: |
رويدَكم، إني على الإثـر قـادم |
فشأنكم شأني ودربكـم دربـي" |
|
لقد صدق الدكتور أحمد البدلي فيما كتب فإن القارئ لتلك الرباعية بل للبيت الأخير منها، والذي خاطب به لدِاته الذين سبقوه إلى الدار الآخرة، ومنهم الأستاذ سراج خراز والأستاذ صالح محمد جمال، والأستاذ أحمد محمد جمال وغيرهم. في ذلك البيت نلمِس قوة الإحساس واليقين والطمأنينة إلى اقتراب الأجل، فاستخدام كلمة "رويد" التي تعني هنا اسم فعل أمر بمعنى تمهلْ، وجملة الأمر جملة إنشائية، لا تحتمل الصدق ولا تحتمل الكذب، وجملة الأمر كجملة النهي جمل طلبية فيها ظلال الشرط بارزة، بل يعتبرها الكثير من النحويين جملة شرطية، تتضمن طلباً وجواباً، فعبد العزيز الرفاعي في الشطر الأول من هذا البيت كان يقول لصحبه انتظروني آتكم، وللتأكيد على سرعة قدومه إليهم، واللَّحاق بهم، استخدم في جواب الطلب، جملة بدأها بحرف التوكيد، وهو إنَّ، وربما أوحت إليه بذلك الحالة المرضية، التي كان يخضع للعلاج من مسبباتها، في تلك الفترة، وما كان يختزنه في ذاكرته، من معلومات عن المرض، الذي أوهنه، وسمع عنه، وقرأ الكثير عن ضحاياه، الذين يرسله الله إليهم ليمتحنَهم، وليكفِّر عنهم سيئاتِهم وليغفَر لهم، فيستشْري في أجسادهم، ويضعف بنيتهم، ولا يرغب في مفارقتهم، حتى يقضي الله عليهم بأمره، وكان أمر الله مفعولاً. |
لعلَّ تلك الأفكار، كانت تزوره كل عشية وضحاها، وتجسَّد في عينيه ما يعاني ليزداد ثقة بربه، فيدعوه ضارعاً أن يمن عليه بالرحمة، ويطلب كل من سأله عن صحته، أن يمد يديه إلى الله داعياً له بالرحمةِ والشفاء. |
أما الأستاذ حاتم بن حسن قاضي، فقد نشر في الأربعاء الأسبوعي الصادر بتاريخ 29/3/1414هـ مقالاً عنوانه: "الرفاعي الأديب المتواضع الزاهد" جاء في الفقرة التي قبل الأخيرة من المقال قوله: "ولقد كان - عبد العزيز الرفاعي - في ثنايا مَرْثِيَّته في صديقه الأستاذ أحمد محمد جمال، إشارة واضحة على أنه سيلحَق بصاحبه، وأنه يتساءل لماذا تركه صديقه/ الأستاذ أحمد محمد جمال وهما اللذان ظلا زمناً متلازمين ومتزاملين في أيام الصبا والشباب والكهولة". |
أما الأستاذ محمد عبد الستار المشرف على ملحق الأربعاء الأسبوعي الذي تصدره صحيفة المدينة فقد كتب في عموده الأسبوعي الموسوم بـ "إضاءة" مقالاً شافياً ضافياً حول هذه الرباعية، وجعل عنوانه "السلام عليك يا صاحب العباراتِ المجنحَة" ولما تحمله كلمات ذلك المقال من صدق ووفاء، فقد آثرتُ أن أثبتَ أكثرَه حتى لا يفقِد أثره إذ ظَلَّ سجين الصحف السيارة التي لا يعبأ القراء بها، بل سُرعان ما يلقون بها إلى صناديق القُمامة، وهذا العمل في الواقع، وأعني به رمي الجرائد ضمنَ المخلفات إلى صناديق الزبالة يعتبر نقطة سوداء في مسيرةِ المجتمعِ في زمن الحضارةِ والتقدمِ. |
أما مقال الأخ الأستاذ محمد عبد الستار والذي أحببتُ أن أثبته، فهو كما نشر بالملحق الأربعائي الأسبوعي الصادر بتاريخ 29/3/1414هـ. |
"مات عبد العزيز الرفاعي، وكأنه - رحمه الله - يحضر نفسه ويهيئها للحظة الفراق هذه، إذ لم تكن مرثيته الشعرية في صديق عمره الأستاذ أحمد محمد جمال إلا تمهيداً لهذه الساعة الصعبة التي أراد الله له أن تحين وفاته في اليوم الذي تعوَّد فيه أن يلتقي بأصدقائه وأحبابه عبر خميسيته المعروفة، وكأنَّ روحه بذلك أبت أن تغادر هذه الدنيا دون أن تودع أحب الناس إليها. |
مات عبد العزيز الرفاعي بعد أن مهد بتلك الرباعية خبرَ وفاته حتى لا يُثيرَ مشاعر محبيه الكُثر، ويفتح عليهم أبوابَ الحزن دفعة واحدة، فقرر أن تكون تلك الأبياتُ بمثابة إشعار تدريجي بالخبر المفجع حتى يجنبهم آثار الصدمة. |
هذه هي أخلاقيات عبد العزيز الرفاعي، التي لم نجدها تختلف حتى في تعامله مع مثل هذا الحدث العظيم، إذ لم يشأ أن يترك هؤلاء الذين انغمسوا في حبه يعيشون الفجيعة، فراح يكتب تلك الأبيات بلغة الإنسان المودِّع، إلى درجة أن أغلب الذين قرؤوها على صفحات "الأربعاء" هزتهم معانيها، وجعلتهم يتهامسون بينهم وبين أنفسهم، إن كانت هذه الرباعية التي قالها تجسِّد شعوراً روحياً خارقاً يعيشه الرجل بدنو أجله، وقرب منيَّتِه. |
ولا غرابة في أن نرى مثل هذا الشعور وهذا الإحساس يَطْغى على كل من قرأ تلك الأبيات، إذ أن اللوحة التي رسمها الرفاعي كانت دقيقةً وصادقةً، وساطعة مثل ضوء الشمس وخاصة في بيتها الأخير الذي يقول فيه: |
رويدَكم، إني على الإثـر قـادم |
فشأنكم شأني ودربكـم دربـي |
|
وشاءت إرادة الله أن يلحق برفيق دربه أحمد محمد جمال ويسير في إثره، فالرباطُ الذي كان بينهما كان شديداً وموثقاً، منذ عهد الطفولة، وظلَّ كذلك إلى أن توفاهما الله. |
ولعل هذه العلاقة الروحية بين الرجلين، تٌفَسَّر لنا هذا التوافق العجيب الذي جعل شاعرية الشاعـر الكبير عبد العزيز الرفاعي تتوقف عند هذه الأبيات الأربعة ويلحق به قبل أن يكمل أربعة أشهر من تاريخ وفاته. |
إنه القدر وإنها الصدف بل هي شَفافية الروح عنده التي أكرمه بها الله في تَجَل رباني عظيم فجاءت توقعاته محفوفةً بمشيئة الله وفي الموعد الذي لم يَسْبقه أو تَسْبقه أي إرادة أخرى غير إرادة المولى عز وجل". |
والمقالة في جملتها، لا تحتاج إلى تعليق أو إيضاح، فكل كلماتها وعباراتها، قناديل مضيئة، وعناقيد فاتنة، وباقات من الورود شذية، متفتحة تُهدي شَذاها إلى روحِ عبد العزيز الرفاعي. |
والذي أحب أن أضيفه هنا، أن الأبياتَ الأربعةَ هذه هي من البحر الطويل الذي يلجأ إليه الشعراء عندما يريدون التعبيرَ عن عظيم الأمور فهو يتيح لهم أن يُبرزوا ما يجولُ بخواطرهم في صور شعرية متناسقة الأبعاد، مجنحة الكلمات، راقصة الحروف، وهَّاجة التلاوين، تأخذ بألباب القراء والمتلقين، وتسكب في أعماقهم أشهى وأعذبَ ما تعصره الكتب والدواوين. |
ولقد وُفِّق عبد العزيز الرفاعي في رباعيته وشدَّ انتباه قرائه وحرَّك مشاعرهم وهيَّأهم للحدَث الذي أحس به وأشعرهم بقرب حدوثه، حتى لا تأخذَهم الصدمة على غِرة. |
ولذلك وبعد هذه الأبيات التي قالها بعد قصيدته "السبعون" أصبح معارفه وأصدقاؤه ومحبوه، يتوقعون قرب نبأ وفاته، ولكنهم لم يستطيعوا أن يعلموا ميعادها، فذلك من علم الله، فلكل أجلِ كتاب، لا يعلمه إلا رب العزة والجلال، أما الإنسان فلا يعلم أين يولد؟ ومتى؟ وكيف؟ وماذا يكسِب غداً؟ وأين يموتُ؟ ومتى يموتُ؟ أسئلة كثيرة حُجِبتْ عن المخلوقين مهما ملكوا من آلاتٍ حديثة، ومستحضرات طبية، ووسائلَ علمية. |
|