الرّحـلة الأخـيرة |
لكل رحلة سمات تميزها عن سواها، فالرحلة العلمية تختلف اختلافاً بيناً عن رحلة الاستجمام والاستمتاع، ورحلة الاكتشاف تسلك منحى يبعد كثيراً عن المنحى الذي تسلكه رحلة الإشراف والمراقبة، ورحلات الرغبة غير رحلات الرهبة، وعلى أية حال فالرحلات تنضوي جميعاً تحت ظلال السَّفر، الذي يشتق منه السفور والإسفار والسِّفر والسفارة، وكل هذه الكلمات تحمل في طياتها معاني الوضوح والجلاء. |
وإذا عزم المرء على القيام برحلة، فإنه يُعِدُّ لها ما يلزمه من أدوات ومعدات وزاد، إلا أنه في الرحلة الأخيرة يترك زاده وراءه، ولا يحمل معه من أمور الدنيا شيئاً. ذلك أن زاد الرحلة الأخيرة هو التقوى، ولا زاد لها غيرها، فمن أخذ منها بقسط وافر، هيأ له في رحلته ما ينفعه في مراحلها المتعددة، حتى يسكنه الله في رياض الجنة، ونعمَ المصيرُ ونعم التقوى زاداً ونعم الإيمان رفيقاً، وقد أشار الرسول العظيم محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم إلى ذلك حين قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" وهو زاد المؤمن التقي الذي يرحل رحلته الأخيرة، والإنسان في رحلته الأخيرة لا يستطيع تحديد موعد قيامه بها ولا يدري المكان الذي يبدأ منه هذه الرحلة. |
يأخذ المرء في الاستعداد بها منذ فترة طويلة عند الذين يخشون ربهم ويخافونه ويؤمنون بيوم البعث والنشور ومحاسبة كل إنسان على ما كسبَت يداه، أما الذين أعمى الله بصائرهم، وحرمهم من نعمة الإسلام والإيمان، فإنهم يسعون في هذه الأرض كالأنعام بل هم أضل سبيلاً. فهم لا يرون الحياة إلا لهواً ولعباً وتغريهم الأماني، ولم يعدوا للموت عدته، ولم يستعدوا لما بعد الموت، ويعتقدون أن الموت هو النهاية للإنسان، وليس بعدها حياة ولا نشور. غير أن عبد العزيز لم يكن من الصنف الثاني الذين يمكن وصفهم بصنف غير المبالين. |
لقد بدأ عبد العزيز الرفاعي في إعداد العدة لهذه الرحلة، منذ أن أدرك أن الحياة ظل زائل، وأن الإنسان غير مخلد على ظهر هذه الأرض، سوف يأتي يوم يفارق فيه أهله ومحبيه وزوجته وبنيه إلى عالم يجب الإيمان به إيماناً لا يشوبه شك، بما ذكر عنه في كتاب الله وما تحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك نجده يُلزِمُ نفسه بإتباع الحسن من القول والفعل مقتدياً بسنة خير خلق الله عليه أفضل الصلاة والسلام، وسنة أصحابه رضوان الله عليهم. فما شهدت عليه الأيام بما يشوه سمعته وسيرته، ولقد تحدث عنه أنداده وزملاؤه ورصفاؤه وأساتذته، فما ذكروا عنه إلا كل جميل، شاهدين له بمكارم الأخلاق، يرسم لنفسه بكل جوارحه، طريقاً في عالم المثاليات، ويبدو جلياً تمسكه بهذا النهج القويم مما ورد في كتيبه الموسم بـ "رحلتي مع التأليف"، حيث جاء بالصفحة السابعة منه العبارة التالية: "وأحسب أن أول محاولة لي لكي أخربش شيئاً في دنيا الأدب، هو أن أصنع أبياتاً على طريقة أبي نواس، ليس في لهوه، ولكن في حكمته، بعد أن آل أمره إلى الحكمة، فقد وجدت في ديوانه أبياتاً في الحكمة والزهد". وأشعار الحكمة تعني الدعوة إلى مكارم الأخلاق، وإلى التحلي بالفضائل، وإلى إتباع سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وسنة التابعين الورعين المهتدين، وسنة العلماء الصالحين، الذين ساروا على أثرهم، واقتدوا بهم، واتخذوا منهم سراجاً ومنهاجاً، ومناراً ومِنْبراً يترسمون خطواتهم، ويحذون حذوهم، حذوِ القدة للقدة، ونمت الرغبة عنده وترعرع هذا الحب في الحياة العملية مبتدئاً رحلته فيها بالتفكير في تأليف كتيب يتحدث عن سيرة النبي المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام وهو وإن لم يكمل هذا العمل في بداية حياته العملية فقد أخرج بعد ذلك كتيباً أسماه "الرسول كأنك تراه - حديث أم معبد" وكان الدافع الحقيقي لتأليف هذا الكتيب هو الوقوف على الخصائص العظيمة والسمات الكريمة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحلى بها، والتي بهرت أصحابه ومَنْ عرفه، حتى أعداؤه الذين جاهروا بعدائهم له لم يخفوا محاسنه ومكارم أخلاقه. وقد صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتيب عام 1403هـ، على أنّ هناك سلسلة من المقالات نشرها - عليه رحمة الله - في مجلة "التضامن الإسلامي" تحمل عنوان: "الرسول كأنك تراه - حديث ابن أبي هالة" عام 1402هـ وهي إحدى عشرة مقالة بدأت بالعدد الصادر شهر جمادى الآخرة عام 1402هـ وانتهت بالعدد الصادر شهر ربيع الثاني عام 1403هـ، أي في العام الذي صدرت به الطبعة الأولى من مؤلَّفه "الرسول كأنك تراه - حديث أم معبد"، لكن هذه المقالات لم تجمع وتصدر في مؤلف ولعله - رحمه الله - كان يأمل أن يضيف إليها إضافات أخرى ولكن المنية أدركته قبل أن يحقق حلمه هذا، والمنية إذا ألقت شباكها حول من تطلبه لم يجد مهرباً للتخلص منها، على أنه أشار إلى هذا إشارة عابرة، عند الحديث عن المكتبة الصغيرة، في مؤلفه "رحلتي مع التأليف" حيثُ ورد بالصفحة الأربعين منه قوله: "وكان في عزمي وما أزال، أن أواصل السير في شرح أحاديث الشمائل، ولكني انصرفت إلى اهتمامات أخرى تتوازعني بالرغم من نزوعي إلى هذا الجانب الروحي المحبب إليّ..". |
ولعل من وسائل إعداده للرحلة الأخيرة ما رواه عن إحسانه وعونه ومساعدته الكثير من أهله وأصحابه وما نشر عنه بأقلام من أحسن إليهم اعترافاُ بالفضل رغم انه ألح عليهم بعدم البوح بذلك، ولنقرأ فيما يلي نبذاً من رسائل حملت شيئاً من هذا القبيل دون أن نتعرض لذكر أسماء المرسلين. |
المثال الأول: |
هذه مقتطفات من رسالة وردت ضمن بريد الأستاذ عبد العزيز الرفاعي الذي لا ينقطع من مصر يقول فيها مرسلها: "خانتني قدماي ودخت وكنت كأن جاذباً خفياً يجذبني من خلفي لأقع على ظهري وحين حاولت النهوض انكببت على وجهي وزاغ بصري فلم أر شيئاً وجرح حاجبي الأيسر وأصيب أحد أضلاعي وحملتني فتاة بمعونة بعض المارّة إلى بيتي ونصح الأطباء بأنه لا بد لي من لزوم الفراش شهراً كاملاً على الأقل وقد بقيت في شبه ذهول وغيبة عن الوعي طَوال ثلاثة أسابيع. |
وجاءني كتابك المؤرخ 2/5/1402هـ فأيقظني من ذهولي إذ تيقنت أن الخير لا يزال في الدنيا، وأن الحياة جميلة، وتستحق أن تعاش، ما دام فيها أمثال الصديق البار عبد العزيز الرفاعي صاحب بيض الأيادي". |
المثال الثاني: |
ومن رسالة أخرى بعث بها من مَدَّ له عبد العزيز الرفاعي يدَ المساعدة فما كان منه إلا الإعراب عن شكره واحترامه فكتب هذه الرسالة: |
أستاذنا الكبير معالي الشيخ عبد العزيز الرفاعي حفظه الله وحماه
|
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وبعد: |
فإنني لست أدري كيف أبدأ رسالتي هذه لمعاليكم. أأبدؤها شاكراً على ما بعثتم به وهو مبلغ الـ2000 دولار والتي كانت مفاجأة لي، إلا أنني أرى أن كرمكم الجديد هو منة تضاف إلى مننٍ سابقات، فجزاكم الله عني خير الجزاء. |
على أية حال فإنني قد تسلمت كريم كتابكم، والشيك المرسل معه، داعياً الله ألا يحرمنا منكم وأن يجزيكم عن شخص محبكم خير الجزاء. |
ملحوظة: سوف أنفذ ما أمرتم به من ناحية كتمان الأمر والله سيجزيكم خيراً ويمتع معاليكم بالصحة على الدوام. |
المثال الثالث: |
وهذه مختارات من رسالة أخرى |
|
أخي وصديقي الحبيب معالي الشيخ عبد العزيز الرفاعي حفظه الله
|
أردُّ تحيتكم بأحسنَ منها، وأصفي لكم مودتي واحترامي وأعبر لكم عن أشواقي وصدق عاطفتي وبعد: |
فإن البلسمَ الذي حملَتْه إليّ رسالتُكم الكريمة، فداوى جرحاً غارزاً في الأعماق، بعد انهيار منزلي وضياع كل محتويات مكتبتي إثر العدوان الإسرائيلي على لبنان سيظل معلماً من معالم الإخاء، الذي تشدون به أزر أحبائكم وصدى في نفسي للاحترام الكبير الذي أبادلكم إياه ولما جبلت عليه هويتكم النبيلة من معانٍ إنسانية شقيقة. |
المثال الرابع: |
ومن رسالة أخرى وردت ضمن بريده الذي يَرِدُ يومياً من شتى الأقطار مثقلاً بالخطابات والرسائل والجرائد والمجلات والطلبات أحياناً نقتطف ما يلي: |
|
سعادة الأخ الكبير والأديب العظيم السيد الأستاذ عبد العزيز الرفاعي.
|
تحياتي وأطيب أمنياتي وموفور شكري وتقديري وبعد: |
فقد تلقيت اليوم رسالتك الكريمة، وسعدت بها، وقد كان إحساسي دائماً بأنك رجل عربي شهم أصيل، تقف إلى جانبنا في الملمات. |
أجزل الله ثوابك، وأسعدك وأصلح بالك، ومتعك بموفور الصحة مع عميق الشكر والتقدير. |
المثال الخامس: |
وهذا مثال أيضاً يدل على كثرة عطاياه وإحسانه إلى من هم في حاجة إلى الإحسان، ومساعدته لمن يتعرض لأزمة مالية في مسيرته الأدبية أو المعيشية ممن يعلم عن تعرضهم لنكبات الزمن، وصفعات الحوادث، وتقلبات الأيام، تقول الرسالة في طياتها: |
|
"سيدي الأخ النبيل الكريم العزيز عبد العزيز الرفاعي حرسه الله تحية صافية من القلب.
|
تلقيت رسالتكم المؤرخة في 5/9/1401هـ تسألونني فيها عما إذا كان وصلني منكم صك ماليّ مساندة منكم. |
صدقوني إذا قلت لكم إنني مبلبل الفكر، معطل التفكير والذاكرة بسبب القصف في بيروت ليلَ نهارَ، أفر من شارع إلى شارع. |
لقد بعثت إليكم بكتاب أشكر لكم مناصرتكم بإرسالكم الصك الذي تذكرون وأكرر لكم شكري أيها الأخ الحبيب. وثقوا بأن صلتي بكم روحية لا سرابَ ولا غُبارَ عليها، بل هي صافية نقية نقاء قلبكم الكبير..". |
ولعل في هذه الأمثلة التي ذكرناها ما يكفي، لأننا لو أطعنا رغبتنا في ذكر المزيد منها، لاستوعب ذلك عدداً كبيراً من الصفحات، يمكن ملؤها بذكر أشياء أخرى لا تقل أهمية ونفعاً للقارئ. |
وإذا ألقينا نظرة فاحصة لهذه الأمثلة وما اشتملت عليه، لوقفنا أمام صور من صور الإيمان الخالص، المستمد من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. فلقد كان عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - حريصاً على التمسك بأهداب الدين تمسكاً خليقاً بانتمائه إلى خُلِق السلف الصالح. فقد قرأنا في بعض الأمثلة أنه كان يُوصي مَنْ يحسن إليه، بعدم ذكر ذلك، وعدم الإشادة أمام الآخرين، وهذا يدل على تمسكه بما ورد في القرآن الكريم في سورة الإنسان، فيما أعدّه الله للأبرار حيث قال: إن الأبرارَ يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً. عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً. يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً. ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً. إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً.. وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: اتقوا النار ولو بِشقِّ تَمْرة. |
لقد كان عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - محباً للخير، مغلقاً للشر، ساعياً لبذل الإحسان رغبة في الحصول على رضا الله سبحانه، وباسطاً يده بالمعروف للمحتاجين، قبل أن يمدوا إليه أيديَهم، وهو إذ ينفق في سبيل الله، لا يُتْبعُ ما ينفق مناً ولا أذى لأن المن والأذى يبطلان الصدقة أي يذهبان بأجرها ويحرمان صاحبها من الفوز بما أعده الله للمحسنين والمتصدقين قال سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس فضرب للمن والأذى بعد الصدقة، مثلاً بالرياء وهو نوع من أنواع النفاق. |
وعبد العزيز الرفاعي جُبِل على حب الخير وعدم الإساءة وهو إن مدَّ يَدَ المساعدة والعون لأخيه المسلم فإنما يقصد من وراء ذلك الظفر بمحبة الله. لا يقصد من بعض ما يرد في رسائله التي يستفسر فيها ممن ترسل اليهم عن وصول ما سبق له أن تصدق به عليهم دون أن يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى الصدقة، لا يقصد من ذلك أن يمنَّ عليهم وإنما يهدف من ورائه الاطمئنان إلى أن ما جادت به نفسه قد وصل إلى مستحقيه ليخفف عنهم بعض ما يكابدون من مشاق الحياة وظروفها القاسية، وهكذا تبني الرجال الأكارم منازل لها في قلوب الآخرين. قال الشاعر (المتنبي): |
على قدر أهل العزم تأتي العزائـم |
وتأتي على قدر الكـرام المكـارم |
|
وإذا رجعنا إلى كتاب الله العزيز وإلى سورة البقرة، لوجدنا أن الله سبحانه قد أوضح في أربع عشرة آية 261 إلى 274 من سورة البقرة بيانات صريحة لضروب الصدقات وكيفية إعطائها، وما يعقبها وما يتحقق من التصرفات المتعلقة بها، وقد كان الرفاعي من الذين يختارون الأفضل في ذلك فيميل إلى صدقة السر بحيث لا تعلم يساره ما أنفقت يمينه، في هذا المجال، ولا يبطل ما ينفق بالمن والأذى ويختار لصدقته المال الطيّب وأن يكون إنفاقه ابتغاء مرضاة الله. |
رحم الله الرفاعي لقد كان مثالاً رائعاً عظيماً في كل شيء حتى في إنفاق ماله. |
|