شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
النَـدوة الخميسـيَّة
المقدمة:
درج كثير من طلاب العلم بمكة، على عدم الاقتصار في رحلتهم العلمية على المدارس الحكومية، بل جعلوا من حلقات شيوخ العلم بالمسجد الحرام مدارس أخرى إضافية، يتلقون فيها أنواعاً شتى من ضروب العلم الديني واللغوي. إذ كان المسجد الحرام وما زال مدرسة كبرى، بها جميع التخصصات فيما يتعلق بالعلوم الدينية والعلوم العربية، والذين يتولون التعليم فيه رجال أفاضل، يقدمونه لمن يرغب التزود منه دون مقابل، وإنما يرجون الثواب من الله، وأن يجزيهم على عملهم خيراً. وكان عبد العزيز الرفاعي أحد أولئك الطلاب الذين عشقوا العلم، وانصرفوا إلى الحصول عليه من كل المنابع الثرّة، التي كانت تتدفق في ساحة المسجد. فقد جاء في كتَّيبه "رحلتي مع المكتبات" صفحة 47 قوله: "ومنه اشتريت - يقصد بذلك الشيخ عبد الصمد فدا - (مغني اللبيب) بعد أن انضممت إلى حلْقة السيد أمين كتبي - يرحمه الله - لدراسة النحو".
والحلقات الدراسية وفصول الدراسة في المدارس الحكومية أو النظامية، والمسامرات الأدبية والاجتماعات الخاصة، تعتبر من أعظم السبل لتوثيق عرى المحبة، وتآلف القلوب، وعبد العزيز الرفاعي قد ألف كل هذه الوسائل وحضرها وشارك فيها، وعرف قيمتها المادية المعنوية، وبقيت عالقة بذهنه وظل يمارسها بعد تخرجه من المعهد العلمي والتحاقه بالعمل الوظيفي، فقد كان يحرص على الاجتماعات الأدبية، ويكوِّن مع بعض أصدقائه أمسيات أدبية، على النمط الذي كان يسير عليه الرواد بالمملكة وخاصة بمكة، فقد ذكر الأستاذ الشاعر طاهر زمخشري في الكلمة التي ألقاها في حفل تكريم الشيخ عبد العزيز الرفاعي بدارة الشيخ الفاضل عبد المقصود محمد سعيد خوجة بتاريخ 5/7/1403هـ التي وردت مفصلة بالجزء الأول من الاثنينية صفحة 389 حيث قال في ذلك الوقت: كانت دار كل أديب دار ندوة أو نادياً، وأذكر على سبيل المثال دار الأستاذ محمد حسين زيدان، دار الأستاذ عزيز ضياء، دار الأستاذ محمد عمر توفيق، دار الأستاذ أحمد قنديل. وكل ليلة ينتظم عقد الإخوان في منزل أحدنا، وتدور أحاديثنا حول الأدب والثقافة".
ومثل هذه الاجتماعات والندوات تبقى آثارها في الأعماق، توقظ المشاعر كلما خبث جذوتها، وتحرك العاطفة كلما مالت بها الحياة إلى الركود، وإذا ما حدث ذلك تجددت في النفس الذكريات، وتعطشت إلى الماضي فأخذت تعيد بريقه وتصلح من شأنه، حتى يظل ذلك الماضي قائماً شاهداً لها يقرأ على المتلقين والمشاهدين أروع الصور عنها، وعن منجزاتها وعطاءاتها، في تلك الحقبة من الزمن. وقد تحدث عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - عن بعض المكتبات التي كانت له - منذ تعلقه بالكتاب - مركزاً مفضلاً للاجتماع بأنداده وقرنائه، فقال في الصفحة الخامسة عشرة من مؤلفه "رحلتي مع المكتبات": "وكان يلي دكان الشيخ حسن فدا دكان صغير، وهو دكان الصديق "عبد الحليم الصحاف" الذي أصبح فيما بعد "مكتبة الثقافة" وكان هذا الدكان في عهديه الأول والثاني مركزاً مفضلاً عندي للاجتماع وقت العصر مع لفيف الأصدقاء مؤسسي مكتبة الثقافة التي كان لها دور فعال في تنشيط الحركة الثقافية".
وجاء في الصفحة العشرين، من نفس المؤلَّف قوله: "وكان يدير المكتبة - ويعني مكتبة عبد الكريم الباز - الأخ الصديق "عبد الله العرابي" الذي لا يزال وثيق الصلة بالكتب، صديقاً للأدباء، وفيَّا لمهنته حفيَّا بها، وطالما اتخذنا مكتبته في باب السلام الصغير مركزاً لاجتماعاتنا، وخاصة مع الصديق الوفي الأستاذ عبد الله الغاطي أحد الأدباء من جيلنا، وكان العرابي لا يضن علينا أحياناً بإعارة بعض الكتب خصوصاً تلك التي تندر نُسَخُها. وعندما يؤرَّخ للأدب يجب أن يؤرخ لمكتبته على أنها ملتقى للأدباء من جيلنا، كما كانت مكتبة الثقافة. وإن كانت علاقتنا بهذه الأخيرة أكثر لصوقاً.
وليس بي حاجة إلى تعداد من كان يغشى مكتبة الأخ العزيز "عبد الله العرابي" وما ضمت من أصدقائه ولداته الشباب، وإلا فلا يصح لي أن أغفل ذكر الصديق الحميم الشاعر الكبير الأستاذ حسن عبد الله القرشي فقد كانت له في هذه الجلسة الصدارة - وكان له مكان مرموق، وهو عند صديقنا "جلدة ما بين الأنف والعين" كما قال الشاعر القديم".
وجاء في الكلمة التي كتبها الأستاذ حسن عبد العزيز جوهرجي بملحق الأربعاء تاريخ 13/4/1414هـ بعد وفاة عبد العزيز الرفاعي ما يلي: "لقد سعدت بمعرفة الأستاذ الراحل منذ عام 1365هـ عندما كنت أجتمع به مع أصدقائه الخلص، الأستاذ صالح جمال وأحمد جمال - رحمهما الله - وعبد الرزاق بليلة وعبد الحليم صحاف وحسن أشموني وغيرهم".
كما جاء في كتاب الاثنينية الجزء الأول صفحة 412 من خلال كلمة عبد العزيز الرفاعي ليلة تكريمه في دارة الأستاذ عبد المقصود خوجة قوله - رحمه الله -: "لعله قَدْ سَهَا، أي الشاعر طاهر زمخشري - رحمه الله - عن أن يذكر لقاءاتنا في بيت الشيخ عباس قطان، وفي بيت آل العظمة، وكان الأستاذ طاهر زمخشري أديباً قد أخذ يقرض الشعر، وكانت لنا جلسات أو سهرات ممتعة على مجلة الرسالة، وكان يعرض علينا فيها شيئاً من شعره.
وفي مؤلفه الصغير "رحلتي مع التأليف" قال - رحمه الله - في الصفحة السابعة عشرة تحت عنوان "محاولة في المسرح": "وخلال عملي في مديرية المعارف، كنت وثيق الصلة بمعهدي الذي تخرجت فيه، وأعد نفسي من أسرته، فكنت أحرص على أن أشارك في نشاطه الأدبي، بحضور مسامراته في أمسيات الخميس أو في حفلاته الكبرى، كحفلات التخريج".
لقد كان عبد العزيز الرفاعي منذ صغره متعطشاً للمعرفة، تعطش الصحارى لمياه الأمطار، لكن هناك فروقاً بينه وبين الصحارى، فهو يسعى إلى المنابع ليرتوي منها ما شاء، ويسعى إلى أماكن الجدب فيعطي، فما كان ضنيناً بما وَعَى بل كان يسير على النهج الأسمى، ويتقيد بالمثل العليا، ويعطي الحكمة حقها من الالتزام. ومن الحكمة أو الأقوال المأثورة: المقولة التي تقول: "أحبَّ لأخيك ما تحب لنفسك" فبالقدر الذي يطلب من غيره أن يجود عليه بالمعرفة، فإنه يرى الواجب الأدبي يقضي عليه بأن يجود على سواه بمثل ذلك، وزيادة ممن يحتاجون إلى التزود من علمه وأدبه بشيء مما أفاء الله عليه به.
وقد كسب من وراء ذلك مساحة رحبة من الشهرة، في الأوساط الأدبية داخل المملكة، وقد حظي بهذه الشهرة قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره، وليس هناك أصدق دليل على هذا القول مما جاء في الاثنينية الجزء الأول صفحة 399 على لسان الأستاذ عبد الفتاح أبي مدين، حيث قال: "معالي الصديق عبد العزيز الرفاعي من أشراف الرجال، ومن فضلائهم، ومن أكرمهم خلقاً، ومعرفتي به ترجع إلى ما قبل خمس وثلاثين سنة، ويعود الفضل في ذلك لله أولاً، ثم للشيخ محمد الحافظ الأستاذ سابقاً بمدرسة العلوم الشرعية الذي يسعى إلى الخير ويدل عليه. فحينما تركت المدينة المنورة إلى جدة أوصاني بأن أتعرف على الصديق الأستاذ الرفاعي، وسعيت إلى الأستاذ الرفاعي في مكة، وبدأت علاقتي به في مكة من عام ألف وثلاثمائة وثمانية وستين للهجرة، وكان الفارق بيننا كبيراً فهو رجل في النيابة وأنا رجل صعلوك أعمل في الجمارك، ولكن الفوارق عند الصديق ذي الخلق الكريم العالي الدمث لا توجد في قاموسه، ولا في معارفه، فقد كان يسعى إليَّ في جدة في بيت من لبن تارة في الصحيفة، وتارة في الكندرة، وتارة يمرُّ بي في مقعد صغير في أحد بيوت جدة القديمة، وكان يجالسني على خسفة أو على حنبل".
وفي تصوري أن هذه الزيارات المتكررة قد تمت بعد انتقال عمل عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - من مكة إلى جدة، إذ حاول أن يوجد له أمسيات أدبية، يقضي شطر يومه مع نخبة من الأدباء والمثقفين، يتحاورون ويتناقشون في مواضيع شتى من المواضيع الثقافية التي كانت تشغل الساحة الأدبية في تلك الفترة، ولقد كان خلال إقامته في جدة يكثر زيارته إلى منزل السيد علي حسن فدعق، ويلتقي هناك بمجموعة من زملاء الحرف والكلمة. كما كان يزور ندوة الشيخ سالم بالعمش التي تحظى في كثير من الأوقات بحضور كثير من رجال الأدب والثقافة السعوديين، ومن أدباء الجالية اليمنية والحضارمة، وعبد العزيز الرفاعي كان يطرق أبواب المعرفة، ويبحث في كل صوب عن مواردها، ولا يجد حرجاً في السؤال عنها، ثم يقصدها ليتزود منها إن وجد عذوبة وشفاء في مائها.
وإذا قرأنا المقال الذي كتبه الأستاذ عابد خزندار، رثاء في الشيخ عبد العزيز الرفاعي، ونشره في جريدة عكاظ تاريخ 28/3/1414هـ تحت عنوان "العزيز الذي فقدناه" لقرأنا في نهاية العمود الأول من المقال الفقرة التالية: "عرفته لأول مرة (أي عبد العزيز الرفاعي) في مكتبة عبد الله عرابي في مطلع باب السلام الصغير ولكنه على صغره وضيق شريعته كان كنز مكة المعرفي كتباً وأدباء، وكانت مكتبة عبد الله عرابي فذة بين المكتبات؛ ليس بما تحتويه من كتب معظمها تراثي ولكن لأنها كانت ملتقى ومنتدى يومياً لصفوة الأدباء في ذلك العصر الذي أراه قريباً وقد يراه غيري بعيداً".
وفي العمود الأسبوعي الذي يكتبه الأستاذ الأديب عبد الله صالح حبابي تحت عنوان "أناس. وأحداث" جاءت هذه العبارة تتحدث عن عدد من الشباب الذين تجمعهم شلّة الصيف بالطائف في الأربعينات من القرن العشرين الميلادي "كان عزيز (شلته) الحميمة الشلة التي ائتلفت في مكة المكرمة وانتظم عقدها في الأربعينات من رجال لكل منهم سماته المميزة؛ أسماء لامعة ومضيئة منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر: عبد الرزاق بليلة، حسين عرب، حسن قزاز، محمد عبد القادر فقيه، صالح جمال، أحمد جمال؛ وتحوم حولهم أسماء كانت تستأنس بهم وتأنس إليهم: أحمد زكي يماني، محمد فدا، عبد العزيز السالم، عبد الوهاب عبد الواسع، كامل سندي، أمين جاوه، عبد الغني فدا، عمر فقيه، صالح جداوي، سليمان فدا، فائق صواف، رشاد نويلاتي، عبد الله يسلم، وكاتب هذه السطور".
وهذه المجموعة لها في نفسه مكانة خاصة، فذكريات اجتماعية بهم مضيئة في ذاكرته لم تستطع الليالي بظلامها الدامس، ولا الأحداث بظفرها ونابها أن تمحوها أو تزيلها من مخيلته؛ ولذا نجده يبادر بكل شيء يعثر عليه عندما يقوم بالبحث في أضابيره الكثيرة التي تكدست داخل الحقائب والكراريس ويكون له صلة بتلك الذكريات الشبابية والندوات الأدبية.. يبادر بإزالة ما علق بها من غبار، ويرسله لمن يكون بها أجدر، معلقاً عليها بكلمات رقيقة تحمل سمات الحب والوفاء والإخلاص، وفي كثير من الصور التي قد يطلع عليها القارئ بين دفتي هذا الكتاب، مواقف تجمع بين بعض هؤلاء الشباب الذين جمعتهم دروب تنضح بالتقى والحب والعلم والأدب، والتطلع إلى المستقبل وبذل المزيد من الجهد لتحقيق المآرب والغايات العظيمة التي تحققت لهم بطموحاتهم المدعومة بالعزم والتصميم والعطاء.
الهدف من إنشاء الندوة:
لم أعثر على نص مكتوب بخط الشيخ عبد العزيز الرفاعي - تغمده الله برحمته - أو بخط غيره، إملاء
منه، يثبت الهدف الذي قاده إلى فتح دارته لاحتضان عشاق الأدب، وطلاب العلم والثقافة، ليفيدوا ويستفيدوا وليشيعوا العلم بين الجميع، ورغم أنه يجيب عن الأسئلة التي توجه إليه حول الندوة، بأنها لا تعدو أن تكون مجلساً يضم الأخوة والأصدقاء، يتبادلون فيها شتى أنواع الحديث، دون أن تصطبغ تلك الجلسة بأية صبغة أخرى. وهي إجابة تحمل في طياتها التواضع اعتقاداً منه أن الإسهاب في وصفها قد يدفع الآخرين إلى أن يتصوروا أنَّ ذلك بمثابة دعاية لها أو أنه بفعل ذلك يسعى إلى الشهرة، وهو أسمى وأرفع من ذلك، ولكنّه التواضع الذي جُبل عليه.
إذن فما هو الدافع الذي كان وراء قيام عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - بفتح دارته كل مساء خميس، والإنفاق عليها من دخله الشهري، الذي كان عند إنشائها لا يتجاوز راتبه؟ لقد كان الهدف الرئيسي والذي لمسه روادها، دون أن يصرح به رائدها هو العمل الجاد في سبيل بث الوعي الثقافي ونشره بين أبناء وطنه، راجياً من وراء ذلك أن ينبغ فيهم نوابغ يعيدون أمجاد أجدادهم الأوائل الذين حملوا راية العلم والأدب والثقافة، فهل استطاع عبد العزيز الرفاعي أن يحقق هذا الهدف، أو جزءاً منه؟ يمكننا تقصي رحلة الندوة منذ نشأتها حتى وفاته بغية أن نعثر على إجابات لأسئلتنا التي ستواجهنا عند دراسة كل مرحلة من مراحل رحلتها.
الانتقال إلى الرياض:
انتقل الأستاذ عبد العزيز الرفاعي إلى الرياض في بداية عام 1380هـ بمفرده وترك عائلته بجدة يزورهم كلما تهيأت له الأسباب، وقد سبقه إلى الانتقال إلى الرياض جميع موظفي الوزارات من مكة وجدة عام 1377هـ، وفي الرياض وجد نفسه في حاجة إلى مجتمع يشغل به وقت فراغه، ويجدد بها ذكريات ماضية في مكة وجدة، لا سيما بعد أن تحسنت حالته المادية وأصبح يملك سكناً واسعاً، وارتفع راتبه وما زال أطفاله صغاراً، فقرر في نفسه أن يدعو بعض محبيه في ليلة الجمعة من كل أسبوع للاجتماع في منزله، ليخففوا عن أنفسهم وحشة الغربة، وليروحوا قلوبهم من عناء العمل، وليشغلوا عقولهم بما يفيد، واختار أولئك النفر ممن يأنس فيهم حب الأدب والثقافة والقراءة.
لم تكن هناك إجازة أسبوعية غير يوم الجمعة، فاختار ليلة الجمعة لتكون موعد التقاء الأصدقاء، في منزله بحي الملز والذي كان يبعد عن مدينة الرياض القديمة التي تشتمل على المعذر والمربّع ودخنة والشميسي ومنفوحة عدة أميال، فاقتصر الحضور بادئ ذي بدء على قريبي الصلة به، أو الذين تجمعه بهم علاقة عمل وطيدة أو صداقة عميقة راسخة.
وليلة الجمعة في حد ذاتها مساء الخميس، والخميس في ذكريات عبد العزيز الرفاعي له محل سام رفيع، فالمسامرات الأدبية بالمعهد العلمي، وفي مدرسة تحضير البعثات، كانت تقام يوم الخميس وكانت له مشاركات فيها. هذه المشاركات الأولى في حياته الأدبية ظلت تطارده بذكرياتها الحلوة وصورها الجميلة، فهو لا ينفك بين الحين والآخر يتخيلها أمامه ماثلة تدعوه إلى أن يجددها بصورة أو بأخرى، وعندما تحققت له كل الوسائل التي تهيئُ السبيل لإحياء المسامرات الأدبية، قرر أن يفتح دارته مساء يوم الخميس لاستقبال الأخوة لتبادل الأحاديث الأدبية، أو مناقشة الشؤون التي من شأنها توسيع دائرة المتحاورين علمياً وثقافياً، يفيدون ويستفيدون، ولم تكن الندوة قط منذ نشأتها مكانـاً لقتـل الفراغ بلعب البلوت أو القدح في أعراض الناس، لأنها أمـور لم تأخذ لها مكاناً في نفسـه، بل إنه يمقتها ولا يحبذ الحديث عنها أو ممارستها.
هكذا بدأت الندوة الرفاعية أو الندوة الخميسية الرفاعية بالأصح، طفلة صغيرة، ثم أخذت تكبر وتظهر ملامحها ومحاسنها، فأقبل العشاق يتوافدون لرؤيتها، والتماس الاقتراب منها. وكان لرجال الصحافة دور في تشويق القراء من رجال العلم والثقافة إلى زيارتها، وقد أفصح عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - عن ذلك بقوله في حفلة تكريمه المثبت بكتاب الاثنينية الجزء الأول صفحة 413: "وعفا الله عن الأستاذ علي العمير، فهو فيما يخص جلسة الخميس - الذي تولى كبرها وأخذ ينشر عنها، ويذيع ويضخم من شأنها، ويجعلها صالوناً أخضر، وما إلى ذلك من أسماء، حتى كبرت في نظر الصحافة" وهذه العبارة هي في الواقع تواضع من عبد العزيز الرفاعي، لبيان فضلها ودورها في بث الوعي الأدبي، حتى أصبح مرتادوها يتزايدون يوماً بعد آخر، فضاق المنتدى بأهله، فاضطر عبد العزيز الرفاعي إلى شراء منزل أوسع، في نفس حي الملز، يمكن أن تستوعب إحدى غرفه العدد الكبير الذي أصبح يعتاد حضوره الندوة مساء كل خميس، وأخذت شهرتها طريقها إلى خارج حدود الوطن وامتدت علاقاته الأدبية بالأدباء والمثقفين في الشرق العربي، والمغرب العربي، في العراق ودول الخليج والشام، وفي مصر وتونس وليبيا والجزائر والمغرب، وفي الهند وباكستان وأندونيسيا، بل إلى بعض الدول الأمريكية، ليصافح هناك أدباء المهجر الذي كان لأدبهم مكانة في نفسه، ونتناول هذا الموضوع بشيء من التفصيل عندما نتحدث عن شعر عبد العزيز الرفاعي.
فتبودلت بينه وبين عدد كبير من الأدباء والشعراء رسائل أدبية، جديرة بأن يضمها كتاب، فمعظمها رسائل أدبية بحتة، تخوض مواضيع تدور حول الأدب قديماً وحديثاً، وحول الشعر وأزمته، وحول الأمانة الأدبية المفقودة عند بعض المطابع التي تبسط نفوذها، وسيطرتها على كتب التراث المحققة من قبل بعض رجال النقد والعلم والأدب والثقافة، فتصورها دون إذن من أربابها، وكم يجد القارئ بين سطور تلك الرسائل من تحف وكنوز عظيمة لا تقدر بثمن.
وأصبحت الندوة سؤالاً يوجه إلى كل أديب قادم من الرياض إلى بلد يقطنه عشاق لهذه الندوة، ولا يخلو بلد من الوطن العربي من عشاق لها، بل يوصي الأدباء بعضهم بعضاً بزيارتها إذا أتيح لبعضهم فرصة الحضور إلى الرياض لمهمة عمل أو لزيارة خاصة، وقد نجم عن ازدياد عدد عشاقها، حيث أخذت تكتظ في بعض أمسياتها بالسفراء والوزراء، والدكاترة الأكاديميين، ورجال الإعلام والصحافة، ورواد الأدب والثقافة، حتى ضاق بهم المكان إلى درجة أنه شوهد بها بعض الحضور يقضي طَوال الوقت واقفاً مستمعاً، لأنه فضل الوقوف على الانصراف حتى لا يحرم الفائدة التي طالما اكتسبها من زيارته لهذه الندوة. هذا التزاحم لحضور الندوة الخميسية كان سبباً قوياً لأن يبحث عبد العزيز الرفاعي عن سكن أكبر ليس له ولأفراد عائلته، وإنما ليجد به "صالوناً" يتسع للعدد المتزايد من مرتادي ندوته الخميسية، فباع سكنه الأول، وأضاف إليه ما حصل عليه من الاستحقاقات المالية عند تقاعده، بالإضافة إلى ما يكون قد وفره وادخره من دخله السابق، واشترى قصراً جديراً به، وجديراً بندوته، وجديراً بضيوفه الذين يفدون إليه كل خميس، ليس حباً في الدار ولكنه حب لصاحب الدار الذي يغدق عليهم من فضل علمه وخلقه، ما يحبب إليهم تكرار زيارته، والتزود مما عنده بما يفيد الجميع. وفوق ذلك فقد هيأ لهم فرصة التلاقي والتعارف، وتنمية العلاقات الودية، وقام في هذا السبيل مقام الأندية بل قدّم لمن يشرف بحضور أمسياته ما لم تستطع كثير من الأندية تأديته لمنتسبيها.
كانت دارته الجديدة في حي الروضة الذي يبعد عن الملز كثيراً بخلاف دارته في حي الملز التي كان بإمكان الكثيرين الوصول إليها مشياً، ومع ذلك فإن الندوة في مقرها الجديد لم تفقد أحداً ممن اعتاد زيارتها أسبوعياً، ما لم تعق حضوره شواغل عائلية أو رسمية أو حاجات قاهرة خارجة عن إرادته.
هذا الحب الجياش الفياض الذي يختلج في صدور رواد الندوة، كان منبعه الحقيقي عبد العزيز الرفاعي لما يتمتع به من مكارم الأخلاق، وأنبل الصفات، ولقد صحت المقولة "المكان بالمكين" وصح قول الشاعر:
وما حب الديار شَغفن قلـبي
ولكن حبُّ مَنْ سكن الديـارا
الحضـور:
الذين يأخذون مقاعدهم مساءَ كل خميس، في ندوة الأستاذ عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - هم من الصفوة المختارة، من عشاق الأدب والثقافة، بل ربما اجتمع بها في ليلة واحدة الوزراء والسفراء والعلماء والأدباء والشعراء ورجال الإعلام، لا سيما إذا شهدت الرياض مهرجاناً ثقافياً أو أدبياً، وفدت إليها بسببه وفود من مختلف الأقطار العربية والإسلامية، وهم يفدون إليه دون أن توجه لهم دعوات، لأنهم قد سبق لهم أن طبعوا بأنفسهم بطاقات الدعوة في قلوبهم وبين صدورهم بمداد الحب والاحترام والتقدير للندوة وصاحبها، فليسوا في حاجة لتلقي دعوة أخرى، فدعوتهم مفتوحة منذ الزيارة التي تم خلالها التعرف على شخصية عبد العزيز الرفاعي.
ولقد هيأ الله لي الأسباب التي مكنتني من حضور كثير من الأمسيات، التي أضاءت بصاحبها، واستضاءت بمصابيح منيرة في العلم والأدب والثقافة ورجالات دولة لهم وزنهم وثقلهم في الساحة العامة والخاصة، لا سيما إذا علمنا أنَّ رجال الدولة هم في الواقع ثمرة عصر كان التعليم به ينحصر في الدين واللغة والأدب، ولذلك جاء معظمهم يحمل بين جوانحه كتباً لا كتاباً، زاخرة بالمعارف الدينية والأدبية، فإذا ما تيسرت له الفرص فإنه لا يبخل أن يقوم بزيارة منتدى أدبي كندوة الأستاذ عبد العزيز الرفاعي، يجدد فيها معارفه ومكتسباته الأدبية السابقة، بالمشاركة الفعلية، في نقاش وحوار، حول موضوع سبق له الإطلاع عليه، أو الاستماع إلى ما يدلي به المتناقشون من معلومات، لم يسبق له أن قرأها، أو سجلها في ذاكرته ذات يوم.
في ملحق الصور مجموعة من الصور لبعض الشخصيات التي زارت الندوة، وقد حاولت جهدي أن أتحصل على معرفة أسماء أكثر الموجودين بالصور، وفي الواقع هي صور مختارة من عدة سجلات، حاول الأستاذ عبد العزيز الرفاعي أن يحتفظ بها، لكنه - غفر الله ذنبه وأدخله واسع جناته - لم يعلق عليها ببيان الأسماء، ولذلك فقد عجزت عن الوصول إلى معرفة أسماء الكثير، كما عجز من حاولت الاستعانة به عن ذلك أيضاً، لكنني رجعت إلى بعض ما نشرته بعض الصحف المحلية من تقارير عن أمسيات الندوة، قام ببعثها مندوبوها الذين يزورون الندوة بين فينة وأخرى، وقد استطعت التعرف على أسماء عدد من ضيوفها. ورغبة في إعطاء القارئ صورة صادقة لبعض ما يدور في تلك الندوة، فقد اخترت نماذج مختلفة من تلك التقارير التي بعثها المندوبون للصحف التي ينتمون إليها، وقد اشتمل كل نموذج على أسماء بعض من حضر.
الأنموذج الأول:
هذا الوصف الموجز لإحدى الخميسيات الرفاعية نشر بجريدة المسائية العدد 1206 تاريخ 20/3/1406هـ وقد قام بإعداده الأستاذ محمد بن عبد الله الحمدان وقد نشر الوصف تحت عنوان: ندوة الرفاعي وأين صحفيونا منها؟:
"في مساء الخميس من كل أسبوع تتجمع نخبة ممتازة من مثقفي هذا البلد والبلدان العربية والإسلامية، في دارة الأستاذ عبد العزيز الرفاعي في ندوته الأسبوعية التي زاد عمرها على عشرين عاماً، وقد حضرها في السنوات الماضية عباقرة الأدب والعلم والشعر والفن، ممن يعملون أو يقيمون هنا، أو يمرون أو يزورون بلادنا. ومن الصعب إحصاؤهم وهم من العراق والأردن وفلسطين وسوريا ولبنان والكويت وعمان واليمن ومصر وتونس والمغرب وباكستان.
وفي جلسة ماضية حضر الأستاذ أبو الحسن الندْوي وأمتع الحاضرين، بكلمة قيمة رائعة، وأجاب على بعض الأسئلة ببيانه المعهود وفصاحته وعلمه الجم، ولا أنسى أن أشير إلى حضور الأستاذ عامر العقاد - رحمه الله - قبل موته بأسابيع، وقد حضر تلك الأمسية جمع غفير، أذكر منهم مع حفظ الألقاب: د. معروف الدواليبي، د. بدوي طبانة، د. محمد بن سعد بن حسين، د. زاهر الألمعي، أحمد حسين شرف الدين، د. عبد الله عسيلان، أحمد البراء بن عمر بهاء الدين الأميري، د. عائض الردادي، د. محمود البابللي. موسى أبو السعود، د. أحمد فرحات، علي بخش، عبد الله بامقدم، أحمد سالم باعطب، عبد العزيز الربيعي، عبد الرحمن المعمر، محمد الفال، حيدر الغدير، أحمد علي المبارك، عبد العزيز السالم، د. عبد العزيز الثنيان، وكاتب هذه السطور وغيرهم.
أما الندوة الماضية التي أقيمت يوم 9/3/1406هـ فقد كانت ندوة حافلة جداً، حضرها حوالي أربعين شخصاً فغصت بهم الدار العامرة الفسيحة وكان نجمها الشيخ أحمد الحضراني.
فأمتع الحاضرين بالشيء الكثير، مما يختزنه من شعر وأدب، وحديث ونكت، وسرد بعض ذكرياته الطريفة مع إمام اليمن وغيره، وتحدث عن زوجاته المتعددات في شرقي آسيا وفي الحبشة ومالي وغيرها من بلاد الله في آسيا وأفريقيا. كما حضر تلك الندوة الأستاذ عبد الحميد مرداد، السائح السعودي الكبير، والأديب الذي جاب العالم عشرات المرات، ووصل إلى أخطر الأماكن وأصعبها، وذهب إلى الإسكيمو مرات، ووصل إلى قبائل متوحشة في أستراليا يبلغ مهر الفتاة عندهم عدداً من رؤوس الرجال، ويتراوح المهر من رأسين إلى خمسة حسب محبة المرأة لخطيبها. وكان من الحاضرين أيضاً الدكتور معروف الدواليبي، المفكر الإسلامي، والمتصدي للشبهات والأكاذيب التي يوجهها الصهاينة وأحزابهم ضد الإسلام والمسلمين في المحافل الدولية.
إني أعتب على أدبائنا ومثقفينا، الذين لهم علاقة بالصحف وصحفيينا، في عدم حضور هذه الندوة الثقافية العلمية الأدبية التي عجزت النوادي الأدبية عن إقامة مثلها، في حين داوم عبد العزيز الرفاعي على إقامتها، كما أعتب عليهم لعدم نقل المحاضرات التي تلقى بين آونة وأخرى في مؤسساتنا العلمية، فلا يستفيد منها سوى من حضرها، والمفروض أن تنشر في الصحف، فهي أكثر فائدة من كثير من (خرابيط) الصحفيين.
الأنموذج الثاني:
هذا الوصف لإحدى أمسيات عبد العزيز الرفاعي نشر بجريدة المدينة المنورة العدد 4860 تاريخ 2 جمادى الأولى 1400هـ بقلم الأستاذ عبد الرحمن الأنصاري تحت عنوان: "في ندوة الرفاعي الأدبية":
حفلت ندوة معالي الشيخ عبد العزيز الرفاعي الأدبية والتي عقدت بدارته في الرياض مساء الخميس الماضي، بجمع من العلماء والأدباء قلَّ أن تتاح فرصة لاجتماعهم في ندوة من الندوات في وقت واحد، فقد حضرها مجموعة كبيرة من أصحاب الفضيلة والمعالي من بينهم الشيخ حمد الجاسر، معالي الأستاذ عبد الله بلخير، والأستاذ عبد القدوس الأنصاري، ومعالي الدكتور محمد عبده يماني، والدكتور فؤاد سيزكين، والدكتور محمود شاكر، والدكتور بهجت الأثري، والدكتور محمد محمد حسين، والدكتور حسن ظاظا، والدكتور أنور الجندي، والدكتور محمد بن سعد بن حسين، وعبد الرحمن المعمر، وغيرهم، وفي بداية الجلسة تطرق الحديث إلى ضرورة معرفة المسلمين من غير العرب باللغة العربية، كي يتمكنوا عن كثب من معرفة القرآن والسنة، وذكر الدكتور محمد عبده يماني وزير الإعلام، أن الجهود التي صرفت على ترجمة معاني القرآن الكريم لم تؤت مع الأسف ما كان يرجى منها، وضرب مثالاً على ذلك، أن بعض المسلمين وخاصة في جنوب شرق آسيا عَدوا هذه الترجمات التي تمت بلغاتهم قرآناً، حتى بلغ الأمر ببعضهم - نظراً لاختلاف الترجمات - إلى أن قال بعضهم لبعض: "إن قرآننا يختلف عن قرآنكم" وأجمع أعضاء الندوة على أنه لا سبيل إلى فهم المسلمين لدينهم الفهم الصحيح إلا بنشر اللغة العربية.
وبعد أن استوفى أعضاء الندوة هذا الجانب بحثاً، تطرقوا إلى ما تعانيه اللغة العربية من مكر الأعداء وعقوق الأبناء، وذكر الشيخ عبد القدوس الأنصاري أن مما يدعو إلى الأسف أو الأسى معاً أن بعض المجامع اللغوية العربية سعت وتسعى إلى إفساد اللغة العربية، وضرب على ذلك أمثلة تناولت بعض الاستعمالات اللغوية أجازتها بعض المجامع اللغوية، في الوقت الذي لا يتفق مثل هذا الاستعمال مع جوهر اللغة العربية.
وفي الندوة أسهب الدكتور حسن ظاظا أستاذ الساميات، والمتخصص في الآداب العبرية تحدث بإسهاب عن الزيف الذي يكتنف تاريخ بني إسرائيل القديم والحديث وقال: "إن التاريخ الذي يبني عليه اليهود أساس مشروعية وجودهم، مبني كله على الغلط، بما فيه التاريخ الذي يبنون عليه المفاوضات الآن…"
وأضاف قائلاً: "إن أول من قام في العصر الحديث وبالتحديد منذ 50 سنة بوضع تاريخ مزيف لليهود، يهودي اسمه هنرش جريتس إذ ألف مؤلفاً من عشرة مجلدات باللغة الألمانية أراد من تأليفه إشعار يهود أوروبا بأنهم من خير الأمم، وأنهم شعب الله المختار وقد تُرجِم الكتاب إلى الفرنسية والإنجليزية والعبرية ولخصت منه كتب للأطفال".
كما اشتملت الأمسية على حوار علمي دار بين كل من الشيخ حمد الجاسر والدكتور فؤاد سيزكين، الحائز على جائزة الملك فيصل، والدكتور محمود شاكر، والدكتور بهجت الأثري.
الأنمـوذج الثالث:
حضر مندوب إحدى الجرائد المحلية إحدى ندوات عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - فكتب وصفاً موجزاً لما شاهده وما سمعه في تلك الندوة - وقد نشر ذلك الوصف في العدد الصادر يوم الثلاثاء 11/6/1412هـ جاء فيه:
كل خميس بعد صلاة العشاء وفي حي الروضة بمدينة الرياض يفتح الرفاعي أبواب قلبه قبل بيته لاستقبال الأدباء الذين يمتد سمرهم أحياناً إلى الواحدة بعد منتصف الليل، في صدر المجلس شاهدت أبياتاً شعرية جميلة للدكتور عبد القدوس أبي صالح كتبها سنة 1403هـ إعجاباً بهذا الصالون الأدبي المتميز، والطريف في هذه الأبيات تحديد منزل الرفاعي بالملز، ذلك أنه الآن في الروضة.
بدأت الخميسية بعد صلاة العشاء حيث رحب الرفاعي بضيوفه، وهم بدورهم رحبوا بعودته من السفر، حيث تعقد هذه الندوة في بيته بعد انقطاع. وبعد ارتشاف فناجين القهوة، سأل الدكتور عبد القدوس الأديب الرفاعي عن رحلته الأخيرة، ثم تطور الحديث إلى التحقيق والمحققين، واتفق الجميع على أستاذية الدكتور محمود شاكر في هذا المجال، ولم ينسوا الأستاذين الدكتور عبد السلام هارون والدكتور محمد محي الدين عبد الحميد، وجاء ذكر العقاد فذكر الدكتور مصطفى الزرقاء أن العقاد يتعصب لرأيه مهما كان على خطأ، وامتدح الدكتور أبو صالح كتاب أنيس منصور الموسوم بـ "في صالون العقاد كانت لنا أيام" ووصف شخصية المؤلف بأنها بارزة بحيث خرجت عن عنوان الكتاب إلى الحديث عن المؤلف الذي ظهر أكثر وضوحاً من الحديث عن الكتاب، وهنا تدخل الفريق يحيى المعلمي فقال مازحاً: "كان من المفترض أن يكون عنوان الكتاب: العقاد في صالون أنيس منصور".
والشعر كان في صالون الرفاعي له صوت مسموع، ففي خميسية الرفاعي الفائتة ألقى الشاعر أحمد سالم باعطب قصيدة رائعة في تكريم الدكتور معروف الدواليبي وقد استعاده الحضور عدة مرات. ثم ألقى معالي السيد أحمد محمد الشامي قصيدة عنوانها "الحرية" تحدث فيها عن الأحداث في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، ثم قرأ الدكتور مصطفى الزرقاء مسرحية شعرية كتبها بمناسبة زواج عزيز أباظة باشا بامرأة أخرى بعد أن أقسم ألا يتزوج بعد وفاة زوجته الأولى، كما شارك أيضاً بقراءة أشعارهم كل من الأستاذ أحمد البراء الأميري والأستاذ راضي صدوق والأستاذ حيدر الغدير.
من أبرز الحضور الدكتور معروف الدواليبي، الدكتور عائض الردادي، الدكتور عبد القدوس أبو صالح، الدكتور مصطفى الزرقاء، السيد أحمد محمد الشامي، الفريق يحيى المعلمي، الدكتور حسين أبو الفتوح، الأستاذ عبد الرحمن الأنصاري، الأستاذ عبد الرحمن المعمر، الأستاذ مصطفى أمين جاهين، الأستاذ أحمد سالم باعطب.
حضور الندوة غير مشروط:
إن الأسماء التي وردت في هذه النماذج، لا تمثل إلا جزءاً يسيراً من عدد الذين شرفوا ندوة الرفاعي - رحمه الله - بحضورهم، وكان لهم مساهمات في إثراء النقاش الذي يتناوله الحاضرون، في كل أمسية، وكان ممن شرفت بالالتقاء بهم في هذه الندوة ولم يرد ذكرهم في هذه النماذج عدد من سفراء الدول العربية: تونس والصومال والسودان ولبنان، ومجموعة كبيرة من الأدباء السعوديين: منهم السيد أحمد العربي، عبد الوهاب آشى - رحمه الله-، أحمد السباعي - رحمه الله -، السيد حسن القرشي، الأستاذ عزيز ضياء، الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل، الدكتور زهير السباعي، السيد علوي الصافي، معالي الأستاذ محمود سفر، الدكتور عبد العزيز خوجة، الشاعر فاروق جويدة، وغيرهم كثير، لم تعد الذاكرة الضعيفة قادرة على أن تسترجع أسماءهم.
على أن الندوة منذ أن فتحت أبوابها لم تحدد شروطاً لمن يرغب حضورها، وهي وإن كان معظم الحضور من الأدباء والمثقفين الذين يحملون المؤهلات العلميـة، أو يحتلون مراكـز مرموقـة في الدولـة أو المؤسسات الخاصة، فإنه قد حضر في كثير من الأحيان شباب يتطلعون للتزود مما يجود به الكبار، حتى يتخذوا من الأشعة التي تفيض بها الكواكب المؤتلقة في سماء تلك الندوة مصابيح يهتدون بها في مسيرتهم العلمية. كما أن بعض الحاضرين يصطحب أبناءه ليعودهم على حضور هذه المنتديات العلمية النافعة التي لا تخوض إلا فيما ينفع، ولعل أصغر من حضر هذه الندوة بل دوام على حضورها فترة من الزمن ويأخذ مقعداً خاصاً به هو الطفلة عبير عبد العزيز الرفاعي التي كانت تحرص على الحضور وتلزم أباها - رحمه الله - بأن يعد مقعدها في صدر المجلس بجواره ولقد كان عبد العزيز الرفاعي - يرحمه الله - أكثر تشجيعاً لها وأكثر ابتهاجاً، لأنه كان يطمح أن تشب عاشقة للأدب، وتنشئ كما أنشأت سكينة بنت الحسين مجلساً أدبياً في عصرها، وكان الشيخ عبد العزيز الرفاعي يحاول جاهداً أن يهيئ أبناءه وبناته لتولي هذه المهمة بعد رحيله، فكثيراً ما اصطحب ابنته الكبرى في صغرها إلى أمسيات أدبية تعقد بصفة خاصة في منازل أصدقائه، قبل أن تمنحه الظروف الاقتصادية أن يتولى بنفسه فتح دارة أدبية يُهْرَعُ إليها الأدباء والعشاق للحرف والكلمة.
وصورة الطفلة الصغيرة في الملحق هي صورة أصغر مَنْ حضر الندوة: "عبير عبد العزيز الرفاعي".
هذه النماذج التي أوردتها في هذا الفصل لا تمثل إلا نسبة ضئيلة جداً مما كُتِبَ عن الندوة. ولقد أصدر الدكتور عائض الردادي مؤلفاً مستقلاً يحمل عنوان "ندوة الرفاعي" ويمكن للقارئ الرجوع إليه للاستزادة من الفائدة، حيث أن المؤلف تطرق إلى كل ما له صلة بالندوة، وأورد كثيراً من النصوص شعراً ونثراً وكلها تتحدث عن الندوة ومزاياها وحسناتها فجزاه الله خيراً.
احتجاب الخميسية:
تحتجب الندوات الأدبية الخاصة والأندية الثقافية عادة خلال الإجازات الرسمية، كإجازة عيد الفطر وعيد الأضحى، والإجازات المدرسية كالإجازة الصيفية وإجازة الربيع، حيث يتم في تلك الإجازات تبادل الزيارات بين الأهل والأقارب، مما يدعو الانتقال من الرياض إلى المنطقة الغربية أو الشرقية أو الشماليـة أو الجنوبية أو السفر إلى خارج الوطن، للفسحة أو طلباً للعلاج أو الاستجمام أو للترفيه وطلب العلم. والندوة الخميسية شأنها في ذلك شأن بقية الندوات، تغلق أبوابها مرغمة لتفسح المجال لعشاقها بأن يشاركوا أطفالهم وأقرباءهم أفراحهم وبهجتهم بقضاء فترة من الزمن بين الحين والآخر ينعمون بها بين ذويهم، ويجلون عن أنفسهم ما علق بها من أعباء العمل والتحصيل، حتى يعودوا بعد ذلك وقد صفت قلوبهم وطابت نفوسهم، وأصبحت عقولهم قادرة على العطاء والاستيعاب والعمل الجاد بروح وثابة، وحينئذ يقبلون بعد عودتهم على أداء الرسالة المنوطة بهم بإخلاص وإتقان. على أن رائد الندوة كان خلال فترة الصيف تمشياً مع طبيعة عمله ينتقل إلى الطائف، ويقيم ندوته الخميسية هناك، حيث ينتقل كثير من موظفي الديوان الملكي وموظفي عدد من الأجهزة الحكومية الأخرى لانتقال الحكومية إلى هناك. لكنه بعد أن ترك الخدمة وأحيل على التقاعد، أصبح يقضي الإجازات خارج المملكة مع أفراد عائلته، وقد فضل في السنوات الأخيرة قضاء نصف العام تقريباً خارج المملكة. كان مرتادو الندوة يعتقدون أنه يهرب من حرارة الصيف، وقسوة الشتاء. وغالباً ما يربط بين عمل أدبي وبين الاستجمام، بحيث تحتجب الندوة لسفره لإلقاء محاضرة، أو المشاركة في ندوة أدبية خارج المملكة، أو حضور اجتماع دوري في مجمع علمي يعتبر عضواً فيه، ثم يصل تلك المهمة بعد انقضائها بإجازة تفرغ للاستجمام، دون أن يعلم أحد أن الحقيقة هي غير ما يعلمه الكثير، فقد عرض نفسه على كبار الأطباء للفحوص الطبية قبل سبع سنوات، واكتشف الأطباء وجود ورم خبيث في البروتستاتا وأوصوا بإزالته فوراً، فطلب تأجيل العملية الجراحية أياماً حتى يتخذ قراراً نهائياً بشأنها، ولم يشأ أن يخبر أحداً بما يقاسيه إلا المقربين إلى نفسه من أفراد عائلته، ثم استخار الله وقرر عدم إجرائها. وبمجرد عودته إلى الرياض تعود الأمسية إلى ما كانت عليه. لكن يجب أن نذكر أنه قبل أن يرغمه المرض إلى السفر خارج المملكة كان يأمر ابنيه أحدهما أو كليهما باستقبال ضيوف الندوة في وقتها، إذا حانت ليلتها، ولم يكن موجوداً بمدينة الرياض، حرصاً منه على استمرارها إذا كان في مهمة داخل المملكة لا تقتضي اصطحاب عائلته معه، ولكن هيهات أن ينتظم عقد يفتقد إلى واسطته، غير أن مرتادي الندوة والذين يتلهفون طيلة أيام الأسبوع يترقبون مساء الخميس ليفدوا إلى دارة الرفاعي، يتلمسون خبراً مفرحاً، ويستمعون إلى حديث شائق يكسبون فائدة علمية جديدة، هيهات أن يرضوا في غيابه بالاجتماع في دارته، لتطل صورته ماثلة أمام أعينهم وكأنه يشاركهم أحاديثهم، وهم بذلك يرسخون حبهم له في أعماقهم، ويعلنون صدق وفائهم وإخلاصهم، وهو بدوره يقدر لهم هذا العمل في مستهل ذلك الاحتجاب النبيل الذي ينبع من نفوس طيبة وقلوب نقية تسعى إلى الخير وتساهم في نشره. وعندما أخذت أسباب الحيـاة تبعد بأبنائه وبناته عن الرياض أصبح مضطراً إلى إغلاق أبواب النـدوة عند سفـره إلى الخارج أو الداخل، وكان يحترق ألماً لذلك لأنه يشعر بالمرارة كلما طلع يوم الخميس وهو خارج مدينة الرياض، ويتذكر صحبه ورفاقه وعشاق ندوته وقد ضمهم صالونه، وهو يستقبلهم بالبشاشة وبالابتسامة الصادقة المضيئة بالحب بالطهر بالنقاء بالمروءة بأجمل صفة عرفتها قواميس الأخلاق والمكارم يحتضن هذا ويقبِّل ذاك ويسعى به إلى مقعده محيِّياً مرحِّباً مؤهِّلاً.
هذا الشعور الذي كان يسيطر على حواسه كلما بعد عن مدينة الرياض جعله يفكر في السنوات الأخير بعقد ندوة خميسية بمدينة جدة، بدارته الكائنة بحي الأمير فواز السكني الشمالي في الأوقات التي تطول إقامته بمدينة جدة، ولقد سعدت مع بعض الأخوة بحضور تلك الخميسيات وكان لصوت الشعر فيها مكان.
وفي الجانب الآخر من الصورة المعتمة المتمثلة في احتجاب الندوة الخميسية خلال عدة شهور، تبرع أحد الأخوة المواظبين على حضورها بأن يتكفل باستمرارها طيلة مدة غياب الشيخ عبد العزيز الرفاعـي - رحمه الله - ذلكم هو السيد الفاضل المحب للعلم والأدب أحمد باجنيد الذي دفعته أريحيته في أن يساهم في الاحتفاء بالأدب ورجاله وبالعلم وأساتذته، فجعل من داره مكاناً يستضيف فيه الندوة الرفاعية الخميسية، كلما غاب عن مدينة الرياض صاحبها ومؤسسها والتي ترعرعت ونمت على يديه يغذيها بجهده وفكره ويرويها بحبه وفضله وأخلاقه، حتى استوت فأزهرت وأثمرت، فتحدّث بعطائها من شهد لياليها الحسان، وطيّب قلبه ونفسه بشذا أريج عطورها من ورود العلوم، واغترف بيديه غرفة من سلسبيلها.
وأخذ الوجيه أحمد باجنيد على عاتقه - جزاه الله خيراً - أن يؤدي قـدر استطاعته ما كان يقوم به
عبد العزيز الرفاعي - غفر الله له ذنوبه - ولو من الناحيتين الشكلية والمادية، وهو يعترف بأن الفارق بينه وبين عبد العزيز الرفاعي شاسع لا يخضع للمقارنة، فعبد العزيز الرفاعي له مكانته في المجتمع الأدبي والثقافي، وسمعته بل شهرته قد غزت العواصم العربية، وكثيراً من عواصم الدول الإسلامية، وسكرتير مكتبه يتسلم في اليوم عشرات الرسائل المرسلة إليه من أقطار شتى، قد يكون بينها رسائل من أمريكا وأوروبا وإفريقيا، وكلها رسائل تدور حول مهنة الأدب وما تجرّه على أربابها من محن ومشاق، ورحم الله امرأً أنفق عمره في مهنة الأدب.
والسيد أحمد باجنيد بصنيعه، حاول أن يلمّ شمل الأخوة الذين بدؤوا ينقضونه بأيديهم، فحاول جمعهم واستضافتهم كل خميس، ليظل اسم عبد العزيز عالقاً بأذهانهم، وتبقى ندوته تتردد على الألسن، فكان ذلك منه وفاء، ونعم الوفاء من الرجل الوفي؛ في زمنٍ قَلَّ فيه المخلصون الأوفياء.
وقد أعلن السيد أحمد باجنيد بعد موت عبد العزيز الرفاعي أنه سيظل يستقبل عشاق الندوة الخميسية، في داره كل مساء خميس، ما لم يعترض إقامتها عارض خارج عن إرادته،، وقد جاء ذلك في إعلان نشر بجريدة عكاظ بتاريخ 4/4/1414هـ نصه:
"برغم رحيل الأديب الكبير الشيخ عبد العزيز الرفاعي فإن خميسيته الشهيرة التي تعقد في منزله بحي الروضة بمدينة الرياض، سوف تستمر كما هي ولكن في منزل "الرفاعي الصغير الأستاذ أحمد باجنيد" الذي كان ينظم ندوة الرفاعي في منزله عند سفر الرفاعي أو غيابه عن مدينة الرياض.
وستكون الندوة التي ستقام هذه الليلة هي الخميسية الأولى بعد وفاة عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - وقد وجه باجنيد الدعوة لجميع الأدباء المفكرين والإعلاميين لحضور الندوة كل خميس".
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1074  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 12 من 30
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .