شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رحـلته العمليَّـة
ليس عبد العزيز الرفاعي الوحيد الذي مارس العمل منذ نعومة أظفاره، فهناك الكثيرون ممن طرقوا أبواب العمل، وهم في سن مبكرة من حياتهم قد لا يتجاوز عمر بعضهم العاشرة، ولعلهم خضعوا جميعاً لظروف مشابهة ممثلة في قسوة الحياة، وظروف المعيشة السيئة على أن هناك سؤالاً اعترض سبيلي، وأنا أحاول أن أتحدث عن بعض المحن، والمشاق التي عاناها عبد العزيز في طفولته، ومطلع شبابه؛ السؤال هو:
"هل المنغصات الحياتية التي يبتلى بها الإنسان، أو يتعرض لها تأتيه تلقائياً، أم يسعى إليها الإنسان؟!".
في الواقع تذكرت جملة نثرية وبيتين من الشعر قرَّبت لي حقيقة الأمر. الجملة النثرية تقول: الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها، أما البيتان فهما لشاعر العروبة أبي الطيب المتنبي، يقول في الأول:
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانـا
ويقول في البيت الثاني:
كلما أنبت الزمان قنـاة
ركَّب المرء في القناة سنانا
إذن فالإنسان هو مصدر إثارة هذه المحن، والكوارث التي تحيق به، لكن ليس بالضرورة أن يكون المتسبب في إثارتها، وإشعال نارها عرضة لنتائجها المؤسفة، والمحزنة. لأنَّ الذين يوقدون الحروب يجلسون بعيداً عن ميادينها يتناولون ما لذ وطاب في حين يغرق المتحاربون، والمجندون في أوارها، وتكون النتيجة موت الكثيرين، وتشريد الملايين وازدحام الشوارع بالثكالى، واليتامى، والمساكين، في حين يكسب المعركة في نشوةٍ أولئك الذين يصدرون الأوامر دونهم بوجوب التضحية والموت، وهم على أسرتهم يستمتعون بكل ملذات الحياة، والمتحاربون وذرياتهم من ورائهم يصلون ضراوتها، ويقاسون حرارتها، ومن ثم يذوقون مرارتها.
حتى الكوارث الطبيعية، كالزلازل والأعاصير والفيضانات والبراكين التي يتعرض لها الناس، وتنزل بهم، فإن للبشر علاقة بها، وقد يكونون سبباً في وقوعها، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وقال تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا وقال تعالى: حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها انهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغنَ بالأمس الآية، وقـال تعالـى: وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون فكل ما يتعرض له الناس في هذه الحياة الدنيا إنما هو حصيلة أفعال البشر، ولذلك أمرنا أن ندعو ربنا صباح مساء قائلين: ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا.
لكن ما ذنب عبد العزيز الرفاعي فيما نزل به، وما قاساه وهو لم يبلغ العاشرة من عمره، نعم لقد كان عبد العزيز في تلك الأيام يردد قول الشاعر العربي:
لم أكنْ من جناتها علـم اللـ
ـه ولكنِّي بحرِّها اليوم صالي
فلم يكن السبب في محنته وبؤسه وشقائه، ولكنه ضحية لتصرف خاطىء ارتكبه والده دون أن يعلن لأحد رغبته في اتخاذه من قبل. فلما وقع وعاتبه الناس قال لهم: لقد سبق السيف العذل. وهكذا بدأ عبد العزيز مرحلة المعاناة الحقة، ووجد من حوله أمًا قامت بدور الأم والأب معاً، وأختاً كبرى من (1) أمِّه كانت الساعد الأيمن لأمِّه. كان يعاملها وينزلها منزلة أمه، وكيف لا يقدم لها من الاحترام ما يليق بها، وهي التي كانت تبيت الليل ساهرة بجوار أمها تخيط ما تستطيع أن تخيطه من الثياب ليتم بيعها في الصباح حتى يتوفر لهذه الأسرة ما يسد الرمق، ويوفر لهم ما يستر الجسد، وأختاً صغرى يقل عمرها عن خمس سنوات في حاجة إلى الرعاية والعناية.
ولقد أشار عبد العزيز رحمه الله - إلى هذا بوضوح تام في مقال كتبه ونشره في المجلة العربية في العدد رقم 186 شعبان 1413هـ، نقتطف منه هذه المقاطع المضيئة.
"أليس من حق قرائي عليّ أن يعرفوا من كان يقف ورائي لأكون هذا الذي كنت، مع التحفظ الشديد عند هذا التعبير، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه، كانت أمي كل دنياي، كما كنت كل دنياها، فقد كنت وحيدها إلا من أختين، كما كنت شجرة مفردة في البرية، ليس لي أعمام ولا أخوال، كما فقدت عطف أبي وأنا صبي صغير، في وقت كنت في أمس الحاجة إلى مساندته، أقول فقدت عطفه ولم أفقده، لقد فرقت ظروف قاسية بين والدتي وبين والدي، وكان في ذلك بدء لمرحلة شقاء أليمة بالنسبة لي اضطررت معها أن أعتمد على أمي في تأمين حياتي، وحياة الأسرة الصغيرة التي تضمنا..
كان البؤس يحيط بنا من كل جانب، ولكني وجدت أمامي شخصاً صُلْب العزيمة ثابتاً جَلْداً مثابراً كان هذا الشخص هو أمي. لقد استمدت من ضعفها قوة عجيبة، وصنعت المستحيل لكي تؤمن لنا ولو أدنى مستوى ممكن من العيش بما كانت تبيعه من منسوجات نسوية لم تكن تدر إلا القليل، وهكذا كانت أمي لي أباً منذ صباي الباكر، وكانت هي عمي وخالي وإخواني وكل أقاربي، إذ لم يكن لي من كل هؤلاء أحد، واضطرت أن تعكف هي وابنتها الكبرى على ماكينة الخياطة وعلى "المنسج" لحياكة الملابس وما إليها لتأمين حياة الأسرة التي كنت أنا "رجلها" الوحيد قبل أن أبلغ مرحلة الشباب".
1- الدرجة الأولى من سلم الحياة العملية (بائع ملابس جاهزة):
وفي هذه السن - أي عند بلوغه العاشرة من عمره - بدأ رحلته العملية، فشارك أمه في بيع ما تخيطه أمه وأخته من ملابس، فضرب مثلاً رائعاً للولد البار بأمه منذ صغره، ففي الأمسيات من كل يوم، وفي أيام الإجازات الرسمية يشارك بجهده المتواضع ليبرهن عن رجولته، ويحرم نفسه من اللهو واللعب، ومشاركة أنداده الأطفال الذين يصرفون معظم أوقات فراغهم فيما لا يعود بالنفع عليهم، وكانت أمه فخورة به لإصراره على مساهمته في توفير لقمة العيش للجميع.
ولم يتعارض قيامه بهذا العمل الذي ارتضاه لنفسه مع الاهتمام بدروسه، وقد برهن بذلك على أنه كان يتمتع بتفكير سليم منذ صباه، وأنه ذو مواقف سجلها له الزمن في سجل حياته الذي لم نقرأ فيه إلا كل ما هو مشرق يدعو القارئ للاستقاء منه، والتزود مما احتواه من عبر ومواقف نبيلة صادقة. وهذه الدرجة الأولى التي صعد عليها في سلم حياته العملية، هي في حد ذاتها قاعدة وضعها في بناء صرح مجده وشهرته.
2- الدرجة الثانية من السلم (محاسب):
عندما بلغ الثالثة عشرة من عمره أحسّ أن دخل الأسرة من بيع الملابس الجاهزة التي كانت الأسرة مجتمعة تشترك في إعدادها وخياطتها لم يعد كافياً، وغير قادر على الوفاء بالأشياء الضرورية لمعيشة أسرة مكونة من أربعة أفراد لا سيما وأن التزاماته المدرسية أصبحت تتطلب مقداراً من المال لشراء الكتب والأدوات المدرسية، فعنَّت له فكرة قدمها لأمه في شجاعة نادرة اعتقاداً منه بأنَّ الوقت قد حان لأن يخوض مجال العمل الجاد الذي يمكنه أن يكتسب من ورائه ما يحق للأسرة التي أصبح عائلها بحكم أنه الرجل الوحيد في البيت، ولنقرأ ما كتبه في المجلة العربية الصادرة شهر شعبان 1413هـ تحت عنوان : "أيام حزينة –2- أمي".
"كنت في مفترق طريق صعب جداً، وأنا بعد في حوالي الثالثة عشرة من عمري، فإما أن أفارق الدراسة لألتمس عملاً يؤمن حياتنا، وأستطيع به أن أضع حداً لمتاعب والدتي، فقد كنت أحس بما تعاني من شقاءٍ جسمي ونفسي وهي تحاول أن تعول هذه الأسرة، وإما أن أواصل دراستي ولو إلى الشهادة الابتدائية على الأقل. وفي هذه الحالة سيظل كفاح والدتي متصلاً، وإن كان الأمر فوق احتمالها.
كنت حقاً بين أمرين أحلاهما مر، ولكني لم ألبث أن اخترت – بالاتفاق معها – طريقاً وسطاً هو أن أعمل وقت فراغي، وهكذا كان – فعملت في الأمسيات، وعملت في الإجازات، وهكذا وضعت كتفي الصغير إلى جوار كتفها الواهن وواصلنا حياة صعبة المراس، ولكن ظل كتفها هو الذي يحمل العبء الأكبر".
وللوقوف ومعرفة العمل الذي مارسه عبد العزيز الرفاعي في تلك السن من حياته، اتصلت بأرملته أم عمار إيماناً مني بأن الرجل يُفضي ببعض كفاحاته في الحياة قبل أن يتزوج، إلى زوجته، ويرسم لها صورة عن ماضيه المشرق بالتضحية والكفاح، وفي سبيل العلم وطلب الرزق. والتضحية والكفاح فيهما معنى التعب والعناء ولكنهما يحملان علم النجاح، والفلاح أليس الشاعر العربي يقول:
الجَدُّ في الجِدِّ والحرمانُ في الكسل
فانصبْ تُصِبْ عن قريب غايةَ الأمل
فتحقيق الطموحات والأحلام لا يكون إلا بالكفاح والعمل الشاق، واحتمال الصعوبات التي قد يتعرض لها المكافح في سبيل بلوغه آماله ورغباته.
وسألتها عما إذا كان عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - قد حدّثها عن عمله خلال تلك الفترة من حياته، فأجابت: بأنه أخبرها - في معرض حديثه - عن أيام المعاناة والكفاح من أجل الحصول على لقمة العيش، وستر الجسد، بأنه مارس، وعمره ثلاث عشرة سنة بما يمكن تسميته - الآن في عرف الوظائف المحاسبية - كاتب حسابات غير متفرغ مع أحد بيوت المال التي كانت تتعامل في بيع الخضراوات والفواكه بالجملة وهو بيت آل حابس.
وهنا أدركت سر قبول ذلك البيت التجاري توظيف عبد العزيز الرفاعي في سن مبكرة من حياته على وظيفة كاتب حسابات، وهو لَمَّا يحمل الشهادة الابتدائية، لقد كان متفوقاً في مادة الرياضيات تفوقاً مبرزاً بين لداته ورصفائه ولقد أشار - رحمه الله - إلى ذلك في كتيبه: "رحلتي مع التأليف" الصفحة الثانية عشرة حيث يقول: "وأسند إليَّ من المواد تدريس الرياضيات الحساب والهندسة، والسر أن مواد تخرجي دلت على تفوقي في الرياضيات. ومن هنا كان إسنادها إليَّ. والواقع أنني كنت مغرماً بهذه المواد إبان الطلب، وكنت أجد في حل المسائل الحسابية والهندسية متعة".
وهذه الوظيفة المؤقتة وإن خففت بعض الشيء من الأعباء التي تقاسيها الأسرة في سبيل تحقيق حياة الكفاف إلا أن سوء الحالة الصحية التي كانت تعانيها نفيسة عبد الفتاح الرشيدي - والدة عبد العزيز الرفاعي - كانت تزداد يوماً بعد يوم. وعبد العزيز يرى أمَّه وهي تذوب من شدة المعاناة ولكنه لا يقدر على فعل شيء، أعظم شيء حققه هو أنه استطاع أن يحصل على الشهادة الإبتدائية من المدرسة العزيزية بمكة المكرمة، واتجه إلى المعهد العلمي ليكمل مشواره الدراسي لانَّ المعهد يُعنى عناية خاصة بالمواد الدينية واللغة العربية، وذلك ما كانت تحدثه به نفسه، ويعلق آماله على تحقيقها، ولكن الحالة المادية تزداد تعقيداً وقسوة والمعهد العلمي يتطلب توفير المراجع العلمية والكتب التي يقوم الشيوخ والأساتذة بتدريسها، والدخل غير ثابت، لم يزد عما ألفته الأسرة ولكنه ربما قلَّ إلى مستويات دنيا لا تسمن ولا تغني من جوع، فصبر وتحمل وقاسى في سبيل أن يجمع بين الدراسة والعمل حتى يستطيع توفير شيء من المال يستطيع به شراء هذه الكتب التي تعتبر روافد هامة في رحلته العلمية، وبالتالي فهو يقتطع ما كان يحصل عليه من عمله الذي كان يقوم به جزءاً، ويدفع ما بقي لوالدته التي تتولى بنفسها تدبير شؤون المنزل.
كان زملاؤه يعرفون معاناته، وكان أساتذته على علم بذلك، وجميعهم يكبرون فيه هذا الطموح، ويحمدون له صدق الرغبة في طلب العلم، ويشيدون بمن تقف خلفه ترعاه وتهيء له وسائل الطمأنينة وتشد من أزره كي يحقق آماله العلمية.
3- الدرجة الثالثة (مدرس قبل التخرج):
في السنتين الأخيرتين من دراسته بالمعهد العلمي كان يشغل السيد أحمد العربي وظيفة مدير المعهد العلمي السعودي ويساعده الأستاذ عمر عبد الجبار، وكان الاثنان يليان عبد العزيز الرفاعي رعاية خاصة لما يلمسانه فيه من ذكاء وتفوق علمي، وأخلاق فاضلة مع علمهما بما يعانيه من مشاق، في سبيل الحصول على ما يقيم الأود، ويحقق أدنى مستوى من المعيشة فرشحاه للقيام بتدريس أحد أبناء المسؤولين في الدولة خلال فترة الصيف، ولكن الأسرة التي كان يقوم بتدريس أبنائها وجدت فيه نعم المعلم رغم صغر سنه، وأحبته لسلوكه وأحبه الأبناء لاستطاعته وقدرته على إيصال المعلومات إلى أذهانهم، فطلبت تلك الأسرة من عبد العزيز الرفاعي أن يظل مدرساً لأبنائهم بعد انقضاء عطلة الصيف، فاعتذر لأن ذلك سوف يحرمه من الحصول على مؤهل علمي يمكنه من تحقيق رغباته، ورجع إلى أستاذه الذي يستنير برأيه ويكن له الحب والتقدير ليطلعه على ما وصل إليه ويبين له انه يفضل أن يفصم العلاقة ليعود إلى مقاعد الدراسة حتى يكمل رحلته العلمية النظامية، وهنا هون السيد أحمد العربي عليه الأمر وأشار إليه بأنَّ في الأمر متسعاً، وأنَّ في الإمكان الجمع بين الدراسة والتدريس، واندهش عبد العزيز ولم يدر كيف يتم التوفيق بينهما إذ لم يدر بخلده، بل لم يعهد شيئاً يطلق عليه "نظام الاختبار من المنازل" الذي أصبح في حاضرنا وسيلة تهيء لمن فاتهم قطار التعليم في السابق أن يحصلوا على المؤهـلات دون أن يجلسـوا على مقاعد دراسيـة في المعاهـد أو المدارس، فأرشده إلى أن يواصل تدريسه لأبناء الأسرة التي رغبت في استمراره معلماً لأبنائها، وأن يطلب من رفقائه المخلصين - وهم كثر - أن يزودوه بما يتلقونه من دروس أولاً بأول، وعليه في نهاية العام الدراسي أن يتقدم إلى المعهد لأداء الامتحان.
وجد عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - فرصة طيبة تمكنه من صيد عصفورين بحجر، فتعليم الأبناء هو ترسيخ لمعلومات سبق له دراستها، ومن جهة أخرى فهو وسيلة للحصول على بعض المال الذي يمده بما يغطي نفقاته الدراسية ويساعد أسرته بما بقي منه، كما أنَّ مدير المعهد قد ضمن له إمكانية دخوله صالة الاختبار النهائي في نهاية السنة، وهي العقبة التي كان يفكر جدياً في تخطيها.
نعم تلك كانت عناية الله وتلك مشيئته تعالى وهو الذي يرزق عبده من حيث لا يحتسب، فإذا أحب الله عبداً يسر له كل شيء، وكان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها، وإذا أحب الله عبداً حبب خلقه فيه.
وافق عبد العزيز على القيام بتدريس أبناء تلك الأسرة، وواصل جهاده في التحصيل العلمي حتى حصل على شهادة المعهد العلمي السعودي 1361هـ. وقد ذكر ذلك في مقاله الذي نشر بالمجلة العربية العدد رقم 186 شعبان 1413هـ تحت عنوان: "أيام حزينة – أمي" حيث قال: (لكن والدتي – يرحمها الله – كانت تحرص على أن أتعلم، وقد ظلت على حرصها هذا إلى أن أصبحت على أبواب الشباب وعلى أبواب المعهد. وكان الإجهاد قد نال منها كل منال. فقد تضافرت عليها الأحداث والأمراض وحياة الجفاف، فلم يكن في وسعها أن تستمر في الكفاح، فحملت عنها العبء قبل أن أكمل السنة الدراسية النهائية في المعهد، فاستقبلت حياة العمل مدرساً وإن ظللت على صلة بدراستي من المنزل حتى حصلت على شهادة المعهد العلمي السعودي، وبذلك قرت عينها وانتهت متاعب العيش".
4- مدرس بالمدرسة العزيزية:
بعد حصول عبد العزيز الرفاعي على شهادة المعهد العلمي السعودي عين مدرساً بالمدرسة العزيزية بمكة المكرمة، وهي المدرسة التي حصل على الشهادة الابتدائية فيها، وطُلِب منه تدريس مادتي الرياضيات والتاريخ "السيرة النبوية" وقد حاول منذ أن كلف بتدريس هاتين المادتين أن يعطي رؤساءه صورة وضاءة عن طموحاته، وحسه العلمي والأدبي، وأن يفرغ شيئاً من الاستعداد في داخله على الورق ليفيد به الآخرين، لإيمانه بضرورة نشر العلم بأسلوب مبسط سهل يمكن تعلمه. فشرع في تأليف كتاب لطلاب السنة الخامسة في مادة الرياضيات، كما عزم بل بدأ فعلاً في تأليف كتاب للصبيان عن السيرة النبوية مستخدماً أبسط العبارات والجمل التي يستطيع الطلاب في المرحلة الابتدائية فهمها، وعقد العزم على إتمام هذين العملين لكنه لم يكملهما، وقد ذكر - رحمه الله - في كتيبه "رحلتي مع التأليف" قصة هذين المؤلفين اللذين حاول أن يجعلهما شهـادة لـه في سلك التعليم تثبت لـه ريادتـه، ولنقرأ ما جـاء بالصفحات "11، 12، 13" من الكتيب المذكور "أما بعد تخرجي فقد اتجهت المحاولة إلى التأليف المدرسي، لأنني فور تخرجي عملت مدرساً في المدرسة العزيزية الابتدائية بمكة المكرمة، وهي المدرسة ذاتها التي كنت أدرس بها فلم أغب عنها إلا ثلاث سنوات غادرتها تلميذاً، وعدت إليها مدرساً، وأسند إلي من المواد تدريس الرياضيات - الحساب - والهندسة واسند إلي غير الرياضيات تدريس مادة السيرة النبوية.
من أجل ذلك فكرت في أن أضع كتاباً في الهندسة للسنة الخامسة الابتدائية وهي السنة التي كنت أدرس بها هذه المادة وأن أضعه على الطريقة الحديثة مستخدماً الوسائل التربوية التي تعلمتها في المعهـد، أو هكذا زعمت لنفسي وسوّل لي غروري ذلك، وفعلاً قطعت شوطاً طيباً في هذا المجال، وفي السيرة النبوية اتجه عزمي أيضاً إلى وضع كتاب للصبيان أقص فيه السيرة النبوية في سرد قصصيِّ محاولاً استعمال لغة سهلة وتعابير مشوقة وكنت في هذه المحاولة أكثر تصميماً، أما لماذا لم أتمم هاتين المحاولتين؟ فقد كان ذلك لأنني لم أقض في التدريس أكثر من سنة دراسية واحدة أو على التحديد ثمانية أشهر فقط، ثم أصررت على مغادرة التدريس إذ وجدته مرهقاً، وخيل إليَّ انه لا يتسع لطموحي، فقد رأيت التدريس أيامها ضيق المجال فغادرته إلى مديرية المعارف ذاتها، محرراً في ديوانها وترتب على ذلك إهمال هاتين المحاولتين".
أعتقد من وجهة نظري الخاصة أن ضآلة الدخل المادي كان سبباً رئيساً في عدم الإقدام على طبع المحاولتين وإخراجهما، ربما كان تركه لمهنة التدريس جاء نتيجة عدم اقتناعه بالمستقبل الذي يتوقعه من بقائه مدرساً لا سيما وأنه قرأ للجاحظ بعض كتبه (ومنها نوادره عن المعلمين) مما زاد إصراره على تركه لهذه المهنة والالتحاق بوظيفة أخرى قد تكون مصدر خير له ولأسرته، وشاءت الظروف أن ينتقل من وظيفة مدرس بالمدرسة العزيزية إلى وظيفة محرر بديوان مديرية المعارف.
والملاحظ أن عدداً كبيراً من رواد الأدب بالمملكة العربية السعودية اشتغلوا في مطلع حياتهم العملية بمهنة التعليم، وتركوا بصماتهم فيها وكان الأستاذ محمد حسين زيدان - رحمه الله - يفتخر في كل ندوة يتطرق فيها الحديث إلى المعلم بأنه كان معلماً أدى ضريبة تعلمه.
5- عبد العزيز الرفاعي محرر بديوان مديرية المعارف:
عندما رسخت في ذاكرة عبد العزيز الرفاعي فكرة محاولة تأليف كتيب صغـير يقص فيـه السيرة
النبوية في سرد قصصي يتناسب وأعمار النشء الذين يتلقون الدراسة بالمرحلة الابتدائية كتب رسالة إنشائية وحبرها تحبيراً ثم ذهب بها إلى مديرية المعارف وقدمها إلى مدير المعارف حينئذٍ السيد محمد طاهر الدباغ الرجل الذي أسس مدرسة تحضير البعثات، ووضع اللبنة الكبرى في الابتعاث، كانت الرسالة متضمنة الفكرة التي يعتزم تنفيذها ويطلب من مدير المعارف مساعدته بتزويده مجموعة من المراجع المتوفرة بمستودع مديرية المعارف حتى يستعين بها في تحقيق هدفه.
ولقد قوبل طلبه من السيد محمد طاهر الدباغ بالإعجاب لما لمسه فيه من إصرار على الإقدام على تأليف الكتب، ولم تمض على تخرجه من المعهد سنة فتحمس وأشّر- رحمه الله - على رسالته بإحالتها إلى مأمور المستودع لمراجعته للحصول على ما يتوفر في مستودع مديرية المعارف من المراجع التي يحتاج إليها بحيث تعتبر تلك المصادر منحة له.
وكان من بين تلك المراجع رسالة لطيفة من تأليف السيد محمد طاهر الدباغ عن السيرة النبوية، هذه الرسالة كانت الخطوة الأولى التي خطاها عبد العزيز الرفاعي لتصحيح وضعه بل هي المفتاح الذي استطاع به أن يدخل إلى قلب محمد طاهر الدباغ فيعجب به وبموهبته وبذكائه وبأخلاقه وتصرفه وطموحه. فوافق على رغبته في نقله من سلك التعليم إلى ملاك موظفي الديوان العام للمديرية بوظيفة محرر وقد أشار عبد العزيز الرفاعي بطرف خفي إلى ذلك حيث قال في كتيبه "رحلتي مع التأليف" بالصفحة الرابعة عشرة: "وأحسب أن مصدر حماسه - أي محمد طاهر الدباغ رحمه الله - أنه رأى في شخصي المتواضع، صورة لشبابه حينما وضع تلك الرسالة" لأن الحماس انقلب إلى تقدير واعتزاز بما يتحلى به عبد العزيز من صفات نبيلة وقعت في نفسه موقعاً حسناً فرأى في عمله بمديرية المعارف مصلحة عامة؛ لأنَّ تدعيم الجهاز الإداري بالكفاءات الشابة الناضجة علماً وفكراً والمتوهجة خلقاً ونهجاً سيساهم بدرجة كبيرة في رفع مستوى الأداء الوظيفي بالمديرية ويهيء له فرصة التأليف بسهولة ويسر، ذلك أنَّ وظيفة التدريس وظيفة شاقة تستغرق من المدرس جل وقته بين إعداد وتصحيح ومراجعة وتوجيه وإرشاد وكلها أمور مكملة لبعضها، فالمدرس مسؤول أمام ربه عن كل ساعة كلف فيها بتعليم الطلاب ولم يعطها حقها.
وقد صادف الانتقال في نفس عبد العزيز رضا لا يوصف أنه أنقذه مما شعر به بحاسته السادسة أنه سيحول بينه وبين الأماني الكبار التي تشغل فكره وتجوب خاطره والتي يطمع ويطمح أن يحققها في أقرب فرصة ممكنة لأنه يرى أنَّ بعض أنداده قد حظي بما لم يحظ به.
باشر عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - العمل بمديرية المعارف بمكة المكرمة يوم (1/5/64هـ) وأحس بادىء ذي بدء أنه قد وضع قدمه على الأرض الصلبة التي يمكنه السير عليها باطمئنان تام ليرسم بعصاميته لا عظاميته لوحة شرف له في سجل الروّاد، ويقيم سياجاً واقياً بين ذاكرته وعهد التدريس الذي وجد في الفكاك منه نصراً كبيراً، لأنه وجد أن أحلامه لن يقدر لها أن ترى النور، وقد عبَّر عن هذا في المسرحية التي قام بتأليفها وإخراجها وعنوانها "بالمفتشري أحسن" قدمت في إحدى الحفلات التي اعتاد المعهد العلمي إقامتها، فقد قال في كتيبه "رحلتي مع التأليف" عند الحديث عن محاولته في كتابة المسرحيات بالصفحة السابعة عشرة: "المسرحية تنديد بخلق الغيبة، كما كانت تهدف في الوقت نفسه إلى تحسين أوضاع المدرسين الذين كان حظهم من حيث الراتب ضئيلاً".
ومن هنا يدرك القارىء أن أحد الأسباب التي قوَّتْ عزيمة عبد العزيز الرفاعي على ترك مهنة التدريس، والالتحاق بديوان مديرية المعارف هو ضآلة الراتب وصعوبة الحصول على الترقية السريعة لكثرة الأعداد التي تتنافس لملء الوظائف التي تشغر أو تستجد.
وعبد العزيز الرفاعي عند مناقشته لموضوع حساس لا يطيل الإفاضة فيه وإنما يلجأ إلى التلميح تاركاً للقارىء أن يشحذ فكره لاستنتاج المقصود، وهو بذلك يحفظ للكلمة كرامتها وعفتها فلا يُشَرَّحها لكيلا تكون مبتذلة.
وسنحاول الحديث عن هذه النقطة فيما بعد. وخلال عمله محرراً بديوان مديرية المعارف نشط في عملية التأليف، ولكنه في هذه المرحلة عمد إلى التأليف المشترك لأن التأليف منفرداً كثير التكاليف لا سيما على موظف مبتدىء راتبه ضئيل يقوم بصرف جزء منه لشراء غذاء عقله وفكره ويمنح أمه ما بقي منه لتدبِّر به شؤون المنزل وتقتني ببعضه ما تحتاجه من مؤونة وماعون ترى أنَّ شراءه ضروري بينما التأليف المشترك لا يرهق كاهله بمفرده بتكاليف الطبع والتوزيع، وإنما يتحمل الشركاء جملة المصاريف بتوزيعها عليهم بالتساوي بينهم أو وفقاً للاتفاق المبرم مبدئياً بين الشركاء.
وبدأ التأليف المشترك مع أحد أساتذته بالمعهد، وهو الأستاذ عمر عبد الجبار، ولنقتطف بعض ما ورد في كتابه "رحلتي مع التأليف" بالصفحة الخامسة عشرة تحت عنوان "في التأليف المدرسي": "شاء الله أن أدخل غمار التأليف المدرسي دون سعي مني، فقد كان الأستاذ الشيخ عمر عبد الجبار - رحمه الله - أستاذي في المعهد وكان يوليني رعاية خاصة ويحاول أن يشجعني، وبدا له أن يؤلف سلسلة كتب في المطالعة أطلق عليها اسم (المطالعة السعودية) وعرض عليَّ أن أراجع بعض أجزاء هذه السلسلة، وقد رأيت أن أبذل قصارى جهدي لأثبت لأستاذي أنني كفء للعمل الذي وسَّده إليَّ.
وكان سروري عظيماً حينما رأيت اسمي في أكليشيه على أغلفة السلسلة ولم يقتصر مكسبي على الجانب المعنوي، وقد كان وحده يكفيني، ولكن أستاذي الكريم أضاف إليه كسباً مادياً فعاد عليَّ ببعض ما عاد عليه من مكاسب مادية وساهم ذلك في تحسين وضعي المادي الذي لم يكن منتعشاً".
وفي هذه الفترة طرق باب التأليف والمراجعة والتحقيق مشتركاً مع نخبة من لداته وزملائه المخلصين، هم أحمد محمد جمال وصالح محمد جمال وعبد الرزاق بليلة وعبد الله فدا وبكر قزاز وصدقة قزاز وحسن أشموني، فقد فكرت هذه الكوكبة من الشباب في إنشاء لجنة للتأليف والترجمة والنشر على غرار لجنة التأليف والترجمة والنشر المصرية والتي كان يعمل بها الأستاذ أحمد أمين.
لقد كان أدباء الشباب في تلك الفترة متأثرين بأدباء مصر تأثراً كبيراً حتى أن البعض منهم سار على نهج كبار أدباء مصر، فمنهم من سلك مسلك طه حسين، ومنهم من أعجب بزكي مبارك، ومنهم من رضي المنفلوطي أستاذاً له.
وكان أولئك الشباب متحمسين تحمساً منقطع النظير لكي يصلوا إلى مستوى متقدم من الثقافة والأدب والعلم، وقد برز هذا الطموح والحماس في المشروعات الأدبية التي أقدموا على تأسيسها. فقبل إنشاء لجنة التأليف والترجمة والنشر قامت مجموعة من الشباب بتأسيس مكتبة الثقافة لاستيراد الكتب والصحف والمجلات من مصر والعالم العربي، وتسويقها، وهؤلاء الفتية هم صالح محمد جمال وعبد الرزاق بليلة ومحمد حسين أصفهاني وعبد الحليم الصحاف، وذلك عام 1364هـ وقبل تأسيس مكتبة الثقافة قام الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود خوجة والأستاذ عبد الله بلخير - وهما في مرحلة الشباب الناضج - بتأليف كتاب "وحي الصحراء" وصدرت الطبعة الأولى منه عام 1355هـ، وفي تلك السنة تحمس ثلاثة شبان من أبناء مكة المكرمة وقاموا بإصدار كتاب سموه: "نفثات من أقلام الشباب السعودي" أرادوا من وراء تأليفه ونشره منافسة كتاب "وحي الصحراء" وهؤلاء الفتية هم عبد السلام طاهر الساسي وهاشم الزواوي وعلي حسن فدعق، وكلهم من مواليد عام 1335هـ.
والذي يهمنا هو أن عبد العزيز الرفاعي عندما كان يعمل محرراً بديوان مديرية المعارف كان يسعى جاهداً أن يأخذ مكانه الطبيعي بين لداته وأقرانه من الشباب المتوثب المتطلع إلى المستقبل لا سيما أولئك الذين وضعوا أولى بصماتهم في سجل النشاط الثقافي والأدبي، ورسموا أولى خطواتهم على الطريق الصحيح الذي يقودهم إلى ما يرغبون تحقيقه، ولذلك وجد فرصته عندما قرر رصفاؤه وأقرانه تأسيس لجنة التأليف والترجمة والنشر، فأبدى رغبته بالاشتراك رغم ضيق ذات يده، وقد أعرب عن ذلك بنفسه في الكلمة التي صدر بها الطبعة الثانية من كتاب "إعلام العلماء الأعلام ببناء المسجد الحرام" تأليف عبد الكريم بن محب الدين القطبي"، علق عليه أحمد محمد جمال وعبد العزيز الرفاعي وشاركهما في التعليق الدكتور عبد الله الجبوري عند إعادة طباعته ونشره ضمن منشورات دار الرفاعي عام 1407هـ، فقد جاء في تلك الكلمة: "كان من بين شباب مكة المكرمة في الستينات الهجرية مجموعة من اللدات تتقارب أعمارهم أشربوا حب الأدب والكتب.
ورأى هؤلاء الشباب أن تكون لهم لجنة للتأليف والترجمة والنشر. وقرر بعض المجموعة أن يخرجوا فكرتهم فوراً قبل أن يقتلها التأني فتذهب بها الأيام، فجمعوا مائة ريال من كل فرد منهم - وكان من بينهم من كان يجهده جداً دفع هذا المبلغ - وذلك ليكونوا رأس مال قدره ألف ريال ينفذون فيه خطواتهم الأولى في نشر الكتاب المحلي".
والرفاعي في هذه الجملة "وكان من بينهم من كان يجهده جداً دفع هذا المبلغ" يعني بذلك نفسه وإن لم يصرح لأنه كثيراً ما يلجأ إلى الجمل القصيرة اللماحة التي يترك للقارىء أن يستنبط منها الهدف المتواري خلفها.
6- عبد العزيز الرفاعي في شرطة العاصمة:
حين تبين لعبد العزيز الرفاعي في ديوان مديرية المعارف أنَّ العمل بها لا يختلف عن العمل في مصانع تخريج الرجال "أي المدارس" من حيث المكاسب المادية وإن كان العمل في السلك التعليمي أكثر فضلاً، وهو ما وطَّنَ نفسه على أن يجود به لطلابه دون مقابل لكن ظروف الحياة تفرض عليه ألاَّ ينسى نصيبه من الدنيا، وأن يسعى إلى كسب ما يحقق له الرفاه والحياة الكريمة له ولأفراد أسرته، لذلك رغب في الانتقال من مديرية التعليم - أي من مجال العلم والثقافة - إلى المجال العسكري، وإن كان انتقاله إليه لا يعني اشتغاله بالجندية المحضة التي تتطلب منه لبس الزي العسكري والتقيد بكامل النظام العسكري وإنّما تنحصر مهامه في شؤون التحرير، وربما كانت طموحات الشباب في تلك الفترة هي التي قادته إلى ذلك المجال حتى يجمع بين السيف والقلم كما جمع غيره من أدباء وشعراء العصور المتقدمة والحديثة فعبد الله بن رواحة رضي الله عنه والحجاج بن يوسف الثقفي وأبو مسلم الخراساني وأبو فراس الحمداني ومحمد سامي البارودي كانت لهم صولات وجولات على صفحات الكتب وفي ساحات القتال فقد خطوا بأقلامهم في سجلات البيان ما أسر الألباب وجاء بالعجب العجاب، وكتبوا بسيوفهم في معارك الشرف والخلود ما تغنت به الأجيال وطأطأت له قمم الجبال.
وأراد عبد العزيز الرفاعي أن يتشبه بهم إن لم يفقهم منزلة فقد كان يردد في جيئته وذهابه من مدرسته إلى بيته ومن سكنه إلى معهده ذلك البيت الشعري الذي يقول:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلـهم
إن التشبه بالكرام فلاح
فما إن لمح فرصة تسمح له بالانتقال إلى المجال العسكري حتى أسرع إلى اقتناصها وبادر بالسعي إليها مستعملاً الوسائل الكفيلة بتحقيق أمنيته والتي تتوفر فيه من سلامة لغته في الكتابة وحسن التصرف والخلق الحسن والالتزام التام بمكارم الأخلاق، مما جعل المسؤولين عن اختبار المتقدمين لمثل تلك الوظيفة الشاغرة أن يجمعوا على صلاحيته لشغل وظيفة "سكرتير ثانٍ بقلم شرطة العاصمة" متميزاً عن غيره بمجموعة من الصفات الحميدة والمزايا التي تجعله يفوق أقرانه المتقدمين.
لقد كان راتب الوظيفة الأخيرة يزيد على آخر راتب تقاضاه في ديوان مديرية التعليم بنسبة تقدر بـ 63٪، وحين استقر به المقام في شرطة العاصمة تبين أنه ليس الوحيد من عشاق القلم الذين طرقوا ميدان العسكرية فقد سبقه إليها الكثير من الرواد ومنهم الأستاذ عزيز ضياء والأستاذ عبد المجيد شبكشي - رحمه الله -.
ولم يكن يدري عبد العزيز الرفاعي - تغمده الله بواسع رحمته - أن هذه الوظيفة هي الدرجة الأولى من سلم حياته الوظيفية التي كان يطمع في الحصول عليها لتكون سبيلاً في بلوغه الأهداف العظيمة التي كانت تجول بخاطره. وإنما كانت بالنسبة له في تلك الفترة مرحلة هامة حققت له زيادة مصدر دخله وساعدته كثيراً في تحسين حالته المادية والتي مكنته من الوقوف بثبات على أرض صلبة لا تخذله حينما تدعوه الحاجة إلى المساهمة في أعمال ذات مساس بالشؤون المالية التي ساهم فيها مع ضيق ذات يده قبل سنتين تقريباً من التحاقه بالعمل في شرطة العاصمة أي عام 1366هـ والتي ألجأته إلى أن يعبر عنها في الكلمة التي قدم بها كتاب "إعلام الأعلام ببناء المسجد الحرام" في طبعته الثانية عام 1407هـ حيث قال في الصفحة الخامسة عند سرده فكرة تكوين لجنة للتأليف والترجمة والنشر بمكة المكرمة:
"ورأى بعض أفراد المجموعة أن يخرجوا فكرتهم فوراً، قبل أن يقتلها التأني فتذهب بها الأيام، فجمعوا مائة ريال من كل فرد منهم - وكان من بينهم من كان يجهده جداً دفع هذا المبلغ" وهو في الجزء الأخير من هذه العبارة إنما يعبر عن نفسه دون التصريح بذلك وكثيراً ما يستخدم هذه الجمل اللماحة التي تدع للقارئ أن يقف أمامها كثيراً ليعرف كنهها وما وراء أكمتها إن كان للجمل أكمات، أو ليفتت كلماتها حروفاً حتى يستطيع أن يعرف مدلولات تلك الحروف ومن ثم التعرف على المعاني الكامنة في أعماق تلك الجمل كما يقول الحداثيون إن كان لهذه المقولة حظ من الصواب، وسأحاول في فصل لاحق من هذا الكتاب أن أضرب عدة أمثلة من هذا النوع.
لم يطل مقامه بشرطة العاصمة أكثر من عام وشهر امتد من 1/7/1367هـ إلى 30/7/1368هـ كان رئيسه في تلك الحقبة من حياته الوظيفية الأستاذ حمزة بصنوي رجل الأمن المعروف وصديق الأدباء، فقد كان الصديق الحميم للأستاذ الأديب الشاعر ورئيس بل مؤسس نادي مكة المكرمة الأدبي والثقافي إبراهيم أمين فودة، فقد عبرا عن قوة رباط الصداقة بينهما إلى أن سَمَّى كل منهما ابنه البكر باسم صديقه فسمَّى حمزة بصنوي ابنه البكر إبراهيم توثيقاً لوفائه لصديقه إبراهيم فودة، وسمَّى الأستاذ إبراهيم فودة ابنه البكر حمزة تأكيداً لصداقته لخليله حمزة بصنوي. وهكذا نجد الارتباط بين السيف والقلم ليس بدعاً في دروب الحياة.
لقد كانت هذه المرحلة من حياة عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - نقطة انطلاق بالنسبة له في مجالات متعددة فقد لمع اسمه في عالم الصحافة والكتابة، وأخذ مكانه في المجال الوظيفي الحكومي، وترك بصماته واضحة على جوانب متعددة من المشاركات في العمل الأدبي، أو الاجتماعي فقد كانت هذه الفترة بداية البدايات وقاصمة ظهر المنغصات المادية، فبعد ثلاثة عشر شهراً قضاها في شرطة العاصمة صدر قرار نائب جلالة الملك بتعيينه في وظيفة مساعد ثانٍ بمكتب شؤون التحرير في المكتب الخاص بالنيابة وكان الأستاذ عبد القدوس الأنصاري - رحمه الله - رئيس ذلك القسم.
7- الرفاعي في "النيابة العامة":
كان لقرار الملك فيصل بن عبد العزيز - رحمه الله - الذي تضمن تعيين الأستاذ عبد العزيز الرفاعي في وظيفة مساعد ثانٍ بمكتب شؤون التحرير بالنيابة العامة أثر بالغ على نفس عبد العزيز الرفاعي أحس به منذ اليوم الأول الذي باشر فيه العمل بالديوان، فقد أبصر أن السعادة تفتح ذراعيها أمامه، وانَّ الجاه يلوح له بيديه مرحباً، وأنَّ كل من حواليه وما حواليه تترقب منه في مستقبل أيامه ما يصدق أحلامها وطموحاتها فيه، ولم يخيب عبد العزيز ظنَّها بل كان شعلة من النشاط والإخلاص والوفاء والتفاني في عمله مرؤوساً ورئيساً حتى أعجب به رؤساؤه وقدروا له دأبه وجهده ومثابرته ومتابعته في إنجاز أعماله ومسؤولياته التي تناط به على الوجه الذي يُرضي رؤساءه، كما أعجب به مرؤوسوه فأحبوه وقدروا حسن معاملته لهم وتوجيهه وإرشاده لهم حتى يكونوا نواة طيبة صالحة تساهم في بناء صرح دولتهم العظيمة.
وتدرج عبد العزيز الرفاعي في وظائف "النيابة" وكان عمله وإخلاصه عدته الجيدة التي استطاع بها أن يحقق ما يصبوا إليه، فبعد ثلاث سنوات من تعيينه مساعداً ثانياً بمكتب شؤون التحرير بالمكتب تمَّ ترفيعه إلى وظيفة رئيس الشعبة المالية الخارجية، ثم اشتغل برئاسة الشعبة الخارجية، وفي 30/9/1373هـ تم تعيينه رئيساً للشعبة السياسية بديوان رئاسة مجلس الوزراء حتى عام 1400هـ حين عين مستشاراً بالديوان الملكي.
فترة الاختبـار:
سار ولاة الأمر (في هذه المملكة منذ تأسيسها على يد المؤسس الباني صقر الجزيرة العربية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود - رحمه الله -) على اختيار الرجال الأكفاء الذين تصل إليهم أخبارهم، مشيدة بهم وبمنجزاتهم وإنجازاتهم وإخلاصهم ووفائهم وصدق انتمائهم، ثم يضعونهم بعد اختيارهم تحت مجهر مراقبة قوي فترة غير محدودة من الزمن ينتظرون ما تتبلور عنه شخصياتهم ويقدرون عن كثَب حصيلة ما يقومون به من أعمال بناءة تضيف إلى عطاءات المجموع عطاءات جديدة ترفع من مستوى الكفاءة والإنتاج.
وعبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - واحد من أولئك الذين برهنوا على تميزهم في السلوك الحسن، وصدق الانتماء الوطني، والولاء للمليك والوطن، والتضحية والفداء في سبيل حماية الأرض الطيبة المباركة من أطماع المعتدين، مهما كان الثمن.
ونجح بتفوق في الاختبار الذي أعد له، وحاز قصب السبق في اجتيازه بامتياز، وحظي بتقدير رؤسائه، ومن ثم باحترام مرؤوسيه، ولن أجعل للحب الذي أكنه لعبد العزيز الرفاعي سلطة على كتابتي عنه فأنسب له ما ليس فيه، ولكني أحاول قدر استطاعتي أن أثبت بالدليل ما يؤيد صدق حديثي عنه. فمن المواد التي يختبر فيه الموظف الذي يرشح لتولي منصب رئاسي في الدولة "أمانة الوظيفة" وأعني بذلك الحفاظ على أسرار الوظيفة وعدم البوح بها لأي إنسان كان وإن كان أقرب الأقربين إليه فلا يجوز له أن يطلع أحداً على شأن من شؤونها دون أن يتلقى أمراً بذلك من المسؤول الذي بيده الحل والربط في تلك الدائرة. وقد كان عبد العزيز الرفاعي صادقاً مع ربه ورسوله وصادقاً مع مليكه ووطنه وصادقاً مع المجموع ومع نفسه وصادقاً مع عمله، فلم يزلّ لسانه ولا قلمه ولم يدفع أيّاً منهما الغرور وحب الظهور والادعاء إلى نشر ما يشم منه القارىء أو السامع ما ينبىء عن تعظيم لذاته وقدرته في الوصول إلى مركز يكون فيه قادراً على تحقيق طلبات السائلين، وأنّ في استطاعته أن يعين الآخرين على معرفة شيء من أسرار وظيفته ولكنه كان نموذجاً آخر، نموذجاً فريداً اكتشفه أولو الأمر فأولوه ثقتهم، وأحاطوه بعنايتهم، ولم يبخلوا عليه بفضلهم، وهو يعمل جاهداً باذلاً أقصى ما يمكنه بذله في سبيل إرضاء رؤسائه عنه، ولنقرأ ما كتبه الأستاذ محمد عبد القادر علاقي في الأربعاء الأسبوعي الصادر بتاريخ 29/3/1414هـ صفحة 24 في رثائه له:
"وقد شغل الرفاعي في ديوان مجلس الوزراء وظيفة هامة هي رئاسة الشعبة السياسية في الديوان، وكان بذلك يصوغ رسائل الملك فيصل - رحمة الله عليه - إلى مختلف رؤساء الدول والزعماء، وتعميد التوجيهات السياسية الصادرة من الديوان إلى وزارة الخارجية والسفارات العربية السعودية في الخارج، كما كان يتلقى التقارير السياسية من كافة العواصم العالمية، ويتولى تلخيصها وعرضها على الملك فيصل - يرحمه الله - الذي كان يعلق عليها بكلمات أو جمل مختصرة، تمكن الأستاذ الرفاعي مع مرور الزمن من معرفة مقاصدِها".
ثم نقرأ رده على سؤال وجهه إليه مندوب مجلة (اقرأ) ونشر في العدد رقم 921 تاريخ 25/1/1414هـ، كان نص السؤال:
ذكرياتك الخاصة مع المغفور له "الملك فيصل" هل لي أن أعرف الكثير عنها، وأهم المواقف والذكريات التي لم تنشر؟
فأجاب - رحمه الله - على ذلك السؤال بهذه الإجابة العميقة المتضمنة الإخلاص لأمانة الوظيفة فقال: "لم يكن لي اتصال مباشر مع الملك فيصل - يرحمه الله - حقاً لقد قضيت سنوات عديدة من عمري أعمل في النيابة، ثم في ديوان الرئاسة تحت مظلته، لكن عبر رؤساء الديوان. إلا أنني كنت ألمس عمق شروحاته على الأوراق والمعاملات. إن ما كان يتحلى به الملك فيصل - يرحمه الله - من صفات أمر مستفيض يعرفه الناس جميعاً. وفي مرات قليلة جلست على مائدة عشائه، فأعجبت ببراعته في إدارة الحديث عندما يلمس أن ضيوفه من الأدباء والمفكرين والشعراء".
هذه هي أمانة الوظيفة، ظل ملتزماً بها حتى بعد تقاعده وإقامة حاجز كبير بينه وبين ممارستها، فلم يسمح لقلمه ولا لسانه أن يغرقا فيما يغرق فيه أمثالهما من الخوض فيما هو حقّ وما ليس بحق، لأنه يرى أن هذا العمل في كلتا الحالتين خطأ جسيم وخيانة للوظيفة.
ومن المواد الأخرى التي يُختبر فيها عظماء الرجال الذين يتشرفون بخدمة أولي الأمر عن كثب مادة الكفاءة الإدارية، ويقصد بها مدى ما يتمتع به الرجل الذي يعهد إليه ولي الأمر بمهمة من المهام ذات المسؤوليات التي لا يقدر على تحملها إلا من وهبه الله من الصفات الحميدة التي تعينه على أن يقوم بإنجاز ما عهد إليه به على أتم وجه، مرضياً بذلك رؤساءه الذين حمّلوه تلك الرسالة، ودافعاً مرؤوسيه إلى الإقتداء به في سيره على النهج القويم الذي اختاره ليقود بحكمته وحنكته ودرايته وخبرته شؤون مسؤوليته حتى يبلغها شواطئ الأمان، محققاً الأهداف المتوخاة والمرتقبة مبتعداً عن المزالق، محطماً كل المعوقات التي قد تقف في طريقه وتحول بينه وبين بلوغه إلى أهدافه.
ولقد استطاع عبد العزيز الرفاعي أن يكون ذلك الرجل الذي لمس فيه أولو الأمر ما يرغبون فيه من الصفات، ومن يعهدون إليه بالأمانة الوظيفية، ولم يكتف عبد العزيز برضى المسؤولين عنه وإنما استطاع أن يحصل ويفوز بحب مرؤوسيه وحب زملائه في العمل.
(أ) رضى المسؤولين عنه:
يتمثل رضى المسؤولين عن عبد العزيز الرفاعي في صور كثيرة منها:
1- رفع راتبه سنوياً بنسبة لا تقل عن 16٪ وربما زادت على 100٪، تقديراُ لجهوده الملموسة في أداء عمله وإدارة دفة شعبته بكفاءة تستحوذ على إعجاب رؤسائه.
2- تكليفه بتمثيل المملكة العربية السعودية في كثير من المهرجانات الأدبية والعلمية، وحضور بعض المؤتمرات، لما يتمتع به من فصاحة ولباقة في الحوار، وقدرة على أن يعطي للغير صورة حسنة عن المملكة، ويكون لها خير سفير، يعدد أمجادها ويبين مزاياها وفضائلها، ويلفت النظر إلى ما تقوم به من أعمال جبارة في سبيل العلم والسلم والحضارة. ومن تلك المؤتمرات والمهرجانات التي حضرها بصفته رئيساً أو عضواً في الوفد السعودي المشارك، المؤتمرات التالية:
(أ) مؤتمر الأدباء العرب الخامس في لبنان عام 1376هـ.
(ب) مؤتمر الأدباء العرب السادس في الكويت عام 1378هـ.
(جـ) مؤتمر الأدباء السابع في العراق عام 1389هـ.
(د) مؤتمر الأدباء العرب الثامن في تونس عام 1390هـ.
(هـ) مؤتمر الأدباء العرب التاسع في الجزائر عام 1391هـ.
(و) مؤتمر الأدباء العرب الذي انعقد بتونس عام 1393هـ.
(ز) مؤتمر الأدب الإسلامي الأول بالهند 1400هـ.
(ح) افتتاح معهد الدراسات العربية والإسلامية في فرانكفورت بألمانيا عام 1402هـ.
(ط) الملتقى الثقافي الإسلامي عام 1406هـ بتطوان بالمغرب.
3- تعيينه بالتزكية عضواً بارزاً في كثير من اللجان والمؤسسات الصحفية والإعلامية، وكذلك الهيئات العلمية رفيعة المستوى منها:
1- عضو مجلس الإعلام الأعلى.
2- عضو إدارة مجلس دارة الملك عبد العزيز.
3- عضو لجنة الإشراف في المجلة العربية.
4- عضو لجنة الإشراف في مجلة التضامن الإسلامي.
5- عضو اللجنة التأسيسية لرابطة العالم الإسلامي.
6- عضو اللجنة الشعبية لمجاهدي فلسطين.
7- بالإضافة إلى أنَّه كان عضواً في مؤسسات علمية خارج المملكة، فهو عضو في مجمع اللغة العربية بجمهورية مصر العربية، وهو عضو مجمع اللغة العربية بالجمهورية العربية السورية بدمشق.
4- ويعتبر تعيينه من قبل خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - عضواً في مجلس الشورى قمة صور رضى المسؤولين، ولم يكتف - سدّد الله خطاه - بالتعيين بل إنه أصدر أمره السامي بعد موت عبد العزيز الرفاعي بتعيين زوج ابنته الدكتور سهيل قاضي عضواً في مجلس الشورى خلفاً له إكراماً له وتقديراً.
وهكذا يبرهن أولو الأمر الذين يقدِّرون جهود المخلصين من أبناء شعبهم انّهم القدوة الحسنة التي ينبغي علينا جميعاً أن نحذو حذوها ونقتفي أثرها، لعلنا نكون لبناتٍ طيبةً في صرح التقدم الحضاري الذي نعيشه، ومصابيح مضيئة في قافلة المسيرة المباركة في دروب البناء الحقيقي للنهضة السعودية التي أخذت تعطي ثمارها وتمد غيرها بفائض خيرها، فبارك الله في كل الخُطا التي ترسم على طريق التضحية والبذل والفداء والجد والكد والعمل والعطاء بصمات ستظل معالم بارزة لكل الذين سيسلكون دروبهم، ويتخذون من علاماتهم البارزة في كل مجال مصدر إشعاع لهم يهيىء لهم السير بأمان حتى يصلوا إلى أهدافهم المرجوة.
(ب) رضى وحب زملاءه له:
سأحاول أن أدلل على رضى وحب زملائه له بما خطته أقلامهم بأيديهم، فهذا معالي الأستاذ محمد عمر توفيق - رحمه الله - الذي زامله في ديوان نائب جلالة الملك منذ بداية الستينات وما بعد ذلك يقول: "لقد عايشت الرفاعي وقتاً طويلاً من بداية الستينات منذ تزاملنا "بديوان النيابة" أو هو "ديوان نائب الملك" حينذاك وكان التعايش على طول فترته سليماً، لم يعكر صفوه قط ما قد يعكر صفو أية علاقة تطول على هذا النحو رسمياً وأدبياً وأخوياً، فما تضعف وإنما تقوى وتتزايد كل يوم. وكان هذا كما أظن شأن أية علاقة قد ارتبطت به أو ارتبط هو بها في دنيا العلاقات على اختلاف مدِّها وجزرها بينه وبين كل من اتصلوا به أو اتصل بهم، فما أعرف أنَّه أساء لأي أحد أو أزعج أي أحد. وإن كنت لا أعرف ما إذا تلقَّى هو أو لم يتلق إساءة أو إزعاجاً من أي أحد، فإنَّ من المتوقع أن يستقبل المحسن الإسـاءة أو التغاضي أو الجحود أو نحو هذا ممن لم يسد هو إليهم إلا الإحسان".
وفي هذه العبارات النابضة بالصدق والتي اقتبستها من مقال نشر بجريدة عكاظ بتاريخ 29/3/1414هـ تحت عنوان "دعاء لفقيدنا الرفاعي" بقلم معاليه - نلمس أن عبد العزيز الرفاعي نقش اسمه في قلوب زملائه ورصفائه في العمل بينابيع دفاقة من الحب والوفاء، والينابيع قد تفعل في الأحجار الصماء ما لم تستطع أن تفعله الأزاميل.
(ج) تعلق مرؤوسيه واقتداؤهم به:
بالقدر الذي استطاع عبد العزيز الرفاعي أن يحتل منزلة محمودة من قلوب رؤسائه وزملائه، فإنه استطاع من جانب آخر أن يظفر بحب وتعلق مرؤوسيه به، واتخاذه من قبلهم قدوة لهم في أعمالهم، وإنجازاتهم، بل كادوا يتشبهون به في أخلاقه وسلوكياته، وفي محافظته على مواعيده، والتزامه بواجباته، وتأديته لها على الوجه الذي يرضي من يرى في إنجازها خيراً، وسأحاول هنا أن أذكر بعض ما قاله مرؤوسوه عنه، قبل وفاته وبعد وفاته، لنقف على أن الحب الذي يحفظه له العاملون معه وتحت رئاسته، هو حب لم تشبه شائبة تعكره أو تلوثه بغرض مادي أو وظيفي، أو يجد النفاق إليه سبيلاً، وإنما هو حب صراح قراح خال من الرياء مجلو من الغش والخداع.
فهذا الأستاذ عبد الرحمن المعمر يقول في ليلة تكريم عبد العزيز الرفاعي في اثنينيّة عبد المقصود خوجة بتاريخ 5/7/1403هـ:
"إن صلتي بالأستاذ عبد العزيز الرفاعي صلة قديمة، فقد عرفته في ديوان رئاسة مجلس الوزراء رئيساً لنا في العمل، وعرفته بعد ذلك فعرفته مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر.
والأستاذ الرفاعي رجل - في زمن قلّت فيه الرجال، وقَلَّ فيه الوفاء - فيه التواضع مبدأً وفيه الحلم سجية، ويكفي دليلاً على حلمه أنه يصبر على مثلي (20) عاماً، وعاشرته في الحضر والسفر فعلمت فيه الوفاء والتضحية.
إنّني أفخر بصحبتي للأستاذ الرفاعي وأفخر بمحبته لي، وفيه قال أحد أصدقائنا في الندوة:
عبد العزيز الرفاعي منتهـى أدَبي
بعد الإله ومقصـودي ومطلـبي
فإنْ ظفـرت بـه فالله يَكلـؤه
فقد ظفرت بقول العلـم والأدب
هذه الجمل المختارة اقتطفتها من حديث ارتجله الأستاذ عبد الرحمن المعمر ونشر في الجزء الأول من الاثنينية بالصفحة رقم 407.
وهذا الأستاذ عبد الرحمن بن محمد السدحان يقول في مقال له نشر بجريدة عكاظ بتاريخ 3/4/1414هـ موسوم بـ "نجم من الأخلاق هوى":
"رحم الله الصديق والأديب الشيخ عبد العزيز الرفاعي فقد كان قدوة حسنة للإنسان السوي، كان سامي النفس، حصيف العقل، طاهر اللسان والقلم. لمست هذه الخصال الحميدة عن كثَب في شخصية الفقيد خلال فترة تشرفي بالعمل في ديوان رئاسة مجلس الوزراء قبل نحو ثمانية عشر عاماً، كنا نعمل تحت سقف واحد حيث كان يرأس قطاعاً هاماً في الديوان، وكنت أعمل خبيراً إدارياً به.
شعرت منذ البداية بهاجس خفي يشدني إليه، كان دَمِثَ الطبع، حلو اللسان، ثاقب الرأي، فطمعت أن أدنو منه كي أتعلم منه وعنه ولم يبخل علي قط بشيء من علم أو نصيحة أو رأي يضيء لي الدرب، ويفسر ما غمض عليّ واستتر وكنت أصغي إليه وكلي تقدير له وثقة به.
ومضت الأيام سراعاً، وانتقلت إلى موقع عمل آخر، وظل هو في مكانه يرقى سلم العلا، لكن واأسفاه تفرقت بنا السبل وتناءت الأماكن فلم أعد أراه إلا لماماً. لا أستطيع اليوم أن أكتم شعوري ثلاثيَّ الأبعاد. فيه شيء من ذنب، وشيء من غيظ، وشيء من أسى؛ لأنني فشلت في تلبية أكثر من دعوة كرمني بها لحضور مجلسه الأدبي العامر كل خميس، كانت ديوانيته، يرحمه الله، ملتقى النخبة من أهل الأدب والرأي.
وإذا كنت بالأمس قد فشلت في تجديد اللقاء بشيخنا الفقيد حيا قصوراً مني نحوه لا فتوراً في الود له فلعل كلماتي هذه في ذكراه تشفع لي عن بعض ذلك القصور.
رحم الله فقيد الأدب والقلم والأخلاق عبد العزيز الرفاعي فقد عاش كريماً ورحل كريماً. وتبقى ذكراه خالدة في النفس لا تموت".
8- مستشار بالديوان الملكي:
في عام 1400هـ صدر مرسوم ملكي كريم بتعيين معالي الشيخ عبد العزيز أحمد الرفاعي مستشاراً بالديوان الملكي بالمرتبة الممتازة، تقديراً لجهوده وتتويجاً لإخلاصه، واعترافاً من ولاة الأمر للرجال الأكفاء من أبناء شعبهم بالاحترام، ليكونوا لغيرهم رموزاً وضاءة في سجل مسيرة هذا الشعب الأمين خلف قيادته الرائدة، حتى يقتدوا بهم ويشقوا بأكف البناء والفداء والولاء والانتماء دروب الخير، ويفجروا بأقدامهم ينابيع ثرّة من العطاء والمنجزات المباركة، التي تفخر بها الشعوب وتجعل منها قوافل تتحدى بها الزمن، وتبني على سماك الخلود صروح أمجادها الأثيلة.
وفي نهاية عام 1400هـ طلب عبد العزيز الرفاعي الإحالة على التقاعد حتى يتفرغ للمهنة التي يعشقها، وهي مهنة الأدب لأنه رأى أن عليه أن يفسح المجال للكفاءات الشابة أن تأخذ طريقها، وتقدم لمجتمعها ولوطنها في ظل رعاية حكومتها القائدة الرائدة التضحيات التي يتوسمها فيها شعبها والآمال والأحلام التي أنيطت بها.
وإيماناً من ولاة الأمر بحق كل مواطن أن يبدي رغبته فيما يحقق مصلحته طالما كانت تلك المصلحة لا تتعارض مع مصالح الآخرين، ومن حقه أن يحصل على حقوقه المشروعة التي كفلها له النظام. وعلى ذلك فقد تمت الموافقة على إحالته على التقاعد بناء على رغبته، وأصبح من غرة محرم 1401هـ طليق السراح من "الروتين الوظيفي" وأصبح من شأنه الخاص أن يزاول عمله اليومي كما يشاء وفي أي وقت يشاء. غير أن مدة خدمته الطويلة في الدولة والتي بلغت أربعين عاماً - أو ما يقارب ذلك - قد تركت بصماتها على سيرته الذاتية، ووضح تأثيرها عند قيامه بأعماله الخاصة بعد إحالته على التقاعد، حيث ينظم وقته ومكتبته ومكتبه ويحرص على أن يبدأ عمله في وقت محدد يلزم العاملين معه بالتقيد به، ويضع جدول مواعيد لقاءاته ومقابلاته اليومية أمامه، على الرغم من أنه يلزم سكرتير مكتبه بمتابعة ذلك وإشعاره بها في صباح كل يوم. ولكن المرء يحبذ ما يشب عليه من العادات والتقاليد، ولكل امرىء من دهره ما تعوّدا.
9- عضو بمجلس الشورى:
في مطلع عام 1414هـ حملت وسائل الإعلام السعودية المقروءة منها والمرئية والمسموعة أسماء الأشخاص الذين شرفتهم ثقة خادم الحرمين الشريفين بتعيينهم أعضاء في مجلس الشورى، وكان عبد العزيز الرفاعي أحدهم فهنأته بذلك كما هنأه الكثيرون من أحبابه وأصفيائه وعشاق أدبه تهنئة هو بها جدير. وكان اختياره من قبل خادم الحرمين ليكون واحداً من النخبة الطيبة المباركة التي لم يقع الاختيار عليها إلا بعد أن لمس فيها الصلاح وحسن القصد وحب الخير والرغبة في الإنتاج وفي العطاء، والإخلاص في النصيحة والإرشاد، وتوسم في كل عضو منهم ملامح الذكاء والإرادة، وعرفهم من سيرهم عملاً وكتابة وسلوكاً، فوجد فيهم ضالته ووضع فيهم ثقته.
لكن القدر لم يمهله ليساهم مع إخوته في أعمال مجلس الشورى، بل لم يحضر أية جلسة من جلساته، فقد كان في تلك الفترة بين فكي مرض خبيث يفتك به بأنياب لا تبصرها العيون، والحديث عنها ذو شجون، وكل من حوله بما يقاسيه لا يعلمون، يبتسم لهم فيضحكون والداء في داخله نشط لعين، يهيئ بمشارطه ومقصاته سبلاً مشرعة أبوابها، معلنة اقتراب موعد الرحيل.
وحين هنأته لم يزد جوابه على جملة واحدة هي: جزى الله أولي الأمر خيراً، فقلت له: جزاهم الله عنك وعنا خيراً.
وبعد شهرين من ذلك انتقل عبد العزيز الرفاعي إلى جوار ربه وترك الدار الفانية، وخلف وراءه علماً ينتفع به، وولداً صالحاً يدعو له، وأعمالاً خيرة، ستكون إن شاء الله في ميزان أعماله الصالحة يوم القيامة.
رحم الله عبد العزيز الرفاعي وأسكنه فسيح جناته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :911  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 30
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.