نسَبُ عَبد العَزيز الرفاعِي |
النسب عند عبد العزيز له مفهوم مغاير تماماً لما يعتنقه الكثيرون، فهو لم يجعل للاعتزاز بنسبه، - رغم شرف ذلك النسب وسموِّه-، ما يجنح إليه بعض الذين تقعد بهم طموحاتهم الوضيعة، وأعمالهم القاصرة عن بلوغ غاياتهم، فيلجؤون إلى رسم هالات حولهم، مستمدة من نسبهم، غيرَ أن عبد العزيز الرفاعي يرى أن النسبَ لا يمنحه حقاً لا يستحقه، ولا يمنع عنه حقاً يستحقه، ولذلك لا يتخذ منه وسيلة في تحقيق أحلامه الكبيرة، وآماله العريضة، والتي تحققت بفضل جهوده المخلصة، في ترويض نفسه على المثابرة، وتجويع معدتهِ لإشباع عقله، فاكتسب نسباً آخر كتبه في سجل الخالدين. |
وهو يرى النسب مكسباً وراثياً، يجدر بالإنسان أن يحافظ عليه، حتى لا يلحق الضرر بالأشخاص الآخرين، الذين يحملون ذلك النسب، فالذين ينتسبون إلى أسر عريقة لها مكانتها العلمية، ولها منزلتها المرموقة في السيادة، وفي الشرف والخلق الرفيع، وينزلقون إلى مزالقَ غير محمودةٍ، يسيئون بادىء ذي بدء إلى أنفسهم، لكن هذه الإساءة تقود بالتالي إلى أسرهم، ومن هنا وجد عبد العزيز الرفاعي نفسَه أمام طريقٍ ليس مفروشاً بالورود، ولكنه محفوف بالمشاق، ولا بد من أن يشقَّ هذا الطريق، بعزيمة وصبر دائبين، حتى يحقق ما يختلج في نفسه، دون أن يعطي نسبه فرصة تقرير مصيره، وإنما ترك لإنجازاته وعطاءاته أن تتحدث وتقرر، ثم تعطي النتائج. ولقد دفعته إلى العصامية وعدم الاعتماد على إرث النسب ما جناه من رياض الأدب والعلم والثقافة. |
ولكي ندرك مدى تعلق عبد العزيز الرفاعي بالروحانيات، وأدب الحكمة شعراً ونثراً، علينا أن نرجع إلى كتيبه الموسوم بـ "رحلتي مع التأليف" الصفحة السابعة لنقرأ ما يلي "أحسب أن أول محاولة لي لكي أخربش شيئاً في دنيا الأدب، هو أن أضع أبياتاً على طريقة أبي نواس، ليس في لهوه. ولكن في حكمته، بعد أن آل أمره إلى الحكمة، فقد وجدت في ديوانه أبياتاً في الحكمة والزهد". كان ذلك وهو في العاشرة من عمره كما ذكره في مقابلة صحيفة أجريت معه ونشرت مقاطع منها بجريدة الرياض العدد (9209 تاريخ 24/3/1414هـ، وإذا علمنا أن طلاب المرحلة الابتدائية، قبل ستين سنة تقريباً، كانوا يتلقون درس المحفوظات، عبارة عن مقطوعات شعرية لكبار الشعراء في العصور المختلفة، منذ العصر الجاهلي، حتى العصر الحديث، وتدور موضوعاتها حول الحماسة والبطولة ومكارم الأخلاق، ولعله قد حفِظ مما حفِظ في تلك المرحلة هذه الأبيات، التي كثيراً ما تغنينا بها أطفالاً في المرحلة الابتدائية: |
العلم يرفع بيتاً لا عِمـادَ لـه |
والجهل يهدِمُ بيتَ العزِّ والشَّرف |
|
وقول عبد الله بن معاوية : |
لسنا – وإن كرُمَتْ أوائلُنا - |
يومـاً على الأحساب نتكـل |
|
وقال آخر: |
العلم زين وتشريف لصاحبه |
فاطلب هُديتَ فنونَ العلم والأدبا |
كم سيـد بطـلٍ آباؤه نُجُبٌ |
كانوا الرؤوسَ فأمسى بعدهم ذنبا |
ومتربٍ خاملِ الآباءِ ذي أدب |
نـال المعالي بالآداب والرتَبـا |
|
وقال غيره: |
الناس من جهة التِّمثـالِ أَكْفاءُ |
أبوهم آدم والأم حوّاء |
فإن يكن لهم في أصلهم شرف |
يفاخرون به فالطـين والمـاء |
ما الفخرُ إلا لأهلِ العلمِ إنهـم |
على الهدى لمن استهدى إدلاء |
|
وقول آخر: |
قد يدركُ الشرفَ الفتى ورداؤُه |
خَلَقٌ، وجَيْبُ قميصِهِ مرقـوع |
|
وقال شاعر: |
كن ابنَ من شئتَ واكتسبْ أدبا |
يغنيكَ محمـودُه عـن النسب |
إنّ الفتى مَنْ يقول هـا أنا ذا |
ليس الفتى من يقول: كان أبي |
|
ومثلُ هذه الأبياتِ كثيرةٌ مبثوثةٌ في صفحاتِ الكتبِ الأدبيةِ ولَّدتْ في نفس عبد العزيز مُثُلاً ساميةً كريمةً وشحذَتْ عزيمَته لأن تبني لها صرحاً متميزاً يجعل مَنْ يتطلَّع إليه يؤمن بقدرته على العصامية فلم يطرق بابَ النسب بل لم يفتح فاه مرة واحدة متفاخراً في حين يتشدَّقُ غيره ممن انتمى إلى الأسرةِ الشريفةِ بانتسابهم إليها في حين تفوح أعمالهم قبحاً وأخلاقهم شناعةً، والعبث والمجون سيرة بعضهم، ومع ذلك يصرون على أن يضعوا أنفسَهم في مصاف البررة، والرسولُ عليه الصلاةُ والسلامُ حينما قال: (بلال منا أهلَ البيت) أو كما قال؛ إنما قال ذلك ليبين للناس أن الرجل الصالح المؤمن حقاً ينتمي إلى الأسرة الصالحة الطيبة المباركة، وتزول عندئذ الفوارق، التي يضعها بعضُ أصحاب النزعَات، ويوجدون في المجتمعات طبقاتٍ تضرِبُ بعضَها بعضاً ليعيش على دمائها العاطلون الذين لم يستطيعوا أن يثقبوا جدار العمل فينفذوا |
إلى عالم الإبداع، والعطاء الخلاّق لا الابتداع والدعوة إلى الشقاق والنفاق وفساد الأخلاق. |
وعبد العزيز الرفاعي وإن لم يُفْصِحْ عن نسبه لي بل لم يفصح عنه للكثيرين من روّاد ندوته فإن سمات وجهه، وكريم أخلاقه، ونبل أعماله، تشير إلى سمو نسبه، دون حاجة إلى الرجوع إلى شجرة النسب. |
الأخ أنس عبد الرحمن عثمان، زميل التخرج في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة الملك سعود عام 1386 والشاعر الرقيق صاحب ديوان "الموانىء التي أبحرتْ" الديوان الذي حظي بمقدمة وافية رائعة كتبها أستاذ الجيل المربي الكبير صاحب القلم النزيه عبد الله عبد الجبار، كتب في جريدة الرياض، العدد 9235 تاريخ 20/4/1414 موضوعاً تحت عنوان: "أيام مع الرفاعي" جاء فيه: "لقد علمت قريباً من الشيخ محمد الحافظ عن شرف انتمائك للنسب النبوي" وهذه العبارة دفعتني إلى البحث والتقصي، على أنني قد وقفت على ما يؤكد صحة انتمائه للنسب النبوي بخط يده، وذلك من خلال قراءتي لقصيدته الموسومة بـ "السلام عليك" والتي وجهها الفقيد – رحمه الله – إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وكانت الأبيات الثلاثة التالية هي خاتمتُها، قال: |
لكَ في كياني ذرةٌ أدنـو بهـا |
إن لمْ أفدْ طبعاً رجوتُ تطبّعـا |
أبتي: إذا ابتلتْ بها شفتي ارتوتْ |
وشعرتُ أَني لن أكونَ مضيَّعـا |
رُدَّ السلامَ فإنْ وهبتَ زيـادةً |
فلأنتَ أهلٌ أن تزيدَ وتشفعـا |
|
وهذه الأبياتُ لا تحتاج إلى شرح، فهي تبسط للقارىء معانيها، دون أن تسلب قدرته على التفكير. فمفرداتها سهلة ألّفَ بينها رباط من التجانس اللغوي، فجعلها كعِقدٍ لآلئُه منظومة، الواحدة تلو الأخرى، في نسق بديع، وهي في جملتها تحدث القارىء بانتماءِ قائلها إلى الأسرة الشريفة. على أن ما ينبغي عدم إغفال ذكره هو أن عبد العزيز الرفاعي قد نظم هذه القصيدة قبل سنتين من وفاته أي بعد أن أصبح علماً يضيء من كل جانب، وأصبح بحراً في أعماقه الدر كامن، أو كما قال الشاعر: |
هو البحر من أيِّ الوجوه أتيته |
فلجَّتهُ المعروف والجود ساحله |
|
ليدلل للجميع أن المنزلة التي احتلَّها في قلوب الجميع لم تبن على انتمائه للأسرة النبوية، وإنما قامت على كفاح وسهر وجِد ومثابرة، لم يصغ للمغريات، ولم ينزلق مع الشباب في نزواتهم، وإنما جعل من العلم سراجه الذي يهتدي به في الظلمات، ومن الفضائل ومكارم الأخلاق عطره الذي يُهديه لمحبيه فيكسِب به رضاهم. |
وإذا رجعنا إلى كتيبه الموسوم بـ (السلام عليك) والذي يأخذ رقم "2" من سلسلة سماها "من ديواني"، والكتيب يحتوي على قصيدة تحمل نفس العنوان، وهي قصيدة نظمها في مدح الرسول العظيم، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعدد أبياتها اثنان وأربعون بيتاً، وقد قام بشرح كل بيت منها، والذي يهمنا من القصيدة، وإن كانت في جملتها مهمة بالنسبة لشرف موضوعها، وللمعاني الكريمة التي اشتملت عليها، ولكن الأبيات الثلاثة الأخيرة هي مطلبنا لأنها تعلن صراحة، أو لنقل بالأصح أن عبد العزيز الرفاعي أعلن فيها نسبه وامتداده إلى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عن الحسين وأرضاه وكرّم الله وجه الإمام علي، حيث يقول في الصفحة السابعة والخمسين من ذلك الكتيب عند شرح البيت الأربعين ما يلي: |
"لما كان موضوع هذه القصيدة هو محاولة امتداحه صلى الله عليه وسلم وتحيته فإن هذه الأبيات الثلاثة الختامية، تدور حول استدرار التحية. وهذا البيت تمهيد لذلك، بالحديث عن رابطة النسب فإني من أسرة حسينية من ناحية الأم والأب، وذلك فضل من الله عظيم أسأله تعالى أن يقرنه بالعمل الصالح، والختام الجميل، وهذا هو الذخر الحقيقي". |
|