وفاء العهد |
عبد الرحمن صدقي: |
عزيزُ، فأين العهد أَوثقت عقدَه |
وأرسلته يَدْوي ويختال من عُجْبِ؟! |
فكان بريداً عنك يسعى لزينبٍ |
بأسمى مثالٍ للوفاء وللحبِّ! |
أقامت به في البيت خالدةَ الرُّؤَى |
تُغَذّيك شعراً خالد النغَمِ العذْبِ |
وفاءٌ محا معنى الوفاة، وقد غدا |
به الميت حياً، وهو في عالَمِ الغيبِ |
أحقاً، عزيزٌ، قد تزوجتَ بعدها |
أَأُنْسيتَ بيتاً ظلّ أُنشودةَ الرَّكْب: |
"سألقاكِ لم يُشغَل فراغ تركْتِهِ |
ببيتي، ولم يُملأْ مكانُك في قلبي" |
|
سعاد: |
عزيزُ، لفقدها ذو اللب طاشا |
وكان وفاؤك العَجَبُ انتعاشا |
إذا قاسوا وفاءَك قلتُ: حِلاًّ |
وإن ذكروا شبيهَك قلتُ: حاشا |
فما نبأ على أمنٍ أتانا؟ |
أحس بأضلعي منه ارتعاشا |
تلقّاه الصديق فلم يصدّق |
فلم يلبث يقينٌ أنْ تلاشى!! |
سموتَ بذكر زينبَ يا عزيزٌ |
وبالشعر الوفيّ غدوت باشا!! |
وذلك وحْيُها يغذوك شعراً |
ويُذْكي في قريحتك النقاشا |
مواهبُ فيك كامنة فأروتْ |
فضائلُ زينبٍ منها عطاشا |
وشأنُ الحرّ أن يَـزْدَاد ودّاً |
إذا ما ازداد جاهاً وارتياشا |
أتبغي بعدها أنْساً بزوجٍ |
وتبني بعدما رحلتْ فراشا؟! |
|
وداد تنادي سعاد مستفهمة: |
وداد: سعادٌ؟ |
سعاد تجيب: قد تزوج!! |
وداد: ………… لا، |
سعاد: ………… وحقّكِ، |
وداد: ……………كيف؟ |
سعاد: ……………… لا أدري!! |
نعمى: |
فـأيـن العهـد؟ ويـحَ العهـد |
زال كنشـوة الخمـرِ! |
أكـان العهـد مصنـوعـاً |
بقصـد ريـاضـة الشعـرِ؟! |
ومـا عهـد الـرجـال لنـا؟ |
فكلُّهـمُ إلـى غَـدْرِ |
عهـود دونهـا الأحـلام |
فـي إغفـاءة الفجـرِ |
ستنفضهـا رُؤَى اليقَـظـ |
ـات عـن جَفنٍ، وعـن فِكْـرِ |
|
خالصـة: |
ألا لا عهـدَ إن غـابـت |
عيـونُ الإلْـف فـي القبـرِ!! |
|
سعاد: |
ألا تعـرفْـنَ؟ قلـبُ المـرء |
بيـن أصـابـع الـربِّ |
يُقلّبـه إذا مـا شـاء، |
جـلّ مقلّـبُ القلـب!! |
|
عزيز باشا: |
أيا ربّ، مالي في قضائك حيلةٌ |
وإني إلى الرضوان منك لأَحْوجُ |
وإنك بالنيّات أدرى، فإن أرُمْ |
سوى شرعك الهادي فإنيَ أهـوجُ |
فهَبْ لي رضاك المبتغَى وسَكينةً |
لقلبـي، فلا يغلـو ولا يتحـرّجُ |
لئن أنطقتنـي سَـوْرة الحـزن ضَلّةً |
فعقل الفتى تحت الأسى يتلجلجُ |
ومـا بـيَ عِيٌّ عن جوابٍ وإنما |
أرى الصمتَ خيراً لي إِذ الحق أبلجُ |
لئن كان شرعُ الله حِنْثاً ومأثماً |
فما لامرئ من حوزة الإثم مخرجُ |
يظنون بي غير الوفاء لزينبٍ |
ألستُ بأوفى اليومَ، إذْ أتزوجُ؟ |
رأيت رسول الله لي خيرَ قُدوةٍ |
وسنَّتُه للعقل والفضل منهجُ |
فلـم ينتقص منه وفاءً لـزوجـه |
خديجةَ أمّ المؤمنين التزوُّجُ |
|
عبد الرحمن صدقي: |
يـا ليـت زينـبَ أَشْـرَفَـتْ |
مـن كُـوَّة الخلـد البعيـدِ |
فتـرى العـزيـزَ وحـوْلـه |
عِـرْسٌ تَهـادَى بـالبُـرودِ!! |
أَنِسَـتْ جـوارحُـه بهـا |
وتـذوقـتْ معنـى الجـديـدِ |
فَشفتـه مـن ألـم الفـراق، |
وأطفـأتْ حَـرّ القصيـد!! |
|
عزيز باشا رافعاً رأسه إلى السماء: |
يـا زيـنُ، يـا زيـنَ الجنـان، ويـا سنـا دار الخلـودِ |
أقسمـتُ بـالرحمـن إلاَّ أنْ تُطِلّـي، ثـم عـودي |
جُـودي بـوجهـك وافصلـي |
مـا بيننـا بـالله جـودي |
هـل أنـتِ راضيـة –أَبِينـي- عـن وفـائـي والعُهـودِ؟ |
|
شَبَح الفقيدة زينب يتراءى منشداً: |
ويحَ الرشادِ بدار اللهوِ واللَّعِبِ |
قد ضاع بالجهل والأهواء والرِّيَبِ |
رويدَ عَتْبِكمُ ظلماً ومَوْجِدةً |
على عزيزي، وما إنْ جرَّ مِنْ سببِ |
كُفّوا السهامَ فما أصْميتُمُ أحداً |
غيري بها، يا لها من نُصْرةٍ عَجَبِ!! |
أتُمسكون برهبانيّةٍ حَرُمَتْ، |
والجاهليّةِ في ظلّ النبي العربي! |
هل تنكرون إذنْ وَحْشيّةً سلَفتْ |
يَحْدو بها الجهلُ قوماً في دجى الحقبِ |
قومٌ إذا مات زوجٌ عندهم دَفنوا |
رفيقَه معه في ظلمة التُّرَبِ!! |
فهل تريدون بيتاً لا عماد له |
وأيُّ أنْسٍ ببيتٍ مُوحشٍ خَرِب؟! |
هل الوفاء سوى الذكر الجميل إلى |
وصلِ الودادِ ببرّ الأهل والنَّسبِ؟ |
فذاك أفضل من حزنٍ يعيش به، |
خيرٌ من الحزن بِرٌّ طيّبُ الخَلَبِ! |
|
نعمـى: |
ماذا نشاهد، أَحلام وأوهام؟ |
أم روحُ زينبَ، أم سحرٌ وإيهامُ؟! |
|
سعـاد: |
بـل روحهـا، جل باريه ومُرسلُه |
واليـومَ يَستحضـر الأرواحَ أقوامُ |
تأتـي وتنطـق عـن علمٍ ورُبّتمَا |
تلـوح منها لبعض القوم أجسامُ!! |
|
وداد: |
أفزينـبٌ غَضْبـى لأجـل |
عـزيـزهـا، ولقـد أضـرّا؟! |
أيسـرّهـا مـا سـاءنـا |
مـن أجلهـا، وتـراه بِـرّا؟! |
|
سعـاد: |
لا تعجبنـي، فالمـرء فـي الأخـرى يـرى مـا لا نـرى |
فلعـل مـا تـأبـى عـواطفنـا يكـون هـو الهُـدى |
|
خالصة تخاطب شبح زينب: |
يـا زينَ، لـم ننكـر عليه زواجَهُ |
لو لم يكن بالعهد شدَّ رتاجَهُ |
أوَليـس أجـدرَ أن يبـرّ بعهـده |
مـن أن يعـود بعهده أدْراجَـهُ؟ |
|
شبح زينب: |
ألا إن شـرع الله عهدٌ ومَـوْثـقُ |
بـأعنـاقكـم، لو تعلمون، معلَّقُ |
فذاك هو القسطاس، كلُّ أليَّةٍ
(1)
|
تحيـد بكـم عنه فذلـك مَوْبِقُ |
ألم تحفظوا ما كان أوصى رسولُكمْ |
ولم يك يوماً عن هوًى منه ينطقُ: |
إذا المـرء بالمكروه أبرم عهده |
فحِنْـثٌ وتكفيـرٌ أحـقُّ وأوثـقُ |
أيصـبح زيـغ بالأَلِيَّـةِ حكمـةً |
َلَعهـدُ اتّباع الشرع أولى وأسبقُ |
|
عبد الرحمن صدقي: |
صدَقتِ، ورب البيت، ليس بممسكٍ |
علـى خَطَلٍ إلاَّ جهولٌ وأحمـقُ |
وكائِنْ نَقَضْنا فـي الحياة عزائماً |
إذا لم يكن في العزم حَزْمٌ ومَنْطقُ |
جميلٌ ثَباتٌ في الفتى عند عزمه |
وأجملُ من ذاك الصوابُ الموفَّقُ |
|
سعاد: |
بـوركـتِ زينـبُ عمَّ فضلُكِ |
فـي الحيـاة وفـي الممـاتِ |
فلأنـتِ أفضـل مـن عرفنـا |
مـن نسـاء المَكْـرُمـاتِ |
أوتيـتِ مـن فصـل الخطـاب |
وفضـلِ خيـر المُحْصَنـاتِ |
|
شبح زينب: |
عـزيـزُ، تمتع مـا أبـاح لك اللهُ |
ووُدُّك عنـدي راسـخ لستُ أنساهُ |
عليـك سلام الله فاهنأ، وبوركَـتْ |
عرُوسك في أحلى نعيمٍ وأصفاهُ |
وعند إله العرش مَجْمَع شملنا |
على خير مـا يُرضيه منا ونَرْضاهُ |
|
يتوارى شبح زينب، وينشد عبد الرحمن صدقي مخاطباً عزيز باشا: |
دُمْ عزيزاً، يـا عزيزٌ، فلقدْ |
نلتَ حظّاً مـن صوابٍ وَرَشَدْ |
|
سعاد: |
فلـكَ التوفيـقُ يسعـى والرَّغَـدْ |
في وَلاءٍ ورِفـاءٍ ووَلَـدْ |
|
وداد: |
عشتُما فـي الأَمـن مـن كيـد الحَسَـدْ |
|
خالصة: |
وشُـرورِ النـافثـات فـي العُقَـد |
|
نعمـى: |
مـا أَنـار الكـونَ مصباحُ الأَبَـد |
|
الجميع يعيدون بلسان واحد مخاطبين عزيز باشا: |
دُمْ عـزيـزاً يـا عـزيـزٌ، فلقـدْ |
نلـتَ حظّـاً مـن صوابٍ ورَشَدْ |
فلك التوفيق يسعـى والرَّغَدْ |
فـي وَلاءٍ ورِفـاءٍ ووَلَـدْ |
عشتُما في الأمن من كيد الحَسَدْ |
وشُـرور النافثات في العقدْ |
مـا أنار الكـونَ مصبـاحُ الأبـدْ |
|
|
دمشق، 22 شعبان 1365هـ = 21 / 7/ 1946م. |
|
|