شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
... فيالرصاص راح يُرى به درُّ!!
في رثاء السيدة الشهيدة شفيقة جبري التي قُتلت برصاص الجيش الفرنسي في إحدى المظاهرات الوطنية الكبرى أيام الاستعمار الفرنسي في سورية..
* * *
في أيام محنة سورية بالاستعمار الفرنسي، وبعد قضاء الفرنسيين على الثورة السورية اشتد طغيانهم واستبدادهم وحكمهم الإرهابي واستئثارهم بمصالح البلاد الاقتصادية.
وفرنسا في الأصل لم تكن محتلّة في سوريا احتلالاً حربياً عسكرياً، بل كانت منتدبة انتداباً من عصبة الأمم لإيصال البلاد إلى الرشد السياسي لكي تهيئها للاستقلال. وهذا الانتداب من الصيغ التي اخترع المستعمرون في عصبة الأمم أساليبها ليتوزعوا البلاد المنفصلة عن الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، دون أن يسموا ذلك استعماراً، ولكنهم كانوا يمارسون هذا الانتداب كما لو كان استعماراً.
ثم أرادت فرنسا أن تعطي استعمارها في البلاد صيغة وصورة مشروعة قانونية دائمة عن طريق إرادة أهلها، وذلك بمعاهدة تعقدها بينها وبين سورية توقعها الحكومة السورية التي أقامتها فرنسا من الوزراء الخاضعين لإرادة المستشارين الفرنسيس، ويصادق عليها مجلس النواب السوري الذي زَوّرت فيه الانتخابات حتى جاء معظم أعضائه من الأتباع الذين تثق فرنسا بولائهم وحرصهم على رضاها بأي ثمن كان، سوى قلة من الوطنيين المناضلين الذين نجحوا في الانتخابات النيابية رغم الضغط الفرنسي على الناخبين، وفي طليعة هؤلاء الوطنيين السيد جميل مردم بك كبير زعماء حزب الكتلة الوطنية في دمشق.
وبعد أن هيأت فرنسا نصوص المعاهدة المنشودة بصورة تضمن لها كل سلطاتها الاستبدادية، وتجعل الإرادة والمصالح الوطنية السورية صفراً على الشمال، أحيلت المعاهدة إلى مجلس النواب السوري للتصديق عليها، ونشرت نصوصها، وثارت العناصر الوطنية في طول البلاد وعرضها بقيادة حزب الكتلة الوطنية، وخرجت مظاهرات احتجاجية كبيرة في كل بلد لرفض المعاهدة.
وفي دمشق سارت مظاهرة عظيمة وقت اجتماع مجلس النواب نحو المجلس مما أحرج النواب الموالين لفرنسا. وبحركة بارعة وحسن تصرف من السيد جميل مردم بك ومن معه من إخوانه الوطنيين في المجلس استطاع تسجيل قرار من المجلس برفض المعاهدة، فجن جنون المندوب الفرنسي في دمشق وأعلن فوراً حل مجلس النواب، وأعطيت الأوامر للجيش الفرنسي أن يتدخل لتفريق المظاهرات وكانت مظاهرة دمشق عظيمة زحف فيها الرجال والنساء، فقتلت فيها السيدة شفيقة جبري أخت شاعر دمشق وأديبها الكبير الأستاذ شفيق جبري برصاص أحد الجنود الفرنسيين، وفي اليوم الثاني خرجت في دمشق مظاهرة عظمى لدفنها وكان يوماً مشهوداً للتعبير عن مدى استياء البلاد وسخطها على الفرنسيين وكنت أنا إذ ذاك في السنة الأخيرة من دراستي في الجامعة السورية سنة/ 1933، فنظمت هذه القصيدة في رثاء السيدة شفيقة جبري رحمها الله تعالى:
لتشهدْ عيون الشهب ولْيسمع الدهر
مآسي للطغيان ناء بها الصبرُ
وسجّلْ أيا تاريخ وانقل إلى الدُّنا
من الظلم ما لا يحمل النظم والنثرُ
رويدكِ فينا يا فرنسا ألم تَري
ولم تسمعي ما يثمر البغيُ والجَوْرُ؟
حملتم طباع الوحش بين ضلوعكم
ففي كل يوم منكمو بَغْيةٌ بِكرُ!
ألا إنَّ سِفر الظالمين، وإن طَوى
صحائفه كتمٌ، سيدركه نشرُ
ألم تَروهمْ مِنّا، وقد ولغوا بها،
دماءُ رجالٍ لا رِخاصٌ ولا هَدْرُ
ألم تَروهم حتى استباح رصاصُهم
حرائرَ لا يرضى الهوانَ لها حرُّ
أثارتْ وأورت في النفوس إباءَها
معاهدةٌ في طيّها الغَبْنُ والمكرُ
معاهدة رقطاء ما في سطورها
من العدل والإنصاف، واعجبا، سطرُ!!
معاهدة ضيزى بفضل بنودها
خرجنا، فما للشعب دار ولا أجرُ!!
فمن أجلها عاف الحياة أكارم
إلى الموت وُرّادٌ، وقد أَمِرَ الأمرُ
وطاشت عقولٌ إذ بدت كلُّ غادةٍ
محجَّبةٍ لمّا ألمّ بها الذُّعرُ
هبَبْن كما ثارت طيور نوافر
من الوكر ريعت حينما هوجم الوكرُ
فسِرْنَ وقد سالتْ بهن شوارع
ينادين: لا طغيان إلاَّ له قبرُ
يَطُفْن فيُلهبْن القلوبَ نواعيا
ويَندُبْن أوطاناً يُحاك لها الغدرُ
فأمطرهُنَّ الجندُ وبلَ رصاصهم
فتلك دمانا في ثقافتهم حبرُ!!
وقَرْطَسَ وغدٌ منهم رأسَ حرّةٍ
بها عزّةٌ من يعربٍ وبها كِبْرُ
فخرَّتْ صريعَ البغي وهي شهيدة
فيالرصاصٍ راح يُرمَى به درُّ!
أنأمل منهم بالنساء ترفقا
وما كان في الأعلاج رفقٌ ولا برُّ
ومن أين للأعلاج نُبْلٌ ونخوةٌ
وما همّهم إلاَّ المفاسق والعهرُ
وقد زعموا بين الأنام بأنهم
-ألا كذبوا- رُسْل الثقافة والنُّذْرُ
وأن لديهم للورى مدنيّةً
ومن نورهم يسعى إلى البَشَر البِشْرُ
فلم نر هاتيك الثقافة والهدى
سوى جَشعٍ يُعْري البلاد متى يَعْرُو
أباحوا دمانا في سبيل استلابنا
فهل فاتهم ناب من الوحش أو ظُفر؟!
* * *
إذا الشهداء الغُرُّ جاؤوكِ فاندبي
فما زال يا جَبْريّةٌ بعد الجَبْرُ
فقد عطّلوا بالعسف مجلس أمة
وطوّقه الإرهابُ واستحكم القهرُ
وما ذنبنا إلاَّ طِلابُ حقوقنا
كأن طِلابَ الحقِّ -ويلهمو- كفر!
شفيقةُ، إن أرداك علج فإنما
خلودك في المستَشهدين هو الذُّخرُ
مشى بك نعش للخلود كأنما
هو البدر تسري حول هالته الزُّهْرُ
أظلَّ سَراةَ القوم منه مهابةٌ
وقد حَبسوا ماءَ العيون فلم يُذْروا
وثار مكان الدمع تعظيمُ أمةٍ
وأولى من الدمع المباهاة والفخرُ
فلم نر نعشاً ودَّ كل مشاهد
له لو يُسجّيه به ذلك السِّتْرُ!
ومن خَلْف ذاك النعشِ أكباد أمةٍ
يُفتِّتُها ثُكْلٌ، ويغلي بها ثأرُ
حمَدتُ بني قومي الغداة فإنهم
أهاب بهم من يعد رقدتهم حَشْرُ
إذا جاهدت منا النساءُ وفَوَّزَتْ (1)
شهيداتِ أوطانٍ فقد طلع الفجرُ
دمشق، السبت 15 من شعبان 1352هـ = 2/12/1933م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :827  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 39 من 56
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج