بسم الله الرحمن الرحيم |
تقْـدِيم |
|
الدكتور محمّد علي الهاشمي |
|
|
أسْتَاذ الأدبْ العَربيْ في كليّة الآدَابْ للبنَات فيْ الريَاض |
|
إن الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقاء عالم نابغة فذّ، من أبرز علمائنا المعاصرين النوابغ في الفقه والشريعة واللغة والأدب. حباه الله موهبة متفتحة خصبة، وذاكرة علمية قوية، وعقلاً كبيراً جوّالاً في شتى جوانب المعرفة. |
أتمَّ دراسته الشرعية في مدينة حلب، ثم انتقل إلى جامعة دمشق، حيث أتمَّ دراسة الحقوق والآداب معاً في وقت واحد، وفاز بالتقديرات الأولية العليا في كل منهما، وعكف بعد ذلك على الاشتغال بالفقه، وتحرير مسائله والتفصيل في قضاياه، حتى نبغ فيه، وبلغ مرتبة عليا بين فقهاء هذا العصر، هذا إلى جانب تمكُّنه من اللغة العربية وتمرُّسه بأسلوبها الفصيح، وبذلك جمع بين الثقافتين الشرعية والحقوقية، والثقافة العربية الأدبية. |
وقد قام بتدريس الفقه وأحكام الشريعة والقانون في جامعة دمشق وعمّان، وانتدب لتدريس الشريعة وعلومها في عديد من جامعات العالم العربي. |
ومن هنا عُرف الأستاذ الزرقاء عالماً من علماء الشريعة، وفقيهاً من كبار فقهائها البارزين المعاصرين. |
أما الجانب الآخر من شخصية الأستاذ الزرقاء الفكرية، وهو الشعر، فلم يعرفه إلاَّ ثلَّة من معارفه وأصدقائه الخلَّص المقربين. |
لم يطغَ الشعر على قريحة الأستاذ الزرقاء، ولم يستحوذ على اهتماماته العليا إلاَّ بمقدار، ذلك أن الفقه الإسلامي ومسائله الشائكة العويصة، وبحوثه المهمة المتشعبة، كل أولئك كان يحتل بؤرة شعوره، ويملأ بياض أيامه وسواد لياليه، ويصرفه عن قرض الشعر، كما قال لصديقه الأديب الشاعر إبراهيم العظم: |
أخذ التفقُّـه مـن فـؤادي شعـره |
نغَماً ألذّ لديّ من قطـر النـدى |
وأعاضني بثقافة الحق الـذي |
نادى الإِلـه بحكمـه، وتـوعّـدا |
لا تَبـغِ منـي أن أُجيـب فإننـي |
مهما جريتُ وجدْتُنـي دون المـدى |
دُمّ في فضائلـك العـُلا متفـرداً: |
مني الطَّروبُ، ومنك غِرّيـدٌ شـدا |
|
على أن قريحة الأستاذ الزرقاء الشعرية ما كان لمائها أن يغيض، ولنبعها أن ينقطع، وصاحبها الرجل المرهف الإحساس، المتدفق المشاعر، الذواقة لألوان الجمال والمتعة والزينة الحلال. وكان من الطبيعي أن تفيض نفسه بالشعر الرائق الصافي الصادق كلما وُجدت الدواعي لديه لقول الشعر، من رؤية منظر طبيعي خلاّب، أو مناسبة فرح أو ترح، أو رؤية إنسان جهول يقف في وجه الصلاح ويصدّ عن سبيل الله، أو انفعال النفس بموقف إنساني نبيل... وما إلى ذلك من دواع، تهيج القريحة وتستجيشها، فإذا القلم ينساب على الورق مسطراً خلجات النفس، راسماً خفقات القلب. |
- هذا هو الشعر الذي انساب من قريحة الأستاذ الزرقاء، إنه الاستجابة العفوية الصادقة لما كان يخالج نفسه بين الحين والحين من مشاعر وأحاسيس. |
ولما خفّت أعباؤه الجامعية، وفرغ إلى نفسه، وبلغ التسعين من عمره، بارك الله فيه، رأى أن يلملم أوراقه الشعرية، وأن يجمع شتات ما جادت به قريحته في أوقات متباعدة ومناسبات مختلفة، مصنفاً موضوعات قصائده ومقطوعاته في مجموعات تضمها دفّتا ديوان، فكانت على النحو التالي: |
1- افتتاحيات |
2- وصف ومشاعر |
3- المراثـي |
4- إخوانيات |
5- غـزل |
6- وطنيـات |
7- مدائح |
8- منوَّعات |
9- مسرحية |
10 – مسك الختام: القرآن العظيم. |
|
- وقد قدّم الأستاذ الزرقاء لكل قصيدة أو مقطوعة بمقدمة، تبسط المناسبة التي قيلت فيها، وجاءت هذه المقدمات مصوّرة أشخاصاً ووقائع وفترات وتجارب شعورية، عاشها الشاعر وانفعل بها، وأرّخ لها، مستقصياً مدققاً موضِّحاً كل ما يتصل بالشعر الذي يقدَّم له من قريب أو بعيد. ومن هنا تميزت هذه المقدمات بالدقة والرصانة ونصاعة البيان. |
وهذا التنوع هو الذي جعله يختار لديوانه هذا اسم: "قَوْسُ قُزَح" تشبيهاً بألوان الطيف التي يرسمها قوس قزح في كبد السماء أيام الربيع. |
وبعد مقدمة القصيدة أو المقطوعة تأتي الأبيات مضبوطة محررة، وقد شرح بعض مفرداتها المحتاجة إلى فضل بيان شرحاً دقيقاً واضحاً مدعَّماً بالشواهد والأمثلة، يحس من يقرؤه أنه أمام عالم راسخ القدم في اللغة، عالم بأصولها ومفرداتها وأوابدها الشرود. |
- ويبدو هذا واضحاً في وصف القاطرة البخارية بلغة وأوصاف الناقة في الشعر العربي القديم بقصيدة من روائع الشعر تبرز فيها لغة الشعر الجاهلي وأسلوبه، مطلعها: |
فهل تُبْلِغَنّي دارَكم عَجْرفيّةٌ |
من اليَعْمَلات السُّحْم، لا الأيْنُقِ الأُدْمِ |
لها حينما تغدو هَديرٌ كأنه |
زئير يُجلّي وقعُـه صمَـمَ الصُّـمِّ |
وما رعتِ السَّعْدانَ يوماً ولا الغَضا |
ولكن تُغذَّى بالبخار وبالفحم |
|
ومنها: |
على طرق الفولاذ تجري إلى المدى |
كمثل هجوم الأُفعوان على الخصم!! |
|
ومنها: |
بعين كعين الشمس تُجْلى بها الدجى |
ولكنها عمياءُ في نظر القوم!! |
|
ومنها: |
عقيم ولا تبغي الفحول وإن جرَت |
َتَجُرّ من الأولاد أكثر من أُمّ!! |
|
- وشعر الأستاذ الزرقاء فيه الجدّ، وفيه الهزل والفكاهة والمرح. وفي قمة شعره الجاد أبياته في ختام الديوان بعنوان "مسك الختام "يصف فيها القرآن الكريم وإعجازه، كتبها لأحد المسؤولين في السودان ليستهل سلسلة محاضرات عن القرآن الكريم من إذاعة السودان، ومطلعها: |
كتاب من العلم المحيط مِدادُه |
به صفحات الكون تُتلى وتُسمع |
فآياته مرآه صدقٍ جلية |
يُرى ما مضى فيها وما يُتوقَّع |
|
- ومن شعره الجاد مراثيه، ووطنياته، ومدائحه. ويلاحظ في شعره بوجه عام أنه سلس لا تَكَلُّف فيه، وأن قوافيه محكمة الحبك والسبك، مثل سك الدنانير!! |
أما الهزل والفكاهة والمرح فنراه في إخوانياته وغزله ومسرحيته الرائعة الشعرية بعنوان: وفاء العهد، المهداة إلى عزيز أباظة باشا بمناسبة زواجه الذي نقض به عهده بأن لا يتزوج بعد وفاة زوجته الأولى زينب. |
- وغزله عفيف، مهما قال فيه فهو لا يعدو الصبوة والحنين إلى الأُنثى الزوجة الحليلة، كما في قوله: |
أخذ الحنين إلى الحبيب يناغي |
وإلى المحيا أشقر الأصداغ |
|
وهي قطعة تصويرية من أبلغ الشعر وأروعه. |
- ومراثيه، ولا سيما في زوجتيه وابنه وأخته وأصدقائه الخُلَّص، دمعات حارة، وزفرات حزينة، فيها رنة الحزن الصادق، ولوعة الرُزْء الأليم، وتسليم الإنسان المسلِّم بقضاء الله وقَدَره. |
- أما قصائده الوطنية، فهي من الشعر الرصين الجريء، الذي جبه الاستعمار الفرنسي، وهتك الستر عن جرائمه ومخازيه، ونوّه بحركة الجهاد الوطني ورجالاته الأحرار، ومنه قوله في رثاء السيدة شفيقة جبري التي أرداها رصاص الفرنسيين في إحدى المظاهرات الوطنية الكبرى في دمشق: |
لِتشهدْ عيونُ الشهب ولْيسمعِ الدهرُ |
مآسيَ للطغيان ضاق بها الصبرُ |
وسجِّلْ أيا تاريخ وانقُلْ إلى الدنا |
من الظلم ما لا يحمل النظم والنثر |
رويدكِ فينا يا فرنسا ألم تريْ |
ولم تسمعي ما يثمر البغيُ والجور؟ |
|
ومنها: |
هَبَبْنَ كما ثارت طيورٌ نوافر |
من الوكر، رِيعت حينما هوجم الوَكْر |
وقَرْطَس وغْدٌ منهمو رأسَ حُرّةٍ |
فيا لِرصاصٍ راح يُرمى به درّ!! |
|
- وأما مديحه فقد اقتصر على من يحبهم بحق، ويجلهم بصدق، كصديق عمره دولة الدكتور معروف الدواليبي، فقد أسبغ عليه ما يستحقه من حلل الثناء والمكارم والأمجاد، ومنها قوله في مديح الدكتور الدواليبي لما عاد من الدراسة في فرنسا عقب الحرب العالمية الثانية: |
أمعروفُ، هذا قياد الشباب |
وقد غبت عنه، فهيّا استلمْ |
وكن سند الحق للمصلحين |
إذا سند بذويه انهدمْ |
كما كنت في الغرب بَدْر الرفاق |
تلم الشتاتَ وتجلو الظُّلَمْ |
ألا أيها الألْمعيُّ الذكي |
الوفيّ الأَبيّ العليُّ الشِّيَمْ |
ويا من عُرفتَ بهذي الصفات |
فبتَّ غنيّاً عن اسم العلَمْ |
لِيَهْنِكَ أن العُلاَ قسمةٌ |
وأنك قد حُزت منها الأَتَمّ |
|
ولما قام علاَّمة بلاد الشام ومحدثها الشيخ بدر الدين الحسني بجولته في سوريَة وزار المدرسة الشرعية التي كان الأستاذ مصطفى الزرقاء في ذلك الحين تلميذاً فيها مدحه بقصيدة ترحيبية ألقاها بين يديه في حفل استقباله، كانت متينة السبك واللغة، جديرة أن تَصْدُر عن كبار الأساتذة المتمرِّسين بالشعر لا من تلميذ في ثانوية شرعية. |
- وبعد، فهذا الجانب الفني الشعري من شخصية الأستاذ العلاَّمة الشيخ مصطفى الزرقاء، وهو جانب مشرق وضاء، يضفي على الجانب العلمي والفقهي والقانوني في شخصيته من طلاوة الأدب، ورونق الشعر، وأَلْق الفن، ما يزيد شخصيته ثراء وتنوعاً وعبقرية. |
|
الدكتور محمّد علي الهاشمي |
|
|
|