شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
كَلمـة النَّاشِـر
الشعر كائن حي، ويظل كذلك مهما تقادم به العهد، يبقى ذلك الطفل الناري، يبكي فنهدهده لينام على مهد الحنان، أو يتمرد ويرتفع فوق هامات الغمام مثل طائر الرعد، أو يوري الحصى قدحاً تحت سنابكه كمهر عنيد.. وبما أنه كائن حي.. فلا بدَّ أن يكون له تأريخ ميلاد.. ومخاض ولادة قد يستغرق ساعات أو شهوراً أو سنوات، أما أن يستغرق المخاض أكثر من ستين عاماً كما هو الحال بالنسبة لهذا الديوان، فإنها حالة تستدعي البحث عن مبررات وأسباب تفسر هذا المكث الطويل في طيات المجهول.
وشاعرنا العلاَّمة الفقيه، معالي الشيخ الدكتور مصطفى الزرقاء لم يترك الباب موصداً أمام التساؤلات المشروعة في هذا المقام فأجاب قائلاً:
أخذ التفقـه مـن فـؤادي شعـره
نغماً ألذ لديَّ مـن قطـر النـدى
وأعاضني بثقافة الحق الذي
نادى الإله بحكمه، وتوعَّدا
هذه الإجابة الكافية الشافية تشير بكل وضوح إلى أن أستاذنا الكبير مطبوع على الشعر، أحب فؤاده هذا الفن الرفيع، وامتزج بدمائه، وخالط وجدانه منذ نعومة أظافره، فبرع فيه براعة من أتقن صنع الآلة بنفسه قبل استخدامها.. فهو عليم بكل تفاصيلها، ومميزاتها، و إمكاناتها، وطرق استعمالها، تمكنت نفسه الشفافة من ارتشاف معظم أقوال العرب السابقة، درس المتنبي والبحتري، وأبا تمام، وأحب كثيراً أبا العلاء المعري.. وحكمته، ولزومياته، فجاراه شعراً دون ما وجل من تلك اللجة العميقة، وحق له أن يفخر بتلك المحاولات الجريئة لأنه امتلك ناصية البيان، وصقلها بالعلم والتربية الدينية الصالحة، وتوَّجها بالدراسات الشرعية والحقوقية.
وتأتي هذه الكلمة لتلقي بعض الضوء على المناسبة التي سعدنا فيها باستضافة أستاذنا العلامة لتكريمه ضمن أمسيات الاثنينية التي أقيمها بدارتي بجدة لتكريم ذوي الفضل والعلم والإبداع، وكان لنا لقاء بتاريخ 17/6/1412هـ الموافق 23/12/1991 بمعالي أستاذنا مصطفى الزرقاء حيث تبين من خلال الحوار والمناقشات وما طرحه بعض الأساتذة الحضور أن شيخنا لديه باع طويل في الشعر وإن غطى عليه التفقه –كما أشار في بيتيه اللذين أوردتهما أعلاه– وبالتالي انزوى الشعر في ركن صغير من اهتماماته الواسعة، ومشغولياته الكثيرة، وعندما استيقظ الشعر في تلك المناسبة السعيدة، كان لا بدَّ له من مدخل إلى المتلقي، ولا بد للمدخل من جسر يصل به إلى المحبين، وبما أن المدخل موجود سلفاً، وهو شفافية شعر معالي أستاذنا الكبير وملامسته لشغاف القلب دون وسيط، فإن الجسر قد تشرفت [الاثنينية] ضمن رافدها [كتاب الاثنينية] الذي قمت من خلاله بنشر عدة أعمال لبعض الأساتذة الذين لم يرغبوا في النشر عزوفاً عن الأضواء، أو ظناً منهم بأنهم لم يقدموا بَعْد الشيء الذي يستحق النشر، وتلك من شيم الكبار التي أدَّت إلى وأد كثير من الأعمال وضياعها، فكلما ازدادوا علماً زادت قناعتهم الشخصية بأنهم لم يصلوا إلى المستوى الذي يعرضون فيه أعمالهم على القراء.
وقد استطاع [كتاب الاثنينية] أن يتغلب على هذه الإشكالية بعد حوار مستفيض مع كل ممن تشرفنا بنشر أعمالهم لإقناعهم بأن الساحة في حاجة ماسة إلى عطائهم الثر مهما كانت درجته من وجهة نظر المبدع.. ولله الحمد وجدت معظم الأعمال قبولاً حسناً لدى ذوي الاهتمام، ونتطلع إلى أن يجد هذا العمل أيضاً مساحته التي يفرضها بحلاوة جرسه، وقوة بيانه، وصفاء أسلوبه، ونقاء مقاصده، وكثير من المزايا التي سيكتشفها القارئ الكريم.
ورغم أن معالي أستاذنا مصطفى الزرقاء بحر في العلوم الشرعية والفقهية والقانونية، إلاَّ أن شعره يتكون من مزيج رائع من مختلف أغراض الشعر، وقد قسم معاليه الديوان إلى عدة أجزاء بحيث يشتمل كل جزء على غرض معين، ولا يخلو شعره من طرافة وملاحة وظرف نابع من أصالته وحبه للناس ومشاركته لهم أفراحهم وأتراحهم.. بالإضافة إلى شاعريته التي وظفها لخدمة القضايا الوطنية التي كانت تشغل الشباب إبان بواكير حياته الحافلة بجلائل الأعمال.
ويلاحظ في شعر أستاذنا الكبير قوة اللفظ منذ بداية قرضه للشعر وهو في مَيْعة الصبا، إلى وقتنا الحالي.. فرغم أنه مر بمراحل عديدة -علمياً وعملياً- إلاَّ أنه تجاوز بما لديه من قاعدة لغوية صلبة مسألة التدرج في العطاء من سطحي طفولي، إلى شبابي صاخب، إلى رجولي عميق.. فنجده في جميع المراحل تقريباً ذلك الناضج الذكي الذي استطاع تطويع أدواته لخدمة أغراضه دون زيغ عن الجادة وتجانف عن الحق.. فأصبح الشعر بالنسبة له أداة طيعة للتعبير عن خلجات نفسه، والمتنفس الطبيعي لما يعتمل في ذاته (البركانية) إذا جاز التعبير.. فمرور سوريا (موطن الشاعر) بمرحلة الانتداب الفرنسي ومشاعر السخط التي انتظمت السوريين الأحرار ضد المستعمر قد أوقدت في قلب شاعرنا الكبير، مثل سائر الشرفاء، جمرة الجهاد التي أشعلت حريق الغضب تجاه الاستعمار بكل أشكاله وألوانه، وكشفت ألاعيبه على الملأ، وعرته من ورقة التوت التي كان يتستر بها أمام الضمير العالمي.
لقد كان جهاداً جاداً وحقيقياً، استخدمت فيه الكلمة، والسلاح، والدم الزكي الطاهر، الذي سال من الرجال والنساء ليختلط بذرات التراب فينبت مع كل قطرة نزفت من شهيد شهيداً جديداً، وتطاولت قامة الشعب.. وفهم لعبة السياسة.. بما فيها من ألوان وفنون.. حتى تم له أخيراً الحصول على حريته السلبية وتحرير أرضه من دنس العدوان.
والجميل في طريقة عرض القصائد التي حواها هذا الديوان، أن أستاذنا الكبير لم يترك أي قصيدة إلاَّ وذكر معها القصة التي أوحت بها، وتاريخها، وملابساتها، والرد عليها إن كانت من الإِخوانيات، وبهذا اجتمع في الديوان حلاوة الشعر وعبق الذكريات التي أصبح بعضها يشكل حلقة في تاريخ سوريا المعاصر.. وبرغم المخاض الطويل الذي استغرقه ظهور هذا العمل الجميل إلى حيز الوجود، إلاَّ أنه جاء في النهاية مُعبِّراً عن تطلعاتنا لحزم الضوء التي رجوناها من عَلَمنا الكبير، ونجْمنا الذي وهب الحياة والعلم جذوة الشباب، فوهبته حب الناس، وتوجته على عروش القرطاس والقلم فارساً مجلياً، ونبراساً يضيء للسالكين، ومنارة هدى للأجيال المتعاقبة على طريق الخير والحب والتوجه الظامئ أبداً نحو نبع الكمال.
عَبْد المقصُود محمّد سَعيْد خوجَه
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1905  التعليقات :0
 

صفحة 1 من 56
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.