الطوفان في شعر علي هاشم رشيد |
في حالكات الليل في الدّجنْ |
والعينُ سهرىَ تطردُ الوسَنْ |
والروحُ قد دارتْ بها الفِتنْ |
هتفْتُ مـن لواعج الشَّجَنْ.. |
يا أنتَ، يا مُنايَ، يا وطنْ ! |
نام الخلـيُّ، والـورى نيامْ |
وسـاد في عالمنـا الظلامْ |
والحقُّ، لا صوتٌ، ولا كلامْ |
لكنني قـد صِحْتُ في الأنامْ |
يا أنتَ، يا مُنايَ، يا وطنْ ! |
|
هذه زفرة من الزفرات الحارة التي صعًدتها العاطفة المشبوبة بين جوانح الشاعر "علي هاشم رشيد" من أثر المأساة التي عاناها الشعب العربي في فلسطين، وذاق فيها مرارة القتل والنفي والتشريد عن ربوع الوطن السليب، حتى نفذ الصبر في ارتقاب يوم الخلاص: |
لم يبقَ في صدورنا اصطبارْ |
وأرضُنا بعيدةُ المزارْ . |
قلوبنا تاقتْ إلـى الديـارْ |
فهـي هتـافٌ عارمٌ مثارْ |
يا أنتَ، يا مُنايَ، يا وطنْ! |
والقاربُ المحطَّمُ المجدافْ |
قد مـلّ في بحاره الطوافْ |
وكلَّ وعدٍ كاذبٍ قد عـافْ |
فعادَ والحُداءُ والهُتافْ |
يا أنتَ، يا مُنايَ، يا وطنْ! |
|
* * * |
ولقد كانت محنة فلسطين بجراحها الدامية المعين الذي لا ينضب لإمداد الملكات الأدبية التي صهرت أصحابها الأحداث المروعة، فانطلقت تعبر عن مشاعرها الجياشة في كل جنس تحذقه من أجناس الأدب وفنونه المنظومة والمنثورة في القصائد والمقالات، وفي القصص والمسرحيات |
ولم يقتصر الإحساس بمرارة التجربة على أبناء فلسطين وحدهم، بل إن أبناء العروبة جميعا تجرّعوها في كل مكان، وعبّر شعراؤهم وكتّابهم عن تلك الكارثة وويلاتها في أعمال أدبية حزينة باكية يائسة حينا، وحماسية متفائلة أحياناً، تستثير الهمم، وتشحذ العزائم، وتدعو إلى الجهاد والتضحية والفداء، حتى يشرق الأمل، ويعود الحق إلى نصابه، والوطن إلى أصحابه. |
وكان من أثر تلك الأحاسيس والمشاعر التي لا تزال تلهب قلوب الأمة العربية وكتابها وشعراءها ذلك الرصيد الضخم الذي زخرت به مكتبة الأدب العربي الحديث. |
ولا يحق لكاتب أو شاعر أن يزعم أنه مختص بأدب النكبة أو التعبير عن انفعاله بها دون غيره من أدباء العربية في شتى مواطنهم منذ وعد بلفور المشئوم إلى اليوم. |
وقد يكون من أعمق الأدباء تأثراً بذلك الحدث الخطير أولئك الأدباء الذين عايشوه واكتووا بناره تعذيباً وحرماناً، وطرداً وتشريداً، ونعني بهم أدباء الأرض المحتلة في فلسطين، لأنهم هم الذين عانوا تلك التجربة الأليمة وفعلها في أنفسهم وذويهم، وفي ديارهم وأموالهم، فقد رأوا بأعينهم مصارع أهليهم، وقاسوا حياة الشتات، والغربة والضياع. |
ويشاركهم في التأثر بأهوال تلك الأحداث أولئك الذين صمدوا في وجه العدو، وبقوا في ديارهم صابرين مجاهدين، يندبون المجد الآفل، ويبكون الشمل الذي شتته الصهاينة المعتدون، وأهليهم الذين أطاحت بهم الأحداث، وقذفت بهم بعيداً عن مواطن العيش، ومراتع الصبا والذكريات. |
وقد يكون الآخرون أعمق إحساساً وأشد تأثراً بهول المأساة وفداحتها، لأنهم ألفوا أنفسهم غرباء مضيعين، تتقاذفهم الآلام في غربتهم عن الأهل والمال والديار، يعضون بنان الدم، ويتجرعون كؤوس الحسرة على ما ضيعوا من الأمجاد والأوطان.. |
* * * |
وعلي هشام رشيد واحد من أولئك الذين عاصروا مأساة فلسطين، وتابعوا أحدائها واكتووا بنارها.. ومن ثم كان أروع شعره ما أوحته تلك المأساة. |
وقد أصدر قبل ذلك ديوانين من شعره الثائر سمّى أولهما "أغاني العودة" وسمّى الآخر"شموع على الدرب" . ثم هذا الديوان الذي سماه (الطوفان). |
وبالإضافة إلى ثمرات هذه الشاعرية الخصبة تبرز قدرة أخرى على كتابة القصة القصيرة، فيصدر الشاعر مجموعة من هذه الكتابات القصصية، عنوانها "رصيف الدموع". |
أما ديوان (الطوفان) الذي نتحدث عنه في هذه الكلمات فإنه مجموعة من الأحاسيس التي صاغها علي هاشم رشيد نحو وطنه السليب، واستنهاض الهمم للثأر من الأعداء، والخلاص من عسف اليهود وشرورهم، واستعادة وطنهم السليب. |
استمع إليه في قصيدة "الطوفان" وهي إحدى قصائد الديوان الذي سماه باسمها: |
وأقبل الطوفانْ.. |
من غير نوح أقبل الطوفانْ.. |
ما حدَّه الزمان والمكانْ.. |
لكنَّما السفينة الحزينة |
في موجه من غير ما رُبَّانْ |
لا، بل بها أعجوبة الزمانْ |
فكلّ من يركبها رُبَّانْ.. |
القرد فيها يزجر الغزال |
والثعلب المكارُ والذؤبانْ |
تصارعوا زوبعة مجنونه |
ليمسكوا بالدفّة السجينه |
حتى الأفاعي تركب السفينه |
فلا تلمْ إن أصبحتْ حزينه |
الموج فوق الموج فوق الموج |
وحولها تحوَّم الحيتانْ... |
ومزّقتْ رياحها الشراعْ |
وأسلمتْ للنَّوء، للضياعْ |
|
وإنك لترى فيما قرأت صورة من تحرر الشاعر من بعض قيود الشعر العموديّ. ولكنك لن تحس بالخروج على أنماط الشعر المألوفة في الأوزان والقوافي، لقلة مواضع هذا الخروج من جهة.. |
ولأن الشاعر عوّض ذلك النسق الرتيب في نظام القوافي بتتابع حرف الروي في بعض قوافي الأشطر من ناحية ثانية.. |
ولأنك إذا رددت هذه الأبيات ستروعك قوة التجربة، وحرارة الانفعال، وعذوبة الموسيقى، وبراعة التصوير، وقد التحم بعضها ببعض، وتفاعل بعضها مع بعض، فكان منها هذا المزاج الجميل البديع، من جهة ثالثة. |
وسيروعك أيضاً حذق الشاعر في تصوير حالة الفوضى والاضطراب، وما عمد إليه من الرمزية في تصوير الفوضى التي تعانيها السفينة في مسيرتها الضالة في خضم الأمواج بغير ربان.. وليست تلك السفينة سوى قضية وطنه فلسطين، التي أصبحت مضغة للأفواه، وأصبح يدعي قيادتها كثيرون ممن رمز لهم الشاعر بالقرود والثعالب والذئاب والأفاعي، حتى تمزق شراعها، وأحدقت بها الأخطار من كل جانب.. |
وكأنّ علي هاشم رشيد كان يتنبأ في هذا الشعر الذي نظمه منذ سنوات بعيدة بالمستقبل المظلم الأليم الذي ينتظر ركاب السفينة، وهم أبناء الوطن السليب، الذين لا يفكرون في النجاة، ولا يبحثون عن سبيل للخلاص، فقد اختلفوا على أنفسهم، وتطاول بعضهم على بعض، وتحول جهادهم إلى سفسطة كلامية، وإلى جدل عقيم حول الزعامات والرياسات، وشغلوا بذلك عن إنقاذ سفينتهم، أي تحرير وطنهم.. تأمل معي هذه الصورة التي رسمتها لهم ريشة شاعر مصور صناع: |
واعجبْ معي لراكبي السفينة |
في سَفْسَطاتٍ مُرّةٍ عقيمه.. |
كالعلك الزريّ في الأفواه |
ما فكروا، كيف لهم نجاه |
قد جادلت ْسباعَها القرودْ |
وزمجر الخنزيرُ للأسودْ |
حتى الحمار ضجَّ بالنهيق.. |
في زَهْوهِ لا يرتضي الرفيقْ |
ونفّت الضفادع الغبيّه |
وخرجتْ من حجرها الجرذانْ |
والكلُّ في غروره سكرانْ |
لم يدْر ما يخبئ الزمانْ.. |
مسكينةٌ سفينةُ الضياعْ |
قد ضاع فوق ظهرها الإنسانْ |
قد مزّقتْ شراعَها الرياحْ |
وغاب عن طريقها الصباحْ |
|
والسفينة، والمجداف، والشراع، والرياح، والأمواج، والحيتان، كلها رموز تتردد كثيراً في شعر علي هاشم رشيد، كما رأيناها في قصيدة (الطوفان) وكما نراها في قصيدته التي سماها "شراع في مهب الريح".. |
وتختلف هذه القصيدة عن سابقتها (الطوفان) اختلافا ظاهراً، فإن الشاعر هناك ثائر أسف غاضب حزين لما أصاب السفينة وراكبها من الفوضى والاضطراب مما أدى بها إلى الوهن، حتى ضلت الطريق، وتمزقت أشرعتها واستسلمت لليأس والضياع. |
ولكنه هنا باسم متفائل، لأن السفينة تمضي نحو غايتها، تطاول أشرعتهـا السمـاء، وتتحـدى الرياح، وتجري في طريق النور نحو إشراقة الأمل، بقوة الرجال، وعزيمة الأبطال، الذين يصارعون القوى العاتية التي تعترض طريقهم في عزم وإصرار، لأنهم مصممون على الكفاح، والسير في طريق النصر. استمع إليه يقول في هذه القصيدة: |
شراعنـا الممـدود في السمـاء، للنجـوم، للريـاحْ |
ومركبٌ يتيـه نحـو النور، نحـو نسمـة الصبـاحْ |
بأذرعُ تحرّك المجداف في الغدوَّ والرواحْ |
يصارعُ الحيتانَ والوحوشَ والصراخ والنّبَاحْ |
شراعنـا والمركـبُ الجـريءُ سائـرٌ لنصرنـا المتـاحْ |
|
وهذه الرموز على كل حال رموز قريبة لا تستعصي على الفهم والإدراك، وليس فيها شيء من التعمية والإلغاز الذي يؤدي إلى استغلاق الفكرة، وتعقيد المعنى، كالذي يتعمده كثير من الرمزيين، فيكدون الأذهان، ويحيرون الألباب، ويسلمون القراء والسامعين إلى متاهات يحرمونهم فيها من الاستمتاع بلذة هذا الفن الشعري الجميل، ويعجزون عن تبين مراميه، وعن مشاركتهم في تجاربهم وانفعالاتهم، ويدعونهم في الظلماء، يخبطون في فهم أعمالهم خبط العشواء. |
ولكن الرمزية هنا في شعر علي هاشم رشيد ليس فيها شيء من الغموض، وليست بعيدة عن التجربة التي يعاني فيها الشاعر آلام الحرمان من نعمة الأمن والاستقرار في الوطن المغتصب، ويشكو من تصدع الشمل، وكثرة الأعداء، والعابثين بقضية بلده الحبيب، ومن اختلاف الرجال حول العمل أو الأمل الذي هم في همه سواء. |
وهي رمزية معبرة عن مشاعر الألم، والإحساس بالغربة والضياع، والخوف من المستقبل المظلم، والمصير المجهول. ولا تعدو الرمزية في شعره تجاوز التصريح بالأسماء والكني والألقاب، أو أسماء المواقع والديار. |
وقد تختفي في شعر علي هاشم رشيد تلك النغمات الحزينة التي رأيناها في قصيدة "الطوفان" لتحل محلها ومضات الأمل التي تشحذ العزائم، وتستنهض همم الرجال فيتحدث الشاعر عن الشعب الذي: |
عافَ المللْ... |
عاف الركونَ إلى الرقاد.. |
حتى نعودْ.. |
ويعودَ راعينا على تلك الربوع.. |
وتجفّ في المقل الدموع.. |
من فرحةٍ لا من شقاءْ.. |
مع عودة الأحرار.. |
في زحف الإباء.. |
والرّضاية المحبوبة الشمَّاءْ.. |
تعتنق السَّماءْ.. |
خفقاتها كالكبرياءْ.. |
كالفجر يبسمُ للضياءْ.. |
كقلوب شعبٍ قال للتاريخ: |
إنا عائدون... |
|
* * * |
|