شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
 
شعـر المهجـر (1)
هؤلاء جماعة من إخواننا العرب، يحملون عواطفنا ومشاعرنا، وطاقات ثقافتنا الأصيلة، وأمجادنا الخالدة في الفكر والبيان، تركوا وطنهم في بلاد الشام، فرارا من بطش الحكام في أيام الظلم والاستبداد، وتطلعا إلى مجد جديد، أو عيش رغيد، فنزحوا إلى أميركا، وانتشروا في شمالها وجنوبها يبحثون عن حياة جديدة في الدنيا الجديدة.
ولم تكن الرحلة إلى أميركا أو الهجرة إليها واستيطانها شيئا جديدا، قام به إخواننا من عرب الشام، فقد سبقتهم إليها أجيال من سكان أوروبا، باحثين عن العمل، ومنقبين عن الرزق في العالم الجديد.
وقد جرى العرف على تسمية أولئك العرب النازحين إلى أميركا بالمهجريين، وتسمية وطنهم الجديد مهجرا. والأصل في تصريف اللغة أن يكونوا مهاجرين، وأن يكون موطنهم الجديد مهاجرا، وربما كانت الهجرة أو المهاجرة أخف من الهجر، لأنهم لم يهجروا أوطانهم الأولى، ولم يتنكروا لقومهم، ولم يهجرهم أهلوهم، ولم يتنكروا لهم، ولكن بقي الود موصولا، وبقيت عروبة القلب، وعروبة اللسان، تجذبهم جذبا إلى أمتهم وأوطانهم، وتجذب إليهم أصولهم في حنين النِّيب إلى مواطنها، ونزوع الطير إلى وكناتها.
قضى أولئك المهاجرون سنيهم الأولى في توطين المهاد، وإلانة الوساد حتى إذا استقام لهم الأمر، عاودهم الحنين إلى الأوطان، ونازعتهم سليقة البيان التي جرت على ألسنتهم جريان الدماء في عروقهم، فانطلقوا يعبرون عن حياتهم، ويصفون مشاعرهم، ويصورون عواطفهم المضطربة بين أسباب الرضا ودواعي السخط. والمترددة بين التفاؤل والتشاؤم. وكان هذا الاضطراب طبيعيا، لأنه طبيعة العربي الذي لا ينسى وطنه، ولا ينسى أمته، بل يندمج فيهما بذاته، ويتحد معهما بعقله وشعوره.
وكان من الطبيعي أيضاً أن يعتمد أولئك المهاجرون على دعائم راسخة من تقاليد أدبهم العربي الموروث، وأن يستمدوا موارده من روافد العروبة في الفكر والشعور والبيان.
ويبدو أن الزمن الذي قضاه أولئك المهاجرون في حياة الغربة لم يكن كافيا لتبدل العواطف، وانتقالها من حال إلى حال جديدة، مغايرة كل التغاير للحالة الأولى، أو للقضاء الحاسم على خصائص الجنس الذي ينتمون إليه، ولم يسمح بتلاشي الأصول الثابتـة في العقـول وفي قـرارات القلـوب، أو الاندماج الكليّ في الجماعات التي عاشوا بينها في الدنيا الجديدة من حيث الفكر والعقل واللسان، فإن ذلك لو قدر أن يكون، محتاج إلى أزمان وآماد حتى تنسى الجذور التي نبتت عنها، والأصول التي تفرعت منها.
ولقد كان الهيام بالأدب، والولوع بالبيان، في رفقة أولئك المهاجرين إلى الدنيا الجديدة. مع ذكرياتهم التي لم يستطيعوا الفكاك منها، فعبروا عن قلوبهم التي تحركت بها أجسادهم إلى الأمام، وأخذت تتلفت خلفهم إلى مساقط الرؤوس، وملاعب الصبا، ومنابت الآباء، والأجداد بعد أن زالت الشخوص، وتباعدت عن مرامي أبصارهم الطلول في أدب منظوم، وفي بيان منثور.
ولم يقف تعبيرهم عند الماضي والحنين إليه، ولكنهم عبّروا عما وقعت عليه أعينهم، وعن آثار تفاعلهم بالبيئة التي عاشوا فيها، والأعمال التي زاولوها، وتأثروا بما رأوا وبما قرءوا في عالمهم الزاخر بمختلف التيارات الفكرية والفنِّية، حتى كان أدبهم مزاجا عجيبا يعتمد على ثقافتين، ويقبس من آثار حضارتين، ويؤلف بين عواطف جنسين.
وفي مثل هذا المزاج العجيب يلتمس الصدق، لأنه كان في أكثر الأحيان معبرا عن أصحابه أصدق تعبير، وكان مرآة انعكست على صفحتها صور تجارب زاولوها، وحياة عاشوها، وذاقوا مرارتها، واستمتعوا بحلاوتها، ومحافل شهدوها، واغتراب قاسوه، ورفقة فارقوهم، وأهل حنّوا إليهم.
ثم كان هذا الأدب خلاصة معبرة عن كل أولئك الأحاسيس والمشاعر الصادقة.. وتبدو زحمة المشاعر واختلاطها، واضطرابها بين الحاضر المشهود، والغائب المعهود، في تلك الكلمة الواعية التي عبر بها فيلسوف الفريكة "أمين الريحاني" عن عظمة الشرق الروحية في رسالاته وفلسفاته، وعظمة الغرب المادية في دباباته وطياراته، وعن حاجة الروح التي عرفها في بلاده إلى قوة المادة التي شهدها في وطنه الجديد تسندها وتشد أزرها "أنا الشرق.. عندي فلسفات، فمن يبعني بها طيارات ودبابات" ؟!..
وهذه خلاصة صادقة لما عرفه أولئك المغتربون في بلادهم، وما رأوه في مهاجرهم. ولا يستطيع أحد أن ينازع في صدق التعبير عن صادق الشعور. وهل الصدق ألا أن يعبر الأديب عما رأى وعرف وأحس، كما رأى وعرف وأحس؟ فالجديد في أدبهم، نشأ عن جديد في حياتهم، والقديم في هذا الأدب، قديم في أصولهم، لقنوه في تربيتهم الأولى، وحفظته قلوبهم ومشاعرهم.
ومن هنا يظهر الفرق الكبير بين هذا الأدب المهاجري الجديد الصادق، وأدب آخر تكلف أصحابه التجديد عن غير موجب له، أو دافع إليه، من مجرى حياتهم أو اتصال تجاربهم، وإنما هي محاولات للتقليد بدعوى التجديد.
ولقد كتب عن أدب المهاجرين كثيرون في كتب التاريخ الأدبي العام التي تحصي أجناس الأدب وفنونه، وتذكر شواهده وتعرف بأعلامه، وتدرس مواطنه وبيئاته المتقاربة والمتباعدة على حد سواء، إذ كان همهم تتبع الفن الأدبي عند أمة العرب، ومسايرة تطوره، وملاحظة خطا تقدمه، ومحاولة الإحصاء والاستقصاء.
كذلك ألّف بعض الكتاب كتبا خاصة عن المهاجرين، وأدبهم المنثور والمنظوم على السواء، واستطاع مؤلفو هذه الكتب أن يقدموا إلى تاريخ الأدب العربي، وإلى قراء ذلك الأدب ودارسيه في مواطن العروبة الأصيلة وغيرها فوائد لا تجحد، فبتلك الجهود استطاع أولئك الدارسون أن يصلوا حلقات البحث في سلسلة التاريخ الأدبي عند أمة العرب، فقد قدموا أدباء المهاجرين وعرفونا بهم وبيئاتهم وآثارهم، كما قدموا مجموعات من شعرهم ونثرهم، لتكون مادة للدرس والفحص عن كثير من أولئك الأدباء الذين لم يصدروا كتبا، ولم يجمعوا شعرهم في دواوين.
وفي طليعة أولئك المؤلفين الذين أسدوا إلى الأدب العربي وتاريخه، وإلى دارسيه والباحثين في أدب المهجر وحياة المهاجرين فيه، وقبل هجرتهم إليه فضلا لا يجحد الأستاذ الشاعر جورج صيدح، صاحب الأثر النافع (أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأمريكية) .
ومن الآثار النافعة التي عنيت بأدب المهاجرين، كتاب (شعراء الرابطة القلمية) للدكتورة نادرة سراج، وكتاب (أدب المهجر) للأستاذ عيسى الناعوري، وكتاب (الشعر العربي في المهجر) للأستاذ محمد عبد الغني حسن، وكتاب (الشعر العربي في المهجر - أمريكا الشمالية) للدكتورين الفاضلين إحسان عباس ومحمد يوسف نجم...
وإلى جانب هذه الآثار كتبت فصول أدبية، ومقالات نقدية في محاولات التجديد في قوالب الشعر العربي وأشكاله، وهي القوالب والأشكال التي يعد شعراء المهاجر زعماءها، وطليعة الدعاة إليها، ومجربيها في أشعارهم.
وتتفاوت هذه الدراسات تفاوتا ظاهرا في منهجها وفي مادتها وفي كثير من الآراء التي تدور حول أدب المهاجر، وتبحث عن مظاهر الجدة فيه كما تتفاوت في الفائدة المبتغاة من كل منها.
وكان ذلك كله صدى للتطلع إلى هؤلاء المهاجرين، والإحساس بالحاجة إلى التعرف على ظروفهم، وحياتهم المادية، وما جد في حياتهم الفكرية والفنية، والأدب دائما في طليعة الفنون التي عبرت بها الإنسانية عن نفسها، وتحدثت فيه عن تصوراتها، وحملته أصداء معارفها وإحساساتها منذ عرف الإنسان هذا اللون من ألوان التعبير اللغوي الممتاز.
وكان هذا الأدب المهاجري في حاجة لأن تتناوله أيد كثيرة تدرسه، وتفحص عنه، وتحاول نقده، وتعمل على التعرف على نوازعه ودوافعه وخصائصه واتجاهاته، بغية تقويمه، ووضعه موضعه في أدبنا العربي.
ولا شك أن تعدد وجهات النظر في ظاهرة جديدة من الظواهر الفنية ضرورة من الضرورات، فقد يكون في هذا التعدد كما يكون في الاختلاف والتباعد أحياناً ما ينمي الفكرة، ويصقل الرأي، وبذلك تتكامل الأفكار على مدار الزمن، ثم يكون الرأي المعقول في تلك الظاهرة الجديدة بعد أن تستوفي دراستها، ويستكمل البحث في جوانبها المتعددة.
ولذلك كان مما يدعو إلى الرضا والاغتباط أن تعنى الجامعات في بلادنا بدراسة أدب المهاجرين، وأن ينتدب جماعة من خيرة طلاب الدراسات العليا للفحص عن هذا الأدب ومحاولة نقده وتقويمه، وهذا من صميم العمل العلمي في الجامعات التي لا تقف عند القديم من المعارف الإنسانية، وإنما تجدد دائما في عزم وإصرار، وتصل حلقات التفكير الإنساني قديمها وحديثها. ولا سيما هذا الأدب الوثيق الصلة بأدبنا الخالد في مشاعره وبيانه.
ومهما يقل في هذا الأدب المهاجري، فإنه أدب عربي صميم، ولا يعدو القول فيه أو الحكم عليه، القول في الأدب العربي في الأندلس أيام كانت للعرب دولة هناك، وكان لشعرائهم وأدبائهم آثار يعتز بها الأدب العربي، وتعنى الجامعات العربية في زماننا بدراسته، وخصصت في بعض كليات الآداب كراسي للأستاذية في هذا الأدب، اعترافا بأصالته، وبمدى إثرائه للموروث من أدب في شتى المواطن والعصور.
* * *
وقد سرني أن يكون الأستاذ أنس داود في طليعة الباحثين عن أدب المهجر، وكان (التجديد في شعر المهجر) أطروحته للحصول على درجة الماجستير في النقد الأدبي من جامعة القاهرة، واستطاع في هذه الأطروحة التي كان لي شرف الإشراف عليها أن يجلو لنا الشعر العربي في المهاجر، وأن ينظر فيه نظرة فاحصة مدققة، باحثا عن روافد هذا الأدب، ومظاهر الجدة فيه، حتى كانت هذه الرسالة الشاملة الواعية التي تملأ من غير شك فراغا في مكتبة النقد الأدبي المعاصر.
ولقد عرفت "أنس داود" طالباً في كلية دار العلوم، بين المئات من شركائه في المحاضرة، ورفقته في الدرس، ولم يستطع أدبه الجم، ولا حياؤه المطبوع، أن يحجب عن قلبي أمارات نبوغه في العلم والتحقيق، بعد أن رأيت براعته في الشعر والأدب، وما أمتعه الله به من حرص على الفائدة.
ثم كانت سعادتي يوم رأيت هذا الغراس يزكو، وإذا هو في طليعة طلاب الدراسات العليا بعد أن استوت ملكاته، ودنت قطوف عنائه الطويل، وفطنته البارعة، يتقدم إليّ بهذا الموضوع الخطير، لينال به درجة الماجستير، ولم أشك في قدرته، بعد أن عرفت أدبه وذكاءَه.
وأحب في هذا المقام أن أسجل أن "أنس داود" كان في كل خطوة من خطوات طريقه الشاق كما عرفته، آخذا بأسباب الكمال في تؤدة وأناة، متجملا بآداب الدرس، كما جمله الله بأدب النفس، يقرأ ويتأمل، ويسأل لينتفع، ويناقش ليقتنع، ثم يكتب عن وعي وبصيرة، حتى بلغ غايته، وحظي برضا لجنة التحكيم، ونال أعلى درجات التقدير.
وما أريد في هذا المجال أن أشير إلى الجهد المشكور الذي بذله "أنس داود" في أمانة العالم. وحرية المفكر، ووضوح البيان، وسلامة الآراء التي اهتدى إليها بعد طول البحث والتنقيب، والعناء الموصول الذي يتجشمه الباحثون عن الحقيقة. فإنني أدع ذلك كله ليرى القارئ بعينه شواهده الماثلة، وثمرته الناضجة في ثنايا هذا البحث الشاق، وما أريد أن أسبقه إلى رأي أو أن أمليه عليه، لأنه سيجد أمامه عملا علميا غنيا بالآراء، زاخرا بالأفكار غير محتاج إلى كلمة ثناء يسوقها أستاذ لتلميذه.
وإنما أقصى، ما أريد أن أوقف القارئ عليه أن هذه الدراسة المستوعبة قد حققت غايتها، وأن كاتبها استطاع أن يحرر نفسه من قيود أفكار متواترة، وآراء دفعت إليها حماسة بعض الباحثين، تلك الحماسة التي أدت إلى الإسراف في كثير من الأحكام على أدب المهاجرين، فإذا كان موضوع هذه الدراسة هو "التجديد في شعر المهجر" فإن باحثنا لم يحاول ما يحاوله كثير من الذين يتخيرون أمثال هذه الموضوعات من محاولة إثبات الجديد في كل شيء، بل إن باحثنا المنصف قد اتخذ من ثقافته الأدبية الواسعة، ومن حسه الفني، ميزانا عادلا استطاع به أن يحصي خصائص هذا الأدب، وأن يقومها، وأن يشيد بالجديد إذا وجده واطمأن إلى جدته، وأن يرجع غيره إلى أصوله الأولى إن كانت له أصول يرجع إليها ويستمد منها، وبذلك بعد عن مظنة التعصب للفكرة إلا بالقدر الذي يجد من الشواهد ما يؤيده، في إنصاف للحق، وغيرة عليه. وهل العلم إلا تعقّب الحقيقة، والسعي في أثرها، والعمل على إزالة العقبات من طريقها، ومحو الغبار الذي يشوه صفحتها، ويطغي على محاسنها. وسواء أكان ذلك الغبار قد أثاره الهوى أم أثاره الجهل، فإنه يشوه وجه الحقيقة، ويحجب عن العقول رؤيتها، والإفادة منها.
وأعتقد أن صاحب هذا البحث قد بَرِئَ من مظنة الهوى، كما أنار الله بصيرته بنور المعرفة.
وأسأل الله له بعد ذلك مزيدا من العناية والتوفيق في خدمة المعرفة ونصرة الحقيقة.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :3199  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 21 من 25
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

زمن لصباح القلب

[( شعر ): 1998]

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء السابع - الكشاف الصحفي لحفلات التكريم: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج