الفارس البطــل.. يرثي يمينه |
عرف هذا الجنس العربي بالشمم والإباء، كما عرف بالشجاعة وقوة البأس، يسترخصون المهج، ويبذلون الأرواح في سبيل الحفاظ على مواطنهم ومحارمهم، ويدفعون عن أنفسهم وأهليهم كيد المعتدين، وإغارة المغيرين، إذا أحسوا طمعاً فيهم، أو توقعوا هجوماً عليهم. |
وعندئذ تجند القبيلة جنودها، وتحشد حشدها لتلقي عدوها، وتذود عن حماها، وتصون متاعها وأموالها وحرماتها. |
ولم يكن الدافع إلى تلك الحروب الطويلة أو القصيرة التي شهدتها الجزيرة، ورويت أرضها بدماء ضحاياها محصوراً في دفاع القبيلة عن نفسها، أو الثأر لقتلاها، بل كثيراً ما كانت تلك الحروب تشن لأوهى الأسباب كالذي نقرؤه في قول الحارث بن حلزة في معلقته: |
إنّ إخواننا الأراقم يغلو |
ن علينا في قيلهم إحفاءُ |
يخلطون البريء منا بذي الذنـ |
ـب ولا ينفـع الخلـيَّ الخلاءُ |
زعموا أن كل من ضرب العيـ |
ـرَ مـوال لنـا وأنّـا الولاءُ |
أجمعـوا أمرهـم عشاءً فلمـا |
أصبحوا أصبحتْ لهم ضوضاءُ |
من منادٍ ومن مجيب ومن تصها |
ل خيل خلال ذاك رغاءُ |
|
وقد يكون سبب تلك الإغارات الفقر والإملاق، لقلة مواردهم، وضيق أبواب العيش في مواطنهم، فيضطرون إلى طلبه برماحهم وسيوفهم، فيغيرون للنهب والسلب.. |
بل لقد تضطرهم الحاجة في بعض الأحيان إلى الإغارة على إخوانهم ومواليهم، كما عبر عن ذلك شاعر من المخضرمين الذين عاشوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام، وهو القطامي الذي يتحدث عن الخيل والفرسان، وما تعودوا من الإغارة حتى على أهليهم ومواليهم للسلب والنهب، وذلك في قوله في أبياته المعروفة: |
وكنَّ إذا أغـرنَ على جنابٍ |
وأعوزهـنَّ نهبٌ حيـث كانا |
أغرْنَ من الضبابِ على حلولٍ |
وضبّة إنـه مـن حـان حانا |
وأحيانـاً على بكـر أخينـا |
إذا ما لم نجدْ إلا أخانا |
|
ثم كانت هذه الطبقة من أهل الحراب والمتلصصة وقطـاع الطريـق الذين عرفوا بالصعاليـك يعبثون بالأمن، ويقطعون الطريق على قوافل التجارة، يقتلون أصحابها، ويفتكون بحراسها، وينهبون حمولتها، ثم يوزعون ما اغتصبوه على إخوانهم ومواليهم. |
ومن العجب أنهم كانوا يفخرون بما يصنعون، ويباهون بشجاعتهم في عدوانهم على الآمنين، وبما يحصلون عليه بهذا العدوان. |
وقد يكون من هذه الأسباب عدا ما ذكرنا الرغبة في الاستعلاء، وحب التسلط على الآخرين، بإظهار القوة والمنعة.، حتى لا يطمع فيهم طامع، ويتقي بأسهم الذين يظنون أنهم يدبرون عدواناً عليهم، أو يفكرون في هذا العدوان، فيبدءونهم به. |
وذلك شبيه بما يسمي في زماننا "الحرب الوقائية". وذلك أن تدهم عدوك قبل أن يشرع في مهاجمتك، أو قبل أن يعد نفسه للهجوم عليك.. وإلى ذلك يشير عمرو بن كلثوم في معلقته بقوله: |
حُديَّا النـاس كلّهـم جميعـاً |
مقارعـةً بينهـمْ عـن بنينا |
فأمّا يومَ خشيتنا عليهمْ |
فتصبحُ خيلُنـا عُصبّـاً ثُبينا |
وأمّا يـومَ لا نخشىَ عليهـمْ |
فنمعن غارةً متلبَّبيِنا |
برأسٍ من بني جُشَمَ بن بكـر |
ندقّ بـه السّهولـة والحزُونا |
|
وهكذا كانت أرض الجزيرة قبل الإسلام أشبه بمسارح للقتال، وميادين للحرب متفرقة في طولها وعرضها، لا يعرف سكانها الأمن والاستقرار. |
وقد كان العربي لا يكاد يرى إلا متقلداً سيفاً، أو حاملاً رمحاً، أو ممتطياً صهوة جواد، وما فيهم إلا ثائر أو موتور. |
وذلك ما نقرؤه في أشعار الجاهليين التي صور شعرهم حياتهم أصدق تصوير، وما نقرؤه فيما فخر به عنترة بن شداد بنفسه في شعره الذي سجل فيه أنه لا يرى مقيلاً يستريح فيه إلا صهوة جواده، ولا يجد ما يتوسده سوى سيفه ودرعه، فيقول مخاطباً حبيبته عبلة: |
أيا عبْلَ ما كنتُ لولا هـواكِ |
قليلَ الصديق كثيـرَ الأعاديِ |
وحقَّكِ لا زال ظهرُ الجـوادِ |
مَقيليِ وسيفي ودِرْعي وِسَادِي |
|
* * * |
إن كل متأمل في هذه الصورة الباكية لتلك الحياة الدرامية الحزينة لا بد أن يعترف بالفرق الهائل بين حياة العرب في الجاهلية، وحياتهم في ظلال الإسلام دين الأمن والسلام، ودين العدل والتوحيد الذي نقلهم من حياة الفوضى والهمجية التي سفكت فيها الدماء، وأزهقت الأرواح، وتقطعت الأرحام، إلى أمة واحدة تعبد الله وحده، لا تشرك به شيئا تأتمر بأمر ربها، وتنتهي عما نهاها عنه من الكفر والفسوق والعصيان، وأكل أموال الناس بالباطل، ومن الإثم والفواحش والبغي، وأصبحت هذه الأمة وقد اعتصمت بحبل الله، واهتدت بهداه، خير أمة أخرج للناس. |
ولا نقصد بهذه العجالة إلى أن نوازن بين ظلمات الجاهلية ونور الإسلام، فقد عرفت الإنسانية كلها البون الشاسع بين حياة الجاهليين التي كانت تحكمها شريعة الغاب، والحياة الإسلامية التي نظمتها شريعة الله التي هدتهم إلى الصراط المستقيم، وإلى العمل الشريف الذي يهيئ لصاحبه سعادة الدنيا والآخرة، فقد كتبت في ذلك البحوث المستفيضة، والدراسات المفصلة، وألّفت الأسفار الضخام التي ألفها المسلمون وكثيرون من غير المسلمين. وما يزال الباب مفتوحاً يتسع لما لا يحصى من الجوانب التي تحتاج إلى مزيد من الكشف والتجلية في آثار الإسلام في حياة الأمة العربية، وفضله على الإنسانية كلها.. |
ولكن الذي نخصه بالعناية في هذه السطور هو أن الإسلام أحال تلك القلوب القاسية والنفوس الجاحدة الكافرة النافرة إلى نفوس مؤمنة آمنة بما غرس فيها من أصول الإيمان، وما بث فيها من روح الإخاء الذي جعل أصحابها أعزة على الكافرين، أذلة على إخوانهم المؤمنين، ووجهتهم إلى الجهاد في سبيل الله، وإلى قتال الذين يلونهم من الطفار والمنافقين الذين يتربصون بهم الدوائر، ويريدون أن يطفئوا نور الله، ووعد أولئك المجاهدين إحدى الحسنيين: الانتصار على أعداء الله أو الشهادة في سبيل الله، وعرفهم فضل الشهادة، وما أعد للشهداء من الجزاء الأوفى، ومن النعيم المقيم الذي لم تره عيونهم، ولم يخطر لهم على بال. |
وإنه ليروعك أن ترى صورة هؤلاء الأبطال أعداء الأمس الذين فرق الجهل صفوفهم، فتفرقت جموعهم، وتقطعت أرحامهم، وسالت دماؤهم، حتى إذا فتح الله عليهم، ودخلوا في دين الله أفواجاً، وقد ساروا إلى أعدائهم صفاً واحداً كأنهم بنيان مرصوص، يدكون حصون كسرى، ويقوضون معاقل قيصر، ويفتحون بلاد مصر والشام، وتزحف جحافلهم شرقاً حتى أسوار الصين، وغرباً حتى تبلغ المحيط، وقد نسوا عصبيتهم الأولى، وملأ الإيمان قلوبهم، فملئوا الدنيا هداية ونوراً، ورفعوا راية الإسلام ومنارة التوحيد في كل مكان. |
* * * |
أكتب هذا وبين يدي هذه الخريدة الرائعة من عيون الشعر العربي أنشأها شاعر من فتاك العرب وشجعانهم الذين تحولوا بطاقاتهم وبسالتهم نحو أعداء الإسلام الذي آمنوا به، وضحوا في سبيله بأغلى ما يحرص عليه إنسان.. |
وكنت قد قرأت هذه القصيدة في مطلع شبابـي، وأعجبت بما فيها من صـدق الشعور، وقـوة العاطفة، بالإضافة إلى ما تضمنته من آيات النخوة والبطولة في مواجهة الأعداء، وفي الصبر عند اللقاء. وظلت أرددها حتى علقت أبياتها بلساني، وترددت بين جوانحي. |
وكان الفضل في توقيفي أنا وزملائي عليها في عهد الطلب بدار العلوم أستاذنا العالم الجليل حمد يوسف نجاتي، الذي كان - رحمه الله - بحراً زخاراً بالعلم والحكمة، وقطباً من أقطاب المعرفة بلغة العرب وأدبها وتاريخها. |
وقد روى هذه الخريدة صاحب "الأمالي" أبو علي القالي عن عبيد الله نفطويه، وأبي الحسن الأخفش، وأبي بكر بن دريد، لعبد الله بن سبرة الجرشي.. هكذا بالجيم المعجمة في رواية الأمالي..، ولقب ابن سبرة في بعض المصادر "الحرشى" بالحاء المهملة، يرثي يده اليمنى، وكانت قد قطعت في بعض غزواته الروم. |
وأول هذه القصيدة قوله: |
ويلُ آمّ جارٍ غداة الرّوع فارقني |
أهْونْ عليّ به إذْ بان فانقطعا |
يمنى يديّ غدتْ منّي مفارقةً |
لم أستطع يوم "فلطاس" لها تبعا |
وما ضنِنْتُ عليها أنْ أصاحبَها |
لقد حرصتُ على أن نَسْتريح معا |
|
"ويل أمه" أسلوب سماعي يفيد التعجب، ويعني بالجار يده اليمنى التي فارقته، وكان جد حريص على جيرتها، يتمنى لو كانت بقيت معه إذا كتبت له الحياة، وقدر له البقاء أو يستريح معها بالموت، لأنه لا يستطيع أن يحيا بدونها. |
ويتنازع الفارس البطل انفعالان متباينان أثارتهما يمناه التي أطاح بها سيف عدوّه: |
الأول: الرضا عن ثباته في القتال، واسترخاصه يمناه التي يصول بها ويجول في سبيل الظفر بما صمم عليه من الانتصار على عدوّه الذي نازله نزالاً شرساً حتى قضى هو عليه.. |
والآخر: انفعاله بمشاعر الأسى والحسرة لفقدها، فما أقسى عليه من فراق يمناه! وما أثقل حياته بدونها. |
إنه لم يضن عليها بصحبة دائمة، ولم يقصر في طلب اللحاق بها، ليستخلصها من عالم الفناء، أو ليرحل معها عن الدنيا كما رحلت، فأعجزه اللحاق بها، أو هو شعور التوله والوجد الذي جعله يحسب أن فراق يمناه أمر هين. |
ثم عاد إلى رشده، فقرر حقيقة مشاعره، وأكد ما يخامره من الحسرة والأسى. |
ولقد عاتبه بعض الذين لا يعرفون خلائقه، ولا يقدرُون بسالته وصبره على حر القتال، فلاموه على مواصلته الطعان، وكان حسبه أن يصرع خصمه، ويزحزحه عم ظهر جـواده، ويهـوي به إلى الأرض، ثم ينأى عنه، ولا يعرض نفسه لضربة نابية، أو طعنة نافذة من خصمه الصريع، وهو يلفظ آخر أنفاسه، كتلك الطعنة التي أودت بيمينه، فيقول: |
وقائلٍ غاب عـن شأني وقائلةٍ |
هلا اجتنبت عدّو الله إذ صُرعا؟ |
وكيف أركبـه يسْعى بمُنْصُلهِ |
نحوي، وأعجزُ عنه بعدما وقعاَ؟ |
ما كان يـومَ الرَّوع من خلقي |
ولو تقارب مني الموتُ فاكتنعا
(1)
|
|
هذا جوابه للسائلين والسائلات: كيف أغلب هذا العدو الألد وهو في عنفوانه مستوياً على صهوة جواده، يناوشني بحد سيفه، ويُكُّر به عليّ، وأهوي به على الأرض لا ينجيه مني سيف ولا جواد؟ كيف أفر بعد ذلك طالباً للنجاة؟ |
إن الفرار من حومة القتال قبل الإجهاز على الخصم أو الموت دونه خلق يأباه الشجعان، ولا أرضاه لنفسي، حتى لو رأيت شبح الموت يدنو مني ! |
* * * |
وإذ كان عبد الله بن سبرة واحداً من فرسان العرب الشجعان، وبطلاً من أبطالهم المغاوير، فإن خصمه "أرطبون الروم" وزعيمهم وقائدهم كما يصوره ابن سبرة في هذه الأبيات لم يكن أقل منه بطولة ولا شدة بأس، ولا قوة شكيمة، ولا غيرة على قومه ولا ذَبَّاً عن أعراضهم التي ضيعها قومه، وأحسابهم التي أهدروها.. |
اقرأ معي هذا الوصف الرائع الذي وصف به شاعرنا العربي المسلم عدوه الرومي النصراني: |
ويلُ أمّة فارساً أجْلتْ عشيرتهُ |
حامىَ، وقد ضيّعوا الأحساب، فارتجعا |
يمشي إلى مستميتٍ مِثله بطلٍ |
حتى إذا أمكنا سيفيهما امتصعا
(2)
|
كلّ يَنُوءُ بماضي الحدِ ذي شطَبٍ |
جلّي الصيافلُ عن ذَرَّيِّه الطَبعا
(3)
|
حاسيتهُ الموتَ حتى اشتفّ آخره |
فما استكان لما لاقى ولا جَزِعا |
كأنّ لِمّتَهُ هُدّابُ مخملةٍ |
أجمُّ أزرقُ لم يشمطْ وقد صَلِعا
(4)
|
|
لقد وصف الشاعر في هذه الأبيات الخمسة من قصيدته حمية عدوه الذي وصفه من قبل بأنه عدو الله، أي عدو لدينه وللمؤمنين به. |
فقد برز هذا "الأرطبون" للقتال محامياً عن قومه، ومحاولاً استعادة أحسابهم التي أضاعوها، وسعى إلى القتال ببسالة واستماتة في سبيل النصر كاستماتة صاحبنا وبسالته، حتى إذا تمكن كل منهما من سيفه تجالداً وتضارباً، إذ كان كل منهما يحمل سيفه الماضي الذي جلاه صانع السيوف، وأزال عنه ما لحق به من الصدأ، ليكون أقوى على الضرب، وأقوى على القطع، وأسرع إلى البتر. |
وفي هذه الأبيات يقرر ابن سبرة أنه هو وعدوه الرومي سواء في الشجاعة، وفي الذب عن الأهل والعشيرة، وفي القتال المستميت في سبيل الغلبة والانتصار، وفي صفة سيف كل منهما.. كانا سواء في ذلك كله. ومع ذلك استطاع ابن سبرة العربي المسلم أن يفتك بخصمه الرومي، وأن يسقيه كأس الموت حتى الثمالة من غير أن يستكين أو يجزع، ولم تخنه شجاعته حتى لفظ عدوه آخر أنفاسه ! |
ولم يفت شاعرنا أن يلم بشيء من الأوصاف البدنية لخصمه، فشبه لمته وهي شعره الذي يجاور شحمة أذنه بالمخمل، ووصف وجهه بالبياض، وعينيه بالزرقة، وقد أصابه الصلع على الرغم من فتوته وحداثة سنه، إذ لم يخالط سواد شعره شيء من بياض الشيب. |
وقد يخامر القارئ سؤال عن تلك النعوت والأوصاف التي خلعها الشاعر على خصمه، حتى لقد يبدو وكأنه ينشئ قصيدة في مدح ذلك الخصم، أو مرثية في بكائه، مع ما بينهما من العداوات التي أدت إلى هذا الاقتتال الذي انتهى بمصرع أرطبون الروم، وفقد ابن سبرة فيه ليمناه ؟! |
وذلك شيء يبدو غريباً في زماننا، ولكنه ليس غريبا على سادة العرب وأبطالهم الذين يخوضون مع أعدائهم غمرات الحروب الطاحنة، وما تجره على الفريقين المتحاربين من الخراب والدمار، وسفك الدماء، وإزهاق الأرواح، وإهلاك الحرث والنسل، وتوريث العداوة والبغضاء في أعماق النفوس. |
وقد كان من شيم أبطال العرب الثناء على مقاتليهم، والإشادة ببطولاتهم، وحسن بلائهم في الحرب، لأنهم كانوا يرون في تمجيد هؤلاء المقاتلين تمجيداً لهم، وذلك لأنهم كانوا يرون انتصاراتهم على محاربين ضعفاء أو جبناء لا يثبت لهم شيئاً من الفضل. |
أما إذا انتصروا على شجعان أقوياء، فإن هذا الانتصار أقوى دليل على فرط قوتهم، وحسن بلائهم، وإنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه ! |
بل لقد رأينا من أبطالهم وهم في نشوة الانتصار من يرثي عدوه المهزوم، كما يرثي قيس بن زهير خصمه حَمَل بن بدر الغزاري الذي قتله في يوم الهباءة. |
وذلك في قوله: |
تعلـمْ أن خيـر الميت ميتٌ |
على جَفْـر الهبـاءة ما يريمُ |
ولولا ظلمـه ما زلـت أبكيِ |
عليه الدهرَ ما طلـع النجومُ |
ولكنّ الفتى حمل بـن بـدرٍ |
بغَى والبغـيُ مَرْتعُـهُ وخيمُ |
أظنّ الحلم دلّ علـيّ قومـي |
وقد يستجهـل الرجـل الحليمُ |
|
فقد جعلته خير من مات، ولم يأخذ عليه إلا ما رآه من بغيه وظلمه... |
* * * |
ونعود بعد ذلك إلى قصيدة ابن سبرة، أو إلى الأبيات الباقية منها، وهي ثلاثة أبيات يعود فيها إلى يمناه التي قطعها الأطربون، وفيها يقول: |
فإنْ يكنْ أطربون الرّوم قطَّعها |
فقد تركْتُ بهـا أوْصالهَ قِطعاَ |
وإنْ يكنْ أطربون الرّوم قطَّعها |
فإنّ فيهـا بحمـد الله مُنتفَعا |
بنانتين وجُذمـوراً أقيمُ بهـا |
صدرَ القناة إذا ماآنسُوا فزعا |
|
يقوا إنه وجد السلوى والعزاء عنها في أنه مزق بها أوصال عدوه العنيد، وإنه يحمد الله أنه إذ أصبح لا يقوى على حمل سيفه بيمناه، يستطيع أن يقيم بما بقي منها، ويستطيع أن يدفع عن نفسه وعن عقيدته وعن عشيرته إذا أحست بشيء من الفزع إذا طمع فيها طامع، أو حاول أن يعتدي عليها معتد. |
وبعد، فهذه صفحة مشرقة من أدبنا العربي، تصور الحماسة العربية، كما تصور عظمة الإبداع الشعري في التعبير عن تجربة صادقة قاسية من تجاب الشاعر في الجهاد، وفي قتال أعداء الله، وفي تصويره انفعالاته ومشاعره المتأججة نحو يده اليمنى التي أودى بها عدوه بضربة من سيفه، إلى جانب ما أبرزه الشاعر من الشيم العربية في مواجهة الأعداء، وفي الصبر على البلاء، وفي احتمال الأذى والضر في سبيل المثل التي يؤمنون بها، ويعملون جاهدين على الوصول إليها.. بالإضافة إلى المثالية التي تبدو واضحة في إنصاف الخصم، والإشادة ببسالته وثباته في ميدان القتال. |
وأعتقد أن في أدبنا العربي كثيراً من أمثال هذه النماذج العالية، والكنوز الفنية الرائعة التي توارت في بطون الكتب، وقصر الباحثون المحدثون في الكشف عنها وتجليتها للقارئين، ليستمتعوا بأمثال هذه النفائس من تراثنا الحافل بالتاريخ، والأدب الرفيع. |
ولعل علة هذا التقصير أنهم لا يتطلعون إلا إلى الأسماء اللامعة، والنجوم المتألقة في سماء الشعر العربي. |
وقد يكون فيما توارى خلف السحاب، أو بين الضباب، ما هو أكثر إشراقاً، وأجدر بالتطلع والارتياد.. |
* * * |
|