شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شعر الأعراب
قرأت لشيخ أدباء العربية أبي عثمان الجاحظ قوله:
"والشعر الفاخر حسن، وهو من فم الأعرابي أحسن، فإن كان من قول المنشد وقريضه، ومن نحته وتحبيره، فقد بلغ الغاية، وقام على النهاية".
والجاحظ يشيد في هذه الكلمة القصيرة بالشعر الفاخر، وهو الشعر الذي يطرب له، ويهز أوتار قلبه، وهو أكثر إثارة لعواطفه، وتأثيراً في مشاعره إذا كان الذي ينشده هو قائله الذي عانى في تجربته، وعبر عن هذه المعاناة، ثم يكون بعد ذلك هو الذي يلقيه أو يترنم به، فتكون التجربة تجربته، والشعر صناعته، والإنشاد إنشاده.
فالشاعر على هذا هو كل شيء في التفاعل بالتجربة، أو الانفعال بها، وفي تأليف الشعر، وفي عملية توصيلها بإنشاده ونبرات صوته التي تحكي انفعالاته إلى المتلقين فرادى أو جماعات.
ولم يحدد الجاحظ في هذه الكلمة القصيرة معالم ذلك الشعر الذي وصفه بأنه "فاخر" وهو الشعر المستحسن المستجاد النادر المثال الذي يشارك الجاحظ في رأيه فيه كل عارف بفن الشعر، وكل قادر على تذوق روائعه النادرة الساحرة.
ولكن الجاحظ يبسط القول في معالم ذلك الشعر في مواضع أخرى من كتبه المعروفة، وفي مقدمتها كتاب "البيان" وكتاب "الحيوان" وقد أفاض فيهما في شرح تلك المعالم أو الخصائص التي يتميز بها ذلك الشعر "الفاخر".
وناهيك بالجاحظ إماماً من أئمة البيان، وفارساً في طليعة النقاد أولى البصر بفن الشعر وسائر فنون الكلام.
وإذا كانت بغداد قاعدة الملك وحاضرة الخلافة في أيام بني العباس فإن البصرة التي عاش فيها الجاحظ كانت حاضرة العلم والأدب، يعمرها العلماء المحققون، والرواة الحافظون، والشعراء الذين يفدون عليها من قلب الجزيرة، ومن أطراف البادية.
وفي البصرة سوق "المربد" التي شهدت في الإسلام ما كانت تشهد سوق "عكاظ" في جاهلية العرب من أعياد الشعر التي كان يحتشد لها فحول الشعراء، يعرضون أجود بضاعتهم، ويتبارون في إنشاد ما أعدوه لذلك اليوم المشهود .
ونرى الجاحظ في هذه الكلمة القصيرة يشيد بشعر الأعراب خاصة، لأنه أحس بحلاوته في السمع، وبعد أثره في القلب وبخاصة إذا كان هذا الشعر الأعرابي ينشده منشئه أو مؤلفه. وذلك لأنه شعر مطبوع، لا أثر فيه من تكلف الصنعة.. وذلك ما صرح به "Alexander Pope" وهو واحد من زعماء الكلاسيكية الغربيين، وعلله بقوله إن القدماء كانوا على وفاق مع الطبيعة، لأنهم كانوا أقرب إلى تلك الطبيعة.
ولعل الجاحظ كان يشير من طرف خفي إلى تلك الطبيعة السمحة، وإلى تلك البساطة الحلوة التي كان يجدها ويتذوقها فيما يستمع إليه من شعر أولئك الشعراء من الأعراب، ويفتقدها في أكثر ما يسمع من شعر الحضر.
ولكن هذا الشاعر البدوي أو الأعرابي أخذ يبعد قليلاً قليلاً عن طبيعته، ويفقد أصالته بنزوح أصحابه إلى الحواضر والأمصار التي اجتذبت إليها فحول الشعراء، فاندفعوا إليها وهم يطلبون الحياة الناعمة في ظلال الخلفاء والأمراء والعمال يرشدونهم بالثناء والإطراء، وأولئك يمدون لهم في حبل العطاء، وبذلك أخذ الشعر يغير مساره، ويبعد عن بواعثه الأصيلة في ترجمته عن خلجات النفوس الشاعرة، أو تعبيره عن الحياة الإنسانية ونقدها.
ونحن مع ذلك لا ننكر أن الشعر العربي قد أفاد كثيراً من قرب الشعراء العرب من الحياة المدنية وإيغالهم فيها، وأن مخالطتهم تلك الحياة المدنية كان عاملاً من عوامل إثراء الشعر العربي، وارتياده آفاقاً جديدة، لا عهد لشعراء البادية بارتيادها فقد أتاحت له تلك الحياة الجديدة الوقوف على آثار الحضارة ومعالمها، ووقّفت الشعراء على ضروب من المعارف، وألوان من الثقافة التي كانت تزخر بها تلك الحواضر.
وقد أدى ذلك إلى شوب الشعر بآثار تلك المعارف، فخفت حدة العواطف ليحل محلها ذوب الفكر، وأثر النظر والتأمل، والجنوح إلى توليد المعاني واستقصائها، ومحاولة تحليلها وتعليلها.
وما نريد في هذه السطور أن نتتبع فن الشعر، ولا أن نرصد خطواته في الحياة، أو مراحل تطوره، وإنما نحن هنا بصدد فكرة الجاحظ، وتفضيله شعر الأعراب الذي يعده أفخر الشعر.
وقد توارت هذه الفكرة في زماننا خلف الحجب والأستار، لأننا لم نعد نسمع شعراً أعرابياً صافياً صادقاً نحس به كما كان يحسه الجاحظ قبل ما يقرب من اثني عشر قرناً.
ولا بد من التسليم بفعل الزمان واختلاف المكان وأثرهما في اختلاف الناس، وفي اختلاف الأذواق في الحكم على الأشياء.
وقد نسمع بما يسمى في زماننا "الشعر الشعبي" أو "الشعر البدوي" أو "الشعر النبطي" ولكن ما أبعد ما نسمع عن الشعر العربي أو شعر الأعراب الذي تحدث عنه أبو عثمان، ونتحدث عنه الآن !
وقد نسمع فيه لحن البادية، وقد نطرب لهذا اللحن، كما نطرب لألحان من الموسيقى الوافدة علينا من أقصى الشرق أو من أقصى الغرب.
أما أداة المحاكاة وهي اللغة فإننا نجدها في هذا الكلام الذي يقال أو ينشد أبعد ما تكون عن فصيح الكلام، بل إننا لا نكتفي في تقديرنا لفن الشعر بصحة هذه اللغة وسلامتها، فإن هذه الصحة مطلوبة في كل كلام يوصف بأنه كلام عربي، وإنما نتطلب في لغة الشعر والأدب تخير اللفظ، وحسن الرصف، وجودة السبك، وغير ذلك مما يميز لغة الأدب والشعر، ويخلع عليها الوصف بالخصوصية، أو بالفنية.
ومعنى ذلك أن طرب من يطرب لهذا الشعر العامي أو النبطي، أو إعجابه بما يسمع منه مقصور على الطرب للغناء أو للألحان، وقد يطرب للكلمات من يعرف لغة العامة ودلالة ألفاظها، أما جل متأدبي العربية فإنهم لا يتأثرون بالكلمات ولا بمضموناتها، لأنهم لا يعرفونها، ولا يفهمون معانيها.
وأنا أتحدث في هذا عن نفسي، وأصف تجربتي الخاصة التي لا أشك في أنها تصدق على كل من يجهل لغة هذا الشعر، ولا يمكن أن تثيره عباراته أو مضموناته.
فإنني أكرر الإصغاء إلى ما ينشد في الإذاعة من هذا الشعر، ويتكرر طربي لألحانه البدوية، وموسيقاه العذبة التي تمتاز ببساطتها ووحدة أداتها، وإن لم أفهم للكلام معنى !
ومهما يكن من أمر فإن الجاحظ ينكر أن يعد مثل هذا من البلاغة أو من البيان، لأننا لا نعرفه، ويقول "ولولا طول مخالطة السامع للعجم، وسماعه للفاسد من الكلام لما عرفه. ونحن لم نفهم عنه إلا للنقص الذي فينا!.. والعتابى حين زعم أن كل من أفهمك حاجته فهو بليغ لم يعن أن كل من أفهمنا من معاشر المولدين والبلديين قصده ومعناه بالكلام الملحون، والمعدول به عن جهته، والمصروف عن حقه أنه محكوم له بالبلاغة كيف كان بعد أن نكون قد فهمنا عنه. وإنما عني العتابي إفهامك العرب على مجاري كلام العرب الفصحاء !
وهذا الرأي الأصيل المبكر يمثل في نظرنا القول الفصل في هذه القضية التي طال فيها الحوار، وهو قول جدير بأن يصدر عن الجاحظ إمام الأدب وعالم البيان. وإن كنا لا نشك في عروبة القائلين، أو أصالة المعجبين ولكنه الفساد الذي سرى إلى لساننا، وتسلل إلى أذواقنا، حتى أصبحنا نتساءل مع الشاعر العربي القديم:
أين امـرؤ القيس والعـذارَىَ
إذ مـال مـن تحتـه الغبيطُ
استنبط الُعرْبُ في الموامـي
بعدك واستعْرب َالنَّبيطُ
أجل ليس ذلك من شعر العرب، وليس هو أيضاً من شعر الأعراب الذي نتحدث فيه الآن، والذي أشاد به الجاحظ من قبل.
ومن الحقائق التي ينبغي التسليم بها، ويجب أن تراعى في كل اصطلاح أدبي أن مفهوم "الشعر البدوي" يقابل "الشعر الحضري" وأن مفهوم "الشعر العامي" يقابل مفهوم "الشعر العربي" أو الشعر الفصيح.
إن شعر الأعراب لا يعني بالضرورة ذلك الشعر الجاسي الغليظ الذي عانى أصحابه خشونة الحياة وشظف العيش فانعكست آثار تلك المعاناة على أشعارهم، وبرزت آثارها في لغة تلك الأشعار وألفاظها التي يكثر فيها ما نعده في زماننا وفي بيئاتنا الحضارية من الوحشي أو الغريب.
ولكن شعر الأعراب ليس كله كذلك، فإن فيه كثيراً من الشعر العذب الرائق السلس القريب.. وإنما تختلف تلك الألفاظ، باختلاف الأغراض والموضوعات، فقد تخشن الألفاظ في الوصف، وفي ذكر المياه والجبال والوهاد والنبات والحيوان والمواقع والغزوات والإغارات.
ولكن هذا الشعر يصفو ويرق في شرح العواطف، وفي شعر النسيب.
وهو في جميع الأحوال لم يصدر إلا عن شعور صادق، وعن طبع موات لا تكلف فيه. واعتبر ذلك في شعر أكثر الشعراء الغزليين من أمثال جميل، وابن الدمينة، وعروة بن حزام..
وقد تقرأ للرجاز من شعراء العرب شعراً بالغ الرقة والسلاسة، مع ما يقال من أن شعرهم حافل بالحوشي والغريب، حتى ليعدوا الغرابة خصيصة من خصائص شعر أولئك الرجاز.. واقرأ معي قول الراجز:
*دعَ المطايا تنسمُ الجنوبا*
*أنَّ لها لَنَبأً عجيبا*
*حنينُها وما اشتكتْ لُغُوبا*
*يشهدُ أن قد فارقتْ حيبا*
ولذلك الشعر العربي السمح المطبوع آثار باقية في نتاج عدد من الحذاق المطبوعين من الشعراء المعاصرين.
وفي اعتقادي أن فارسهم المجلي في هذه الحلبة هو الشاعر العراقي محمد سعيد الحبوبي، وهو عربي أصيل نشأ في العراق، ورحل منه إلى بادية نجد، حيث أهله وعشيرته، ثم عاد إلى العراق، وقد فجر ينابيع شاعريته حنينه المستعر إلى موطن آبائه وأجداده، وقد برع في موشحاته، وأجاد فيها إجادة منقطعة النظير. وأذكر أن أول ما طرق سمعي من شعره إحدى موشحاته. وكانت تترنم بها مطربة عراقية بلحنها الصافي الآسر، وأذكر من أبياتها قوله:
أيّها العـذّال كفّـوا عذلكم
بالهوى العذريّ عذري اتّضحا
وامنحوا يا أهل نجد وصلكم
مُستهامـاً يتشكّـى البُرَحَا
"واذكرونـي مثل ذاكريَ لكم .
َ ربّ ذكرى قرّبت من نزحاَ"
إننا نقرأ في هذا الشعر شوقاً حاراً، وحنيناً إلى ربوع نجد يجاوز الحنين إلى الأنين، ونرى فيه أثر تلك اللهفة على الرحيل إلى تلك الربوع، فعينه ترصد كل سفر، وقلبه يتبع كل ركب، إن صوَّب أو صعَّد، وإن أتهم أو أنجد:
فاحْدُ بالركب إذا الركبُ حداَ
فيه يوماً وأقـمْ ما إن أقامْ
يمَّمْن نجـداً إذا ما أنجـداَ
وإذا أتْهَـمَ فالمسرىَ تهامْ
وهو إن يشهدْ فأُمَّ المشهداَ
وسلامٌ لك من دار السّلامْ
وتتتابع مقطعات هذه الموشحة الطويلة في عذوبتها وسلاستها، وتنساب في رياضها الأنيقة عاطفة صادقة مشبوبة، لا ينضب معينها نحو العرب وديارهم، يناشدهم الوفاء له كما وفي لهم، وإن شطت به الديار، وبعد عنه المزار، فقد أسروا قلبه ومشاعره، ولم يدعوا له إلا جسداً لا روح فيه:
الوفَا يا عُـرْبُ يا أهل الوفـا
لا تخونوا عهـد من لم يخُنِ
لا تقولوا صـدّ عنـّا وجفـا
عندكم روحي وعنـدي بَدنيِ
فلكَمْ جُبْتُ إليكم نفنفا
طالباً أوطانكـم مـن وطنيِِ
وحفتْ عيسى ومن بعد الحفا
لم تجدْ بالرَّبع غير الَّدمنِ
وإذا كان الحبوبي قد عرض في هذه الموشحة شيئاً من نسيبه الرقيق، أو شيئاً من شعر الخمريات فإنه يبرأ من سحر الظباء، ومن معاقرة ابنة الحان، ويقرر أن عفته وشرفه، يحولان بينه وبين الوقوع في شراكهما، ولكنه رام أن ينهج "نهج الظرفاء" الذين عفَّت نفوسهم، وفسقت ألسنتهم. استمع إلى هذا الشعر الآسر المطبوع:
لا تخلْ، وَيْكَ! ومن يسمعْ يخَلْ
أنَّني بالرَاح مشغوفُ الفؤادْ
أو بمهضوم الحشاَ سَاهيِ المُقلْ
أخجلتْ قامتهُ سُمْرَ الصَّعادْ
أو بربَّات خدورٍ وكَلَلْ .
يتفنَّنَّ بقربٍ وبعادْ
إنّ لي من شرفي بُرْدا ضفـا
هو من دون الهوى مرْتهني
غير أني رُمتُ نهج الظرفَا
عَفّة النفسِ وفسْق الألسُنِ
ولعلنا أطلنا بعض الإطالة فيما استطردنا إليه من هذا التعريف اليسير بمحمد سعيد الحبوبي، وفي عرض هـذه المقتطفات من إحدى الموشحـات التي أبدع في تأليفها كـل الإبـداع، وعز على المحدثين أن ينظموا مثل هذا النمط العالي من الشعر العربي.
ولم يكن ذلك ما قصدنا إليه من هذه الإشارات، وإلا فإن شاعرية محمد سعيد الحبوبي ما تزال في حاجة إلى دراسة عميقة خصبة تكشف عن أسرار الإبداع فيما حفظ الرواة من شعره، وإنما كانت غايتنا توقيف القارئ على شيء من ملامح شعر الأعراب في هذا النموذج من شعر المعاصرين كما تصورناه، وكما صورناه فيما مضى من هذا الكلام.
وقد نجد نماذج من هذا الشعر في ديوان الشيخ محمد عبد المطلب الذي كان يلقب شاعر البادية وقد ولد في صعيد مصر من أبوين عربيين. ولم تستطع حياته الطويلة في تحصيل العلم وتعليمه في القاهرة أن تطغى على روح البداوة التي تأصلت فيه، وطبعت شعره بذلك الطابع الذي تميز بين معاصريه.
كما نجد هذا الطابع المميز في بعض ما نقرأ لشعراء نجد، وفي ديوان "على ربا اليمامة" للشاعر السعودي الكبير عبد الله بن خميس. وهو ديوان جدير بدراسة خاصة، نسأل الله العون عليها.. (1)
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2320  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 16 من 25
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.