شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مستقبل الشعر العربي
لا يستطيع واحد من المنصفين أن ينكر على نفوس البشر ما جبلت عليه من التطلع إلى الجديد من أنساق الحياة المادية التي تحياها، وفي مجالات التفكير العقلي التي تخوض فيها، متى وجدت سبيلاً إلى هذا الجديد الذي تصير إليه، لأن في طبيعة هذه النفوس الرغبة الملحة في الانعتاق من الإطار الذي ألفت نفسها مقيدة فيه، والانطلاق من الإسار الذي ورثته، وعاشت تصحبه زمناً طويلاً، إذا أحست بالرتابة المملة في تكراره، واستقرار حياتها في إساره، لتطل من واقعها الرتيب على آفاق جديدة، وترى عوالم للحياة أو للفكر والفن ليس لها به ألفة، ولا سابق عهد.
ولا يستثنى من ذلك الموروث أو المألوف إلا ما يتصل بالعقائد وأحكام الدين، وإلا ما ثبت باليقين الذي لا شبهة فيه من حقائق العلم وألوان المعارف، ومن الفضائل النفسية التي تعرفها الفطرة السلمية، ولا تقبل التغيير بحال.
وليس من سبيل إلى إنكار تلك الحقيقة، وهي أن اتصال عالمنا العربي بالحياة الجديدة عند الأوروبيين أو الأمريكيين أو غيرهم من أمم الشرق أو الغرب قد أدى إلى تفاعل ملحوظ برزت آثاره في الحياة السياسية والحياة الاجتماعية والحياة الثقافية، وأن هذا التفاعل كان في مقدمة الأسباب التي أدت إلى النهضة الكبيرة التي تشهدها الأيام الحاضرة في جوانب كثيرة من حياة الأمة العربية.
وقد حظي الأدب العربي بحظ كبير من هذه النهضة الشاملة بتأثير ذلك التفاعل الذي أفاده حيوية ونشاطاً، وبحثاً عن مجالات جديدة للإبداع، يسابق فيها ركب الحياة الأدبية المتحرك في العالم الإنساني، وتشعل تلك الجذوة الخامدة في نفوس أدباء العربية، لتنهض من غفوتها، وتستعيد سيرتها الأولى في النشاط والعطاء.
وفن الشعر هو أبرز الفنون عند العرب، وأكثرها تفاعلاً مع نفوسهم وتأثير حياتهم. ولذلك حرصوا عليه كل الحرص، واعتدوا به أيما اعتداد، لصدقه في وصف حياتهم، والإشادة بأمجادهم، وتعبيره الصادق عن عواطفهم وأمانيهم، وخلجات نفوسهم.
وسار الشعر في ركاب أصحابه مسيرة طويلة، وهو محتفظ بأصالته، وقوته ونضارته، متأثراً بقوة الدفع الأولي، يصحب العرب في مسيرتهم في الحياة، ويعيش معهم في البلاد التي ارتحلوا إليها، وفي المواطن التي استقروا فيها، وكلما خفت قوة الدفع بطول المسيرة تولدت قوة دفع جديدة، بفعل الحياة الجديدة وآثار الحضارة التي لم يكن لشعراء العرب الأولين عهد بها، وبالشعراء من أبناء تلك المواطن الذين أصبحت العربية لسانهم، وتعلقوا بهذا الفن الشعري حتى نبغوا فيـه، وكان ذلك رافـداً جديداً، زاد الشعر العربي نضارة وازدهاراً.
واستمر الشعر العربي يمتاح من هذه الروافد قديمها وجديدها، حتى كانت عهود من الضعف والتخلف عاشت فيها الأمة العربية، وعانى فيها هذا الشعر ما عانى أصحابه في سائر دروب الحياة ومسالكها.
وفي هذا العصر الحديث نشط الشعر من عقاله، ودبت فيها الحياة، ونفقت سوقه نفاقاً مشهوداً..
وكان من عوامل هذا النهوض في دولة الشعر ارتياد الشعر العربي القديم، وبعث الحياة في روائعه المأثورة عن طريق جمعها وطبعها، وإقبال الشعراء على حفظها، والتزود من أساليبها وصورها ومعانيها ما يعين ملكة الشعراء الموهوبين على الإفصاح عن مكنون شاعريتهم، والتعبير عن تجاربهم في أبهى صورة، وأزهي بيان.
وذلك هو سبيل البارودي إلى الإجادة والإبداع حتى وصفه مؤرخو الأدب بأنه رافع لواء نهضة الشعر الحديث. وهو وصف جيد لدلالته على الانتكاسة التي أصابت الشعر العربي في الصميم.
وهو أيضاً السبيل الذي احتذاه كثيرون من كبار شعراء العربية المحدثين.
ثم كان هذا الرافد الجديد الذي أتاح لهؤلاء الشعراء فرصة الوقوف على اتجاهات الفن الشعري في الآداب الأجنبية، والإفادة مما تمكن الإفادة منه من هذه الاتجاهات.
وقد كان من المتوقع أن تطرد العناية بهذا الشعر حتى يزدهر ويستوي على سوقه.
وقد قطع الشعر فعلاً أشواطاً بعيدة في مسيرته، وفي سبيل الوصول إلى غاياته، واستعادة مجده القديم، فنشطت فنونه المعروفة، وتجددت في معانيها لتعبر عن الحياة الجديدة في سيرها الحثيث، وعظمت عنايته بشئون السياسة. ووصف أحوال المجتمعات وعللها التي تقعد بها عن بلوغ ما تطمح إليه من المنزلة بين الأمم والجماعات الإنسانية.
واستطاع هذا الشعر أن يتجاوز الغنائية التي طبعته بطابعها في العصور الخالية، وبرز الشعر التمثيلي جنساً أدبياً كبيراً، وفنا عربيا متكاملا بين فنون الشعر المعروفة، واستمتع به خاصة المتأدبين قراءة وتأملاً، وشاركتهم في تذوقه وفي الاستمتاع به ممثلاً على خشبات المسارح من لا يحصون عدداً من سائر طبقات الأمة.
وبذلك أصبح هذا الشعر التمثيلي مدرسة لتهذيب العواطف، وشحذ الهمم، وتثقيف العقول، وتعريفها بأحداث التاريخ، ووصف خلجات النفوس، وسبحات الخيال، في الحدود التي تسمح بها طبيعة الفن الشعري.
وكان فضل الريادة في هذا الجنس الشعري، كما هو معروف لأحمد شوقي كبير شعراء العربية في هذا القرن بعد أن شهد روائع من هذا الشعر المسرحي الذي صنعه الشاعر الإنجليزي الكبير وليم شكسبير وهي تمثل على خشبات المسارح في أوروبا. وقد فتح شوقي بمسرحياته الكثيرة التي ألفها فتحاً جديداً في عالم الشعر العربي، واقتدى به في تأليف الشعر المسرحي جماعة من شعراء العربية الموهوبين، تفاوتت منازلهم في درجات الإجادة والإتقان.
وقد شغل هذا الفن الجديد الحياة الأدبية في العالم العربي، فكثرت حوله الكتابات التحليلية والدراسات النقدية في الصحف والمجلات، وألفت كتب خاصة تدرس هذا النتاج وتحلله وتنقده وتوازن بينه وبين غيره، وهي كتب كثيرة منها "قمبيز في الميزان" للعقاد، و"مسرحيات شوقي" لمحمد مندور، و "مسرحيات عزيز أباظة" لعبد المحسن عاطف سلام، كما كانت هذه المسرحيات موضوعات لرسائل جامعية حصل بها أصحابها على درجات علمية..
وبذلك نشط النقد من عقاله بعد أن وجد له مجالاً فسيحاً، يصول فيه النقاد العرب ويجولون، ويحاولون التعرف على أصول هذا الشعر المسرحي عند الأمم التي سبقتنا إليه، وكانت لها قدم راسخة في تأليفه ودراسته ونقده وفق الأصول التي وضعها له كبار النقاد.
وليس هناك من شك في أن هذه الدراسات المستحدثة كانت عاملاً فعالاً في نموّ الوعي الأدبي، والتعرف على قيم جديدة لم تكن معروفة عندنا من قبل، كما كانت مصدراً من مصادر ثقافة النقاد التي كان من الضروري لهم أن يحصلوها وأن يثقفوها، حتى يتقبل الشعراء والأدباء آراءهم في هذا المجلس الجديد الذين يعرضون لتقويمه ونقده.
وهكذا دبت الحياة في الشعر العربي، وبعث من رقدته، ليجاري ركب الحياة الجديدة، والوعي الجديد، ويعبر عنهما بلغته الممتازة، وموسيقاه العذبة المتنوعة في بحور الشعر وأنساقه الموروثة، وفي نظام القوافي الموحدة التي تنتظم هذه الموسيقي وتكملها، كما ألفتها الأذن العربية، وطربت لها، ورضيت عنها، وتأثرت بها طوال خمسة عشر قرناً أو تزيد.
ولا حاجة بنا إلى القول بأن تلك الأنساق المتعددة لقوالب الشعر لم تكن من عمل ناقد، أو وضع عالم، أو اقتراح متطفل على موائد الشعر والأدب. وإنما كامن من صنيع الشعراء أنفسهم، وهم الذين اهتدوا إليها فنهم، وأسرار الإبداع فيه.
وشأن الشعر في ذلك شأن سائر الفنون، لا يستثني فن منها، فإن كل أصل من أصولها، وكل ظاهرة من ظواهرها إنما هي من ابتداع أرباب تلك الفنون، ولم يكن لواحد من العلماء أو النقاد أثر في ذلك، وإنما كان قصارى جهدهم التعرف على تلك الأصول أو الظواهر، والكشف عن حقائقها، ومحاولة الوقوف على وجوه الإبداع فيها، وأسرار التأثر بها. وهـم في ذلك كلـه لا يرجعـون إلى منطقهم ولا إلى عقولهم، وإنما يرجعون إلى طبيعة تلك الفنون التي عرفوها في أعمال أولئك الذين يعتد بهم من أرباب تلك الفنون.
وخلاصة ما نقول في هذا المقام أن (الفنية) كامنة في نفس صاحبها، وأن هذه النفس هي التي تجود بمكنونها، وما أودع فيها مما يروق ويشوق، ونصبها في القوالب والأشكال التي تهتدي إليها بفطرتها. ونحن لم نرَ هذه الأعمال الفنية إلا في صورتها الكاملة مصبوبة في قوالبها، ونحس بما تتضمن من حسن الجمال، ونحاول أن نتبين، أو نستكشف أسباب إعجابنا، أو أسباب إحساسنا بهذا الجمال.
والمثل في ذلك الوردة أو الزهرة التي تروعنا بجمال منظرها، وتنسيق وريقاتها، وبهجة ألوانها، وعبير أريجها. . إننا لا نهبها شيئاً من هذا، ولكننا نحس بذلك كله، ونستمتع بهذا الإحساس، ثم نعبر عن مشاعرنا بالإقبال على ما أعجبنا، والإعراض عما كرهنا، أو بالألفاظ المنطوقة أو المكتوبة التي يتفاوت فيها الناس..
وإنما ذكرنا هذا لنؤكد ما قررناه، وهو أن قوالب الشعر وأنماطه التي وصلت إلينا كانت أنماطاً طبيعية اهتدي إليها الشعراء بفطرتهم أو بفنيتهم، وتقبلها النفوس، واطمأنت إليها الأذواق، لأنها وجدت فيها ما يحقق غاياتها من هذا الفن الإنساني العريق الجميل.
* * *
ونعود إلى حديثنا عن نهضة الأدب التي أصاب الشعر منها حظ عظيم، وإلى النقد الأدبي الذي انبعث ليرصد تلك المسيرة الجادة في الفن الشعري، وليتابع تلك النهضة المتطلعة إلى الأمام.
وكذلك كان للنثر الأدبي نصيب كثير منها، فقد برز الفن القصصي بصورة واضحة بين أجناس الأدب، وتعدد أنواع القصص وموضوعاتها، وكثرت القصص المترجمة والمقتبسة في أول الأمر، ثم استقل كتابها بالتأليف في موضوعات تعرض لمشكلات المجتمع، وأحداث التاريخ، وشخصياته التي كان لها دور بارز في تلك الأحداث. ولمعت في سماء الأدب أسماء لفيف من الأدباء الذين تخصصوا في كتابة القصة، وعظم اهتمام الجماهير بهذا الفن الذي زاحم فن الشعر في الذيوع والانتشار حتى كاد يطغى عليه، وعلى فنون الأدب بعامة، باستثناء الفن المسرحي، وهو أيضاً يعتمد اعتماداً كبيراً على فن القصة..
وإذا تجاوزنا أجناس الأدب المنثور التي أشرنا إليها سريعة في هذه الكلمات، فإننا نعود إلى جوهر موضوعنا الذي يتصل بهذا الأدب المنثور، فقد برز جماعة من الأدباء الكاتبين الذين تذوقوا أساليب النثر الرفيعة في عصور ازدهار الكتابة العربية، وحذقوا لغة العرب، وتمرسوا بآدابها، ووقفوا على أسرار عبقريتها، ونهلوا من الثقافات التي تفجرت ينابيعها هنا وهناك، فزاولوا صناعة الكتابـة، واشتهروا بجودة الأسلوب، ونصاعة العبارة، وافتنوا في نظم الكلام الجيد الجميل، وحملوا كتاباتهم ما شاءوا من الأفكار والعواطف التي تضطرب بها جوانحهم، ومن الأخيلة التي صورتها تأملاتهم المتأنية، واستغراقهم في تجاربهم العاطفية والشعورية ببيان مشرق خلاب، من أمثال السيد توفيق البكري، وشكيب أرسلان، ومصطفى لطفي المنفلوطي، ومصطفى صادق الرافعي، وأحمد حسن الزيات، وغيرهم من حملة الأقلام الذين أخذوا بألباب جمهرة القارئين، بما وجدوا في كلامهم المنثور من تخير اللفظ وجودة السبك، وجمال التصوير، وروعة التخيل، وتناسق التراكيب، ورنين فقرها وفواصلها، مما كانوا يجدونه في أساليب كبار أدباء العربية إبان نضرتها وازدهارها، وما يجدونه كذلك في روائع الشعر المنظوم.
ولم يجدوا ما يفرقون به بين الشعر وهذا النثر الفني سوى أن المضمونات والأخيلة والصور في فن الشعر قد صبت في قوالبها وأشكالها المأثورة، وأن النثر الفني قد تحرر من تلك القوالب والأشكال.
ولقد سوغ هذا التشابه الكبير بين الفن الشعري والنثر الفني في الأثر الذي يحدثه كل منهما في نفوس المتألقين أن يطلق بعض الأدباء أو النقاد على ذلك النثر اسم "الشعر المنثور" في الدلالة على ذلك النثر الذي تأنق فيه كاتبوه، وأبدعوا في صياغته. فقد تقبلت الأذواق هذه التسمية التي احتفظ فيها بالوصف الدال على نسق الكلام، وهو "المنثور".
وكذلك كانت القافلة تسير سيرها الحثيث في طريقها الطبيعي الصحيح..
كل شيء في موضعه..
وكل أديب في منزلته بين أقرانه في فنه..
وكل لفظ في دلالته..
وكل مصطلح فيما اصطلح به عليه..
وحفلت الحياة الأدبية بالشعراء الموهوبين، وبالكتاب المبدعين، وبالخطباء المفلقين، وبالقصاص البارعين. وحفلت كذلك بالنقاد العارفين الجادين الذين ربما تجاوز بعضهم دائرة الجد والاعتدال في تناول الأعمال الأدبية إلى درجات من التطرف والعنف في محاسبة الأدباء.
ومن وراء هؤلاء وأولئك جماعات من المتأدبين تهذبت أذواقهم بكثرة ما يقرءون من النتاج الجيد، ومن النقد الذي يبصرهم بفنون الأدب، ويعينهم على تذوقها، وتمييز جيدها من رديئها.
حتى إذا أراد بعض النثار، أو أراد لهم بعض النقاد أن يسموا نثرهم الفني أو "شعرهم المنثور" شعراً من غير وصف يفصله عن النثر، أو يميزه من الشعر بمفهومه الواضح المعروف عند العامة والخاصة..
قالوا: ولم لا يكون أولئك النثار شعراء؟
أليس فيه من العاطفة والتخييل والتصوير ما يمتع النفوس ويشبع العواطف في مثل ما في الكلام الذي أجمعتم على تسميته شعراً ؟
فإن قيل لهم إن للنثر الأدبي المأثور عن العرب من التأثير، وفيه من الجمال ما لا يقل عن جمال الشعر بحال، وفيه ما عد به أصحابه في الطليعة من أمراء البيان في الأدب العربي !
قالوا: هذه شهادة لنا لا علينا.. ولذلك كنا حراصاً على وحدة الألقاب!
فإن قيل لهم: فلم تصرون على زحزحة الأسماء عن مسمياتها، والألفاظ عن مدلولاتها، وفي الشعر موسيقي تنتظمها البحور والأوزان والقوافي كما عرفناها فيما روينا من الشعر العربي ؟
قالوا: قد سئمنا هذه الرتابة في الشعر "العمودي".. وعندنا الموسيقى في "التفعيلة"، ورب تفعيلة خير من تفعيلات، وقد يكون في القليل ما يغني عن الكثير ! !
وهذه سلسلة لا تكاد تنتهي حلقاتها من الجدل العقيم الذي لا جدوى من استمراره في أمور يحتكم فيها إلى الذوق، وإلى تقاليد كل فن.
وكأن هذا الجدل العقيم قد أصبح جزءاً من كياننا، أو لازمة من لوازمنا، أو ظاهرة من ظواهر حياتنا العقلية أو الفكرية.
أو كأن هذا الجدل حتى فيما لا يقبل الجدل، وفيما نحن مقتنعون بصحته - علامة على الوجود، ودليلاً على تمتعنا بالوعي وقوة الإدراك.
وإن شئت فقل إنه دليل على القدرة على "استعراض العضلات"، إن لم نكن من أصحاب العضلات! فإذا أعوزنا الدليل، ولم تسعفنا الحجة على الغلبة على أصحاب الرأي الآخر، وجدنا العون جاهزاً، والمدد مسعفاً في الشتم والسباب، من غير حساب، وربما في استخدام "العضلات".. ثم تضل الحقيقة في طريقها في الظلام، أو في الزحام، ولا يعنينا بعد ذلك أن تهدر القيم، أو أن تضيع الحقائق!
وفي رأيي أنه ليس هناك خلاف بين القوم على حقائق الأشياء، وإنما ينحصر الخلاف بينهم في الألقاب أو في الأسماء.
إن "الكمثرى" و "التفاح" فاكهتان طيبتان، يعرفهما كثير من عباد الله، يتفكهون بكل منهما، ويحمدون ربهم على ما رزقهم من الطيبات، وما أخرج لهم من الأرض.
والفاكهة جنس، تندرج تحته أنواع، فالكمثرى نوع، والتفاح نوع، كما أن العنب والرمان والموز والتين وغيرها كلها أنواع من الفاكهة، يختص كل منها بما يميزه من غيـره من أفـراد الجنس، في الشكل واللون والحجم والرائحة والمذاق، يفضل بعضها بعضاً في الأكل، ويختلف الناس في إيثار بعضها على بعض.
وفي كل نوع من هذه الأنواع ما هو جيد بالغ الجودة، وما هو ناضج تام النضج، ومنه ما هو رديء لا يستساغ، لأنه ما يزال فجاً أو نيئاً لم يبلغ درجة النضج، أو لأنه جاوز مرحلة النضج إلى درجة العطب والفساد، أو لأن آفة من الآفات حالت بينه وبين الوصول إلى الصورة المشتهاة.
وفي كل حال يحتفظ كل نوع باسمه الذي وضعه له أصحاب اللغة، أو اصطلح عليه ورثتهم في تلك اللغة، فالتفاح هو التفاح، والكمثرى هي الكمثرى، والعنب هو العنب، والتين هو التين !
وليس من حق فرد أو جماعة أن تزيل الاسم عن مسماه، فتسمي التفاح كمثرى، أو التين عنباً، وإلا اختلطت اللغة، وفقدت الألفاظ دلالتها على ما وضعت له.
ولم يكن لذلك الصراع الذي نشب بين أنصار القديم ودعاة الجديد من جدوى بقدر ما أحدث من فوضى واضطراب بين الشعراء، وبلبلة في سوق الأدب.
وأبرز النتائج التي أدى إليها ذلك الصراع هو تحول بعض الشعراء عن القوالب والأشكال المأثورة إلى قرض الشعر المتحلل منها، وكان الذي دعاهم إلى هذا التحول خوفهم أن يتخلفوا عن الركب، وأن يفوتهم القطار الذي غرهم صفيره، وعرفوا قلة مئونته، وخفة محمله في عدم الالتزام ببحر من بحوره المعروفة، وما يقتضي هذا الالتزام من معرفة عروضية بما يجوز أو يمتنع في هذا البحر أو ذاك، وفي عدم الالتزام بنظام القوافي ووحدتها في العمل الشعري الواحد، وذلك الالتزام يكلف الشاعر جهداً في التنسيق، ومعرفة واسعة باللغة، لتعينه هذه المعرفة على تخير الألفاظ الجيدة التي تأتلف مع ألفاظ البيت ووزنه ومعناه.
وقد غر هذا التحول بعض الذين لم يعرفوا من الشعر إلا اسمه، فساروا في الطريق، وقلدوا في التجديد، وحسبوا أن كل كلام لا معنى له، ولا نسق ينتظم أجزاءه يمكن أن يكون شعراً.. ووجد هؤلاء المخدوعون جداول الصحف، وصحائف المجلات تتسع لنشر نتاجهم المتهافت الهزيل، كما وجدوا من يشجعهم على المضي في الطريق، ومن يدافع عن ضعفهم واستخفافهم بهذا الفن الإنساني الرفيع.
أما عامة المتأدبين فقد زهدوا في الشعر بنسقه المأثور بعد أن رأوا زهد أصحابه فيه، وتحولهم عنه، وتفاقم الثورة عليه من أصحاب الجديد الذين لم يجدوا في أكثر أعمالهم البديل عمّا فقدوه أو ضيعوه.
وقد دهش الناس أشد الدهش حينما طرقت أسماعهم عبارة "الشعر المنثور"، وهم أشد عجباً وإنكاراً حين تخرق آذانهم عبارة "قصيدة النثر"، وليس أضل في التجديـد، أو في "التحديث" من هـذه البدعة الممسوخة، التي تدل على استخفافٍ بالفن، وجهل فاضح بأصوله ومقوماته.
وبذلك ضاع القديم، ولم تقم دولة للجديد.
أما المستقبل فعلمه عند الله !
* * *
أقول هذا وأنا أعرف أن هناك عدداً كبيراً من كبار شعراء العربية المجيدين قد صمدوا في هذا الصراع، ولم تبهرهم دعوة التجديد، فلم يركبوا هذه الموجة، ولم يجرفهم تيارها، فظلوا على عهدهم، يعزفون لحونهم على قيثارتهم الأصيلة، ومنهم في العراق حافظ جميل، ومحمد مهدي الجواهري، وخالد الشواف، وعاتكة الخزرجية.. وفي المملكة العربية السعودية محمد حسن فقي، وطاهر زمخشري، وعبد الله بن خمسين، وحسين عرب، وعبد الله بالخير، وحسين سرحان، وعبد الله بن إدريس، ومحمد علي السنوسي، وأحمد سالم باعطب، ومحمد سعيد العمودي، وزاهر الألمعي.
وأعتقد أن في مقدمة الأسباب التي حملت هؤلاء الشعراء المبدعين وأندادهم على الصمود والحفاظ على تقاليد الشعر العربي في قوالبه وأشكاله، حرصهم على وصل نتاجهم بالتراث الحافل الذي أبدعه أسلافهم من فحول الشعراء، ثم ثقتهم بأنفسهم، واعتدادهم بشاعريتهم، يضاف إلى هذين العاملين ما حصلوا من ثقافة لغوية، وثقافة أدبية وجدوا فيهما ما أعانهم على الوفاء بما أرادوا من التعبير عن أغراضهم وعواطفهم وتجاربهم في حلة زاهية من البيان المشرق الأخاذ.
* * *
ويبقي السؤال بعد ذلك:
أما تزال حياتنا في هذا العصر الحضاري في حاجة إلى الشعر؟
وإذا كان الشعر ضرورياً للحياة الإنسانية في سائر عصورها، وفي مختلف ظروفها، فما السبيل إلى استبقائه؟ وكيف نعمل على إحيائه؟
والجواب أن أولئك الذي فتنتهم الحضارة المادية، وأخذ بألبابهم ما شهدوه من آثار الثورة الصناعية، وما استطاع العلماء أن يحققوه بتجاربهم في مختبراتهم، وما قدموه للإنسانية من ثمرات هذه المعاناة وذلك الكفاح مما تنعم به البشرية اليوم، وتراه حقيقة ماثلة، بعد أن كان وهماً أو خيالاً يداعب أحلامها..
هؤلاء يرون أن الشعر لا يعدو أن يكون ضرباً من ضروب العبث، وعملاً من أعمال الفراغ، تدفع إليه البطالة التي يجد أصحابها الوقت، ولا يجدون العمل الجاد النافع الذي يملئون به هذا الفراغ، وأحرى بهؤلاء الشعراء أن ينفضوا عن أنفسهم غبار الكسـل، وأن يبحثـوا لأنفسهـم عن عمل من الأعمال النافعة يشاركون به في بناء المجتمعات التي يحيون في ظلالها.
وهذا الرأي قريب جداً من رأي حكماء اليونان القدامى الذين صرح واحد من أعلامهم أن فن الشعر قد طلق الحقيقة تماماً، وأنه بعد ما يكون من أعمال العقلاء يقدرون ما وهبهم الله من الفطنة والذكاء.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :636  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 12 من 25
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.