شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ابن زيدون سجيناً (1)
أيّها المؤْذنـي بظلْم الليالي
ليس يومي بواحد من ظَلُومِ
قمرُ الأرض إن تأملت والشمـ
سُ هما يُكسفان دون النجومِ
وهو الدهر ليس ينفكّ ينحوُ
بالمصاب العظيم نحو العظيمِ
".. وكنت أول حبسي قد وضعت من السجن في موضع جرت العادة بوضع مستوري الناس وذوي الهيئات فيه، وفي الشر خيار، وبعضه أهون من بعض..
"فمنيت من مطالبة بعض من يأتمر الناظرون في السجون له، ويسمعون منه بما اقتضى نقلي إلى حيث الجناة المفسدون، واللصوص المقيدون، ومنع مني عوَّادي.. ".
* * *
كتب ابن زيدون الأبيات الثلاثة في قصيدة باكية ختم بها رسالته التي أرسلها من سجنه إلى أبي الحزم بن جَهْوَرَ أمير قرطبة، يستعطفه ليفك قيده، ويطلقه من سجنه الذي رمى به في غيابه..
والسطور المنثورة من رسالة طويلة كتبها ابن زيدون بعد فراره من السجن إلى صديقه وأستاذه أبي بكر مسلم بن أحمد بن أفلح، يسوغ فيها فراره، ويعاتبه على ما بلغه من لومه إياه، وتسفيهه رأيه في فراره من السجن، مع ما كان يظن من قدرة أبي بكر على تهوين خطبه، وتذليل صعبه، ومعاونته على الخروج من المحنة التي ابتلي بها بالشفاعة له عند ابن جهور..
وقد قضى ابن زيدون في ظلمات السجن في قرطبة سبعة عشر شهراً اتصلت أيامها بضروب من الإيذاء والتعذيب.
ومن أعاجيب الزمان، ومن صروفها الكبار أن يكون الآمر بحبسه هو أبو الحزم بن جهور، مع ما كان لابن زيدون من اليد الطولى في إمارته بما بسط الله له من المنزلة والجاه، وبما وهبه من قوة المنطق وسحر البيان، ليصبح ابن جهور أميراً لقرطبة، وليكون لبني جهور فيها دولة وملك كبير، حتى قال فيه الفتح بن خاقان في "قلائد العقيان":
"زعيم الفئة القرطبية، ونشأة الدولة الجهورية، الذي بهر في نظامه وظهر كالبدر ليلة تمامه، فجاء من القول بسحر، وقلده أبهى نحر.. وكلفت به تلك الدولة حتى صار منهج لسانها، وحل من عينها مكان إنسانها. وكان له مع أبي الوليد بن جهور - ابن أبي الحزم - تآلف أحْرَما بكعبته وطافا، وسقياه من تصافيهما نطافاً. وكان يعتد ذلك حساماً مسلولاً، ويظن أنه يرد به صعب الخطوب ذلولاً، إلى أن وقع له طلب أصاره إلى الاعتقال، وقصره عن الوخد والإرقال، فاستشفع بأبي الوليد وتوسل، واستدفع تلك الأسنة المشرعة والأسل، فما ثني إليه عنان عطفه، ولا كف عنه فنون صرفه.. ".
* * *
والذي يثير العجب في النفوس ما ذكره المؤرخون من صفات أبي الحزم بن جهور الذي زج بصديقه ووزيره أبي الوليد بن زيدون في غيابات السجن.
فقد أجمع المؤرخون على وصفه بالعدالة والكياسة وحسن السياسة، كما وصفوه بالعلم والوقار والعفة والدين والورع، وبالزهد في مظاهر الحكم والسلطان. وكان يقول إنه يحكم حتى يجتمع الناس على إمام عادل، يتخيرونه بإرادتهم..
ويقولون إنه لم يغير بعد توليه الحكم شيئاً من أسلوب حياته، فلم يبرح داره إلى قصر الخلافة، وظل يؤذن للصلاة على باب مسجده، ويشهد الجنائز، ويصلي التراويح، ويعلن الشورى في إدارة شئون إمارته.
نقل صاحب "المغرب في حلي المغرب" أن أبا الحزم كان من وزراء الدولة العامرية، قديم الرياسة، موصوفاً بالدهاء والسياسة، ولم يغير أمراً توجبه المملكة، حتى أنه بقي يؤذن على باب مسجده، ولم يتحول عن داره، وأحسن ترتيب الجند، فتمشت دولته، وكان حرماً يلجأ إليه في كل خائف ومخلوع عن ملكه، إلى أن مات في صفر سنة 435هـ.
إذا كانت هذه أخلاق أبي الحزم وصفاته، وإذا كان قد عرف بالورع وتقوى الله، وبالعدل والكياسة، والعفة وحسن السياسة فما تلك الجريرة التي اقترفها ابن زيدون، وحلت عرا المودة والصداقة، وتقطعت بها الأواصر بين أبي الحزم الأمير الورع العادل ووزيره الوفي الأثير، وأدت إلى تلك القطيعة القاسية، وإلى تلك المحنة الأليمة، أو كما يقول ابن زيدون نفسه فيما كتب إلى أبي الحزم من سجنه الرهيب:
"ما هذا الذي لم يسعه عفوك، والجهل الذي لم يأت من ورائه حلمك، والتطاول الذي لم يستغرقه تطولك، والتحامل الذي لم يف به احتمالك؟ ..
"ولا أخلو من أن أكون بريئاً، فأين العدل؟ أو مسيئاً، فأين الفضل؟ .."
ولا يفوت ابن زيدون أن يتمثل في هذا المقام ببيت لأبي عبادة البحتري، وهو قوله في عتاب الخليفة المتوكل:
إلا يكن ذنب فعدلك واسع
أو كان لي ذنب ففضلك أوسع
* * *
لقد كان ابن زيدون يعرف تمام المعرفة السبب الظاهر الذي اقتلعه من منصبه الخطير، وقذف به في أعماق السجون
ولم يكن أبو الحزم بن جهور في ظاهر الأمر هو الذي سجنه..
ولكنه حكم القضاء الذي وقف أو أوقف في ساحته متهماً باغتصاب عقار !
وأيا ما كانت حقيقة التهمة، ومهما يكن القول في فقه أو في عدالة القاضي الذي دفع ابن زيدون إلى المثول بين يديه، أو مدى خضوعه في حكمه على ابن زيدون لأحكام القضاء في الشريعة الإسلامية، وفي فقه الإمام مالك على وجه الخصوص، فقد كان ذلك ظاهر الأمر الذي عرفه الناس، وكان ابن زيدون يعرفه تمام المعرفة.
وكان ذلك القاضي الذي اختاره أبو الحزم اختياراً لمحاكمة ابن زيدون هو عبد الله بن أحمد المكوي الذي وصفه مؤرخو الأندلس بأنه "لم يكن في نصاب القضاة" أي أنه لم يكن من المعدودين فيهم، كما قالوا عنه "إنه لم يكن من القضاء في ورد ولا صدر، لقلة علمه ومعرفته" وكما قالوا عنه أيضاً إنه "رجل قليل العلم، نكد الخلق" !
وكانت نتيجة هذه المحاكمة أن قضى ذلك القاضي بحبس ابن زيدون حبساً مطلقاً، أي لا أمد له، ولا حد لنهايته.
ولذلك طال أمد حبسه، حتى زاد على خمسمائة يوم، ولم يخلصه من السجن والتعذيب سوى الفرار "فتحيل لنفسه، حتى تسلل من حبسه، ففر منه فرار الخائف، وسرى إلى اشبيلية سرى الخيال الطائف، فوافاها غلساً قبل الإسراج والإلجام، ونجا إليها طمرة ولجام" كما يقول صاحب "قلائد العقيان".
ولم يشهد على ابن زيدون فيما اتهم به فيما يقول المؤرخون سوى شاهد واحد، وصفه ابن زيدون بأنه "العاري من الثقة والأمانة، البعيد عن الرعاية والصيانة، الناشر لأذنيه طمعاً، الآكل بيديه جشعاً"!
وكان "ابن العطار" هو ذاك الشاهد الذي وصفه ابن زيدون بهذه الأوصاف..
وكانت الفتوى أن يعذر ابن زيدون، أي يعطي فرصة للدفاع عن نفسه، فإذا لم يأت بما يدفع التهمة عنه بالحجة المقنعة قضى بسجنه.
* * *
وليس بين أيدينا ما يحملنا على القول بتبرئة ابن زيدون من تلك الدعوى، أو ما يؤدي إلى الجزم بإدانته في تلك الخصومة على العقار المتنازع عليه.
ولكن الذي يبدو أمامنا هو أن مقاضاة ابن زيدون أو محاكمته كانت محاكمة "صورية"، فقد تخير له أبو الحزم بن جهور - كما قالوا - قاضياً لم يعرف بالقضاء، ولم يحكم في القضية مراعياً أصول التقاضي، والفصل في الخصومات، ولم يمنح المتهم فرصة للدفاع عن نفسه، ورفض الأخذ ببينته، ولم يثبت أنه طالب ابن زيدون باليمين التي يطالب بها المنكر إذا لم يكن لدى المدعي بالحق بينة أو دليل، ولكنه قضى بحبس المدعي عليه حبساً مطلقاً..
وهذه كلها مظاهر عنت وإجحاف بحقوق المتقاضين من عامة المسلمين، فكيف بابن زيدون في علمه وأدبه، وفي يده المعروفة في إقامة دولة بني جهور، وفي منصب الوزارة الذي كان يتولاه مخلصاً لأميره، ناصحاً أمينا له، عاملاً على توثيق علاقته بمن يجاوره من الأمراء وملوك الطوائف الذين كان يخشى مؤامراتهم، وانقضاضهم على دولته أو إمارته في قرطبة ؟ ؟ .
إن ذلك كله يحتاج إلى تفسير، لم يقدم لنا التاريخ منه إلا لمحات.
* * *
لقد كان أبو الحزم بن جهور- كما وصفه المؤرخون رجلاً صالحاً مستقيماً ديناً..
وكان ابن زيدون الذي شغل من المناصب أرقاها، ووزر للخلفاء والأمراء، وزاول من الأعمال أكثرها خطورة، أشبه بأبناء المترفين من أولي النعمة وذوي اليسار، فقد كان من الذين أسرفوا على أنفسهم في اللهو والشراب، واستهتروا بأسباب الأنس، والانغماس في غمار الشهوات.
ولم يكن ثم ما يكبح جماحه، أو يثنيه عن الاسترسال في ضروب الملذات التي كان ينتهبها انتهابا غير عابئ بمنصبه الخطير، وجاهه العريض، وبيته الكبير ..
وينبغي أن يدخل في الحساب قبل كل اعتبار أن ابن زيدون كان أديباً كبيراً، وشاعراً مرموقاً، ذا حس مرهف، وعاطفة مشبوبة، وأن اكثر أرباب الفنون لا يعبئون بالقيود التي تحد من حريتهم في التعبير عن أحاسيسهم وتجاربهم، ويذهب فريق كبير منهم إلى أن عبقريتهم لا يمكن أن تبوح بمكنونها إلا إذا انطلقت من عقالها، وإلى أن سبل الإبداع لا تتهيأ لهم إلا بمقدار ما يحسون به من طلاقة، وما يشعرون به من تحرر من سائر القيود التي تحول بينهم وبين التعبير الصادق عما عانوه من التجارب، وما هاج بين جوانحهم من الانفعالات والعواطف.
وإذا كان ابن زيدون لم يستطع أن يكبح جماح هذه الطبيعة الموغلة في أعماقه، وإذا كان قد عجز عن إخضاع هواه أمام مسئولياته، وأمام مقتضيات منصبه وجاهه، فإنه لم يستطع أن يواري معالم هذه الطبيعة ولا آثارها في شعره..
فقد وقع أسيراً في حبالة الهوى، وفي شراك الحب الذي كان يبدو حباً عاتياً عارمـاً.. وغرتـه ولادة بنت المستكفي بالله بجمالها، وبظرفها ودلها، وحسبها، وبأدبها وشعرها أيضاً، فقال فيها وقالت فيه أعذب ما يشتهي من الغزل في عهد الرضا وزمان الوصال، وأفحش ما يقال في أيام السخط والقطيعة والقِلَى.
استمع إليه في ذكرياته السعيدة، وصبواته التي لا تزايله، يقول فيها:
أذكرتِني سالف العيش الذي طابا
يا ليت غائب ذاك العهـد قد آبا
إذ نحن في روضة للوصل نَعَّمهَا
من السّرور غمـامٌ فوقها صابا
إني لأعجب من شوق يطاولني
فكلّما قيل فيـه "قد مضـى" ثابا
قلبٌ يطيل معاصاتي لطاعتكـمْ
فإن أكلّفْه عنكـمْ سلـوة يابَى
ما توبتـي بنَصُوح من محبّتكـمْ
لا عذّب الله إلا عاشقا تابا
ثم نقرأ كثيراً من الشعر الباكي الحزين في أيام القطيعة والهجر، يدل على حبه العميق، وهيامه المبرح، ومحاولته التجلد والصبر معللا نفسه بالأمل في الوصال، واستعادة ما سلف من العهود الباسمة المشرقة، حتى إذا غلبه اليأس، ساءت به الظنون، وزعم أنها استبدلت بهواه هوى غيره من الذين فتنوا بسحرها، وذهب إلى تشبيهها بقوم موسى الذين قالوا له "لن نصبر على طعام واحد". ولذلك يثأر لنفسه، ويستبدل بوصلها وصل غيرها من بنات حواء. ويعلن -غير صادق- أن الجديد خير من القديم، وأنه يمنح هذا الجديد من نعوت الفتنة ما كان يقدمه قرباناً لحبه القديم، في مثل قوله:
مَنْ مُبْلِغٌ عنّي البدرَ الذي كَمُلا
في مطلع الحسن والغصْن الذي اعتدلا
أن الزمان الذي أهـدىَ مودّتـهُ
إليّ مرتهـنٌ شكـري بما فعَلا
أما الحبيب الذي أبدىَ الجفاء لنا
فما رأينـا قـلاه حادثـاً جللا
ولمْ نزدْ أنْ ظَفِرْنـا ملْءَ أعيننا
بالمشتـرى فتجنَّبنـا لـه زُحَلا
ولا مجال لتصديق ابن زيدون فيما زعم من تعزية أن تسليه بهذا الحب الجديد، فإن الحبّ لا يعترف بمثل هذا الاستبدال، إذ أنه أبعد شيء عن طبيعة المحببين الصادقين الذين يزيدهم الهجر لوعة وأسى !
* * *
كان ذلك - في رأينا - أهم أسباب المباعدة أو النفور بين أبي الحزم بن جهور وابن زيدون وزيره الأثير، مهما يكن من إخلاص ابن زيدون، وأثره في إقامة دولته، وتفانيه في خدمتها.
فهنا أمير ذو عقل ودين وعفة وورع، وهناك وزير ذو خفة واستهتار، وتعلق بأسباب الهوى والشباب.
وتلك صورة من صور التباين والاختلاف بين الشخصيتين توجب التنافر بينهما، والقضاء على روح الألفة، وانقطاع أواصر المحبة التي أبرمتها الأحداث بينهما، وأكدتها خدمات ابن زيدون للدولة، وسفاراته المخلصة بين أميرها ومن جاوره من الأمراء والملوك.
يضاف إلى ذلك الاختلاف الواضح بين الشخصيتين والتباين الشديد بين المزاجين أن حساد ابن زيدون على منصبه ومنزلته من أميره انتهزوا هذه الفرصة السانحة للكيد له، والوقيعة بينه وبين مولاه، وإيهام أبي الحزم بأن صلة ابن زيدون بولادة ليست تلك الصلة العاطفية التي كانت تدفعه إلى زيارتها، والتردد إلى مجالسها، والتي صور أثرها العميق في شعره، ولكنها صلة كيد وتآمر على الدولة الجهورية، ومحاولة لاستعادة حكم بني أمية الذين كانت ولادة تنتسب إليهم..
وذلك سبب سياسي يوجب على الحاكم اليقظة لمن حوله من الحاشية والأتباع والأعوان، ولو كانوا من الوزراء أو الخلصاء الذين لا يشك في نصيحتهم أو في ولائهم لشخصه ولدولته.
ولم يكن استهتار ابن زيدون بالشراب، وولوعه بالخمر أقل من هيامه بولادة وشغفه بها، فإن شعره يفيض بوصفها، والإجادة في نعتها مما يدل على معاقرتها، واجتلاب أسباب الأنس والمسرة باحتسائها في كثير من أمثال قوله في وصف مجالس الخمر، وأنسه بها:
أدِرْها فقـد حَسُـن المجلسُ
وقـد آنَ أن تُتـرع الأكؤُسُ
ولا بأسَ إنْ كان ولّي الربيعُ
إذا لم تجدْ فقدَه الأنفسُ
ولا شك أن ولوع ابن زيدون بالخمر، وهيامه بإلف النساء، كانا من جملة الأسباب التي أدت إلى القطيعة والمباعدة بين الرجلين اللذين يختلفان كل الاختلاف من حيث المنزع والسلوك ..
ثم كان الوشاة والحاسدون وما أكثرهم في بلاط الحاكمين، وفي المتطلعين إلى صحبة الحكام وهم في أغلب الأحيان لا يرون سبيلاً إلى بلوغ مآربهم، وتحقيق آمالهم إلا طريق الزلفى، والسعاية بالشَرّ بين المتحابين، واستخدام الدسّ والوقيعة بين أهل الثقة، والوصول إلى أهدافهم على حطام الناس وأشلائهم.
وكان لابد لتلك العوامل مجتمعة أن تجد طريقها إلى قلب ابن حزم وإلى عقله، بعد أن تراءت أشباحها أمام ناظريه، وتوارت أصداؤها على أذنيه، فأدت إلى فقدان الثقة بابن زيدون، وعدم الرفق في اتهامه وفي مقاضاته، ثم في الحكم عليه، وزجه في ظلمات السجون.
* * *
ومهما يكن حظ رأينا من الصواب فقد قضى ابن زيدون في سجنه الرهيب سبعة عشر شهراً فيما يقول رواة الأخبار، أو أكثر من خمسمائة يوم كما سجـل ذلك في شعـره ونثره حيث يقول في إحدى قصائده، واصفاً ما يجد من الضنى والألم والتعذيب في ذلك السجن الرهيب:
ما عسى أن يألف السّابق المر
بط في العتق منـه والتطهيمِ
وبقاء الحسام في الجفن يثني
منه بعد المضـاء والتصميمِ
أفصبرٌ مئينَ خمساً من الأيـ
ـام؟ ناهيك من عذاب ألـيمِ
ومعنىً مـن الضنى بهنـات
نكأتْ بالكلـوم قـرح الكلومِ
سقم لا أعاد فيه، العا
ئد أن يفي ببرْء السقيمِ
نار بغي سَرى إلى الجنة الأمـْ
ـن لظاها، فأصبحت كالصريمِ
فهو يعدها فيما ترى خمسمائة من الأيام قضاها في سجن قرطبة يقاسي ضروب الهوان والإذلال، ويحرم من العواد الذين قد يجد في زيارتهم شيئاً يخفف عنه هذا العذاب.
على أن حسابه هذه المدة بالأيام، ولو شاء لعدها بالساعاتـدليل على إحساسه ببطئها وتثاقلها، فكل يوم بألم جديد، وشقاء ليس بعده من مزيد.
ولقد شكا ابن زيدون وحشة السجن، وسوء ما يلقي من قسوة السجانين في كثير من قصائده الباكية التي بعث بها من السجن إلى أبي الحزم يستعطفه ويتضرع إليه، لعله يرق لحاله، ويفك أغلاله.
وهو في بعض تلك القصائد يذكره بما أسلف في خدمته، وما نظم من شعره، في تمجيده، ويمني نفسه بأن يكون شيء من ذلك شفيعاً له. استمع إليه في هذه الأنات الشاجية:
ألمْ يأنِ أن يبكي الغمام على مثلي
ويطلب ثاري البرق منصلتَ النصْلِ
وهلا أقامت أنجـم الليل مأتماً
لتندبَ في الآفاق ما ضاع من ذُبْلي
ولو أنصفتني، وهي أشكال همتي
لألقت بأيدي الـذلّ لّما رأت ذُلَّي
ولا افترقتْ سبع الثريّا وغاضها
بمطلعها ما فرّق الدهر من شملي
لعَمْرُ الليالي إن يكـن طال نزعُها
لقد قرطستْ بالنَّبل في موضع النُّبلِ
وفي مناجاته لأمه، وتصوره لحالها، ودعوته إياها إلى التسلي والتصبر يقول في هذه القصيدة:
أمقتولة الأجفان مالك والهاً
ألم تُـرِكِ الأيام نجماً هوى قبلي؟
أقِلّى بكاءً، لستِ أوّل حرّةٍ
طوتْ بالأسىَ كشحاً على مضض الثُّكلِ
وفي أمّ موسى عِبرة إذ رمتْ بهِ
إلى اليمَّ في التابوت فاعتبري واسْلِي
وللّهِ فينا علـمُ غيب، وحسْبُنـا
به عند جور الدهر من حكَمٍ عدْلِ
ثم ينقل شكاته وعتابه إلى أبي الحزم، فيقول مستثيراً عاطفته وعدالته:
أبا الحزم إني في عتابك مائلٌ
على جانب تأوى إليه العُلا سهلِ
حمائم شكـوى صبّحتك هوادلاً
تناديك من أفنـان آدابـي الهُدْلِ
جوادٌ إذ استنَّ الجيادُ إلى مـدىً
تمطّر فاسْتولى على أمد الخَصْلِ (2)
ثوى صافناً في مربط الهُونِ يشتكي
بتَصْها له ما نالهُ من أذى الشّكْلِ (3)
أفي العدل أن وافتك تترى رسائلي
فلم تتّركْ وضعاً لها في يدي عدلِ
أعدك للجُلى، وآمل أن أُرى
بنعماك موسوماً، وما أنا بالغُفْلِ
وقد رأينا ابن زيدون يتساءل في "الرسالة الجدِّية" التي بعث بها من سجنه إلى أبي الحزم بن جهور عن تلك الجريمة التي اقترفها، واستحق بها ذلك العذاب الوبيل، والسجن الطويل، والتي لم تقس فيها العقوبة بمقياس السيئة أو الذنب.
ويقول فيها إنه لو كان قد ارتكب أكبر الكبائر، واقترف أعظم الجرائم، لما استحق هذا العذاب الأليم، فكيف ولا جريمة إلا سعاية السعاة الذين قطعوا حبال المودة بين الرجلين، وذلك في قوله في تلك الرسالة:
".. حنانيك قد جاوز السيل الزُّبَى، ونالني ما حسْبي به وكفى !
"وما أُراني إلا لو أُمرت بالسجود لآدم فأبيْتُ واستكبرْت، وقال لي نوح "اركب معنا" فقلت: "سآوي إلى جبل يعصمني من الماء "، وأمرتُ ببناء الصرح لعلي أطلع إلى إله موسى، وعكفت على العجل، واعتديت في السبت وتعاطيت فعقرت… ورجمت الكعبة، وصلبت العائذ بها على الثنيّة، لكان فيما جرى على ما يحتمل أن يسمّى نكالا، ويدْعى ولو على المجاز عقاباً…
"فكيف، ولا ذنب إلا نميمة أهداها كاشح، ونبأ جاء به فاسق، وهم الهمّازون المّشاءون بنميم، والواشون الذين لا يلبثون أن يصدعوا العصا (4) ، والغواة الذين لا يتركون أديماً صحيحاً، والسعاة الذين ذكرهم الأحنف بن قيس، فقال: ما ظنك بقوم الصدق محمود إلا منهم ؟ !".
وهذه المعاني يرددها ابن زيدون بمرارة في تلك القصيدة الطويلة التي تبلغ أبياتها خمسين بيتاً في قوله:
ولو أنني واقعت عمـداً خطيئة
لما كان بدعاً من سجاياك أن تُمْلي
فلم استثر حرب "الفِجـار" ولم أطع
"مسيلمة" إذ قـال إنـي من الرسْلِ
ومثلي قد تهفـو به نشـوة الصبا
ومثلك من يعفو، وما لك من مثْلِ
وإني لتنهاني نُهـاي عـن الـتي
أشاد بها الواشي ويعقلني عقلي
أأنكث فيك المدح من بعـد قـوة
ولا أقتدي إلا بناقضة الغزلِ؟
ولم يقف ابن زيدون عند أمثال تلك القصائد الباكية الشاكية التي كتبها إلى ابن جهور، بل إنه كتب من أمثالها إلى بعض أصدقائه من ذوي الشأن، بثا لنار الجوى، وعذاب السجن، وأملاً في أن يعملوا ما وسعهم العمل لاستنقاذه من الهوة التي هوى فيها، والشفاعة عند أميره، حتى يغفر ذنبه، ويفك قيده، ويزيل عنه حسد الحاسدين، وشماتة الشامتين الذين ابتلي بهم.
وقد كانت هذه الشماتة تصل إليه أنباؤها وهو في سجنه فتؤرقه، وتقض عليه مضجعه.. وقد كان أولئك الشامتون من الذين لا خلاق لهم فأمعنوا في الكيد له، وهو يبدي التجلد، ويتكلف الصبر، ليريهم أنه لا يتضعضع لريب الدهر، وأن مع اليوم غداً، وأن لكل أجل كتاباً، وأن هذه المحنة سحابة صيف عن قليل تقشع، وأنه سيعود إلى حيث كان مرفوع الرأس، موفور الكرامة.
وكل هذه المعاني قد ضمنها ابن زيدون رسالته الجدية التي أشرنا إليها.
وأورد شيئاً منها في شعره، في مثل قوله:
ها إنها لوعة في الصدر فادحـة
نار الأسى، ومشيبي طائر الشررِ
لا يهنئ الشامتَ المرتاحَ خاطرُه
أنّى معنَّى الأماني ضائع الخطرِ
هل الرياح بنجم الأرض (5) عاصفةٌ؟
أم الكسوف لغير الشمس والقمرِ؟
إن طال في السّجن إيداعي فلا عجبٌ
قد يودع الجفنَ حدُّ الصارم الذكرِ
وإن يثبط أبا الحزم الرضـا قـدرٌ
عن كشف ضري فلا عتبٌ على القدر
ما للذنوب التي جانـي أكابرهـا
غيري يحملنـي أوزارهـا وزري
من لم أزل من تأتيـه على ثقـةٍ
ولم أبت من تجنيـه علـى حذرِ
وقوله في تلك الشماتة، وفي أمله في قرب الخلاص، في قصيدته الرائعة التي بعث بها من سجنه إلى صديقه أبي حفص بن برد الأصغر:
أنا حيران، وللأمر وضوحٌ والتباسُ
ما تـري في معشـر حالـوا عن العهـد وخاسـوا
ورأوْني سامريا يتَّقى منه المسَاسُ
أذْؤُبٌ هامت بلحمي فانتهاشٌ وانتهاسُ
كلّهـمْ يسـألُ عـن حالـي، وللذنـب اعتساسُ
إن قسا الدهـرُ فللمـاءِ مـن الصخـر انبجـاسُ
ولئن أمسيت محبوساً فللغيث احتباسُ
يلبـدُ الـوَردُ السَّبنتـي (6) ولـه بعدُ افتـراسُ
فتأمـلْ كيف يغشـي مقلـة المجـد النّعـاسُ
ويُفـتّ المسْـك فـي التُّرب فيوطَـا ويـداسُ
* * *
وإذا كان ابن زيدون قد كتب تلك الروائع المنظومة والمنثورة إلى ابن جهور يندب فيها حظه ويستعطفه بما يكيل له من ضروب الثناء، وبما ينمق له من عبارات الزلفي والضراعة، فإنه لم يجد معتباً لعبته، ولا سميعاً. لشكواه، ولم تنفعه شفاعة الشافعين.
حتى لقد يخيل إلينا أن أبا الحزم كان يستعذب هذا العذاب، أو أنه كان يلذ ذلك الأدب الرفيع الذي أملته قريحة شاعر عبقري، ودبجه قلم أديب أو فنان صناع، وكأنه يطيل في سجن ابن زيدون وفي تعذيبه، ليطيل من استمتاعه بتلك النفحات التي ألهبت مشاعره، وفجرت ينابيع شاعريته.
ويذكرنا هذا الموقف بقصة "الفلاح الفصيح" مع فرعون مصر في الزمن القديم، وإن كان فرعون قد أوصى وزيره سراً بأن يستضيفه، ويكرم وفادته، وسارع في تحقيق آماله كلها، من غير أن يعرف ذلك الفلاح أن سؤاله قد أجيب!.
ولعل ابن زيدون قد فطن إلى ما أخفاه ابن حزم في نفسه من استدامة هذا اللحن الذي يخلد به اسمه، ويبقي في التاريخ ذكره، ولا يعنيه أن يعاني ابن زيدون ما يعاني من نار الاعتقال، وألم العذاب، حتى قال وهو في سجنه مغاضباً:
بنـي جَهْور أحرقتُم بجفائكمْ
جنَاني، فما بالُ المدائح تعْبقُ؟
تظنونني كالمندل الرطب إنما
تطيب لكم أنفاسُه وهو يحرقُ
ولعل أبا الحزم لم يكن يتصور أن ابن زيدون قد يكفر في الفرار من سجنه الرهيب، أو كان لا يظن أنه يستطيع الفرار إذا أراد، فلج في تعذيبه، مع أن في سطور "الرسالة الجدية" التي كتبها إليه ما يدل على هذا العزم عند القدرة عليه.
ولو أن أبا الحزم كان قد أمعن النظر في تلك الرسالة لقرأ في سطورها قول ابن زيدون:
"ولعمرك ما جهلت أن صريح الرأي أن أتحول إذا بلغتني الشمس، ونبا بي المنزل، وأصفح عن المطامع التي تقطع أعناق الرجال، فلا أستوطئ العجز، ولا أطمئن إلى الغرور.. وإني مع المعرفة بأن الجلاء سباء، والنقلة مُثله (7) ، لعارف أن الأدب الوطن الذي لا يخشى فراقه، والخليط الذي لا يتوقع زياله، والنسب الذي لا يخفى، والجمال الذي لا يجفى.
"ثم ما قران السعد للكواكب أبهى أثراً، ولا أسنى خطراً من اقتران غنى النفس به، وانتظامها نسقاً معه، فإن الحائز لهما، الضارب بسهم فيهما.. أينما توجه ورد أعذب منهل، وحط في جناب قبول، وضوحك قبل إنزاله رحله، وأعطي حكم الصبي على أهله.
وقيل له أهلاً وسهلاً ومرحباً
فهذا مبيتٌ صالحٌ وصديقٌ
* * *
ولكن قلم ابن زيدون الصناع استطاع أن يخدع أبا الحزم عما يبيت من العزم، بإبداء حرصه على البقاء في قرطبة، مسقط رأسه، ومقر أميره الذي يطمع في عفوه، ولا يريد أن يستبدل به سواه. وذلك في قوله بعد ما تقدم:
"غير أن الوطن محبوب، والمنشأ مألوف. واللبيب يحن إلى وطنه، حنين النجيب إلى عطنه. والكريم لا يجفو أرضاً فيها قوابله، ولا ينسي بلداً فيه مراضعه.
هذا إلى مغالاتي بعقد جوارك، ومنافستي في الحظ من قربك، واعتقادي أن الطمع في غيرك طبع، والغناء عن سواك عناء (8) ".
وهكذا استطاع ابن زيدون أن يخدع أبا الحزم، ويعد عدته للفرار، حتى إذا سنحت له الفرصة اهتبلها ولم يضيعها.
ولعل أبا الوليد ابن أبي الحزم وولي عهده كان هو الذي يسر له سبيل الفرار، إلى حيث قيل لـه: "أهلاً وسهلاً ومرحباً، وضوحك قبل إنزال رحله، وأعطي حكم الصبي على أهله، كما كان قد قال !
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :5587  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 8 من 25
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.