شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الأديب الساخر الذي دفنوه حياً (1)
بديع الزمان الهمذاني
وسَّدوه الثرى، وهالوا عليه التراب.. من غير أن تعقد عليه مناحة، أو يلطم خد، أو يخمش وجه، أو ينشر شعر، أو يمزق ثوب، أو يشق جيب، أو يدعي ويل، أو يسوَّد باب.
وبكل ذلك أوصى بديع الزمان في آخر ما خطَّه قلمه، ليحمل من فعل شيئا من ذلك وزره، ويبرأ هو ممن بدل من وصيته، ويحمله إثم ما بدَّل !
ذلكم هو أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الذي كنوه "أبا الفضل" ولقبوه "بديع الزمان" !
* * *
ويحس الكاتب بكثير من الحيرة، وهو يحاول الكتابة عن هذا العلم الكبير من أعلام الأدب وأصحاب الأساليب في تاريخنا الأدبي الطويل.
ويكمن سر الحيرة في اختيار المحور الذي يرتكز عليه الكاتب في بحثه، وتعتمد عليه دراسته. أهو محور الشحصية – شخصية بديع الزمان - وهي إحدى الشخصيات العجيبة في تاريخ الأدب العربي، من ناحية خلائقه وسجاياه، ومن حيث سلوكه في الحياة، وطراز تعامله مع الناس على نحو غريب تجتمع فيه المتناقضات، وتكثر فيه المفارقات.. وتلك الصفات التي تكونت منها تلك الشخصية الفريدة الجديرة بالتناول والدراسة الفاحصة عن عواملها وآثارها ؟ .
أم هو محور الفن الأدبي الذي صال فيه بديع الزمان وجال، والقلم الذي تناول فأبدع، وبسحره أمتع، وإقذاعه أوجع؟ .
ومع ما في تاريخ البديع وسيرته مما يدعو إلى البحث، واستكناه تلك الشخصية وحقيقتها، وحاجة ذلك إلى تخصيص الكتابة وتخليصها مما عداها.. ومع ما في أدب البديع مما يدعو إلى العناية بالدرس المستفيض والنقد المنصف الذي يضعه موضعه من الأدب المأثور، ويضع صاحبه في الموضع الجدير به بين أدباء الزمان..
مع هذا وذاك لا يستطيع الكاتب أن يفصل بين الشخصية وآثارها، كما لا يستطيع الفصل بين الفن وصاحبه، إذ كان الأسلوب هو الرجل كما يقولون، وإذ كان ما أثر في فن البديع وما حفظ من أدبه يمثل صورة صادقة واضحة المعالم لشخصية صاحبه وأخلاقه، وما استقر في أعماق نفسـه من السجايا، وما وجه سلوكه في الحياة، وتحكم في علاقاته مع خاصة أهله، ومع من لقي وعاشر من سراة الناس وعلمائهم وأدبائهم وخاصتهم وعامتهم.
* * *
يقول التاريخ إن حياة البديع كانت في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري لم تسبقه بيوم، ولم تتجاوزه يوما، وإن كان المؤرخون لم يذكروا له تاريخ ولادة، ولكنهم حددوا تاريخ وفاته سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، فقالوا إنه حين بلغ اشده، وأربى على أربعين سنة، ناداه الله فلباه، وفارق دنياه سنة 398هـ.
وقد يستفاد من هذا أن ولادة البديع بهمذان كانت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة أو قبلها بقليل. ويرجح ولادته في تلك السنة ما ورد في بعض نسخ كتاب "تاريخ همذان" لأبي شجاع شيرويه بن شهردار مما نقله عن بعض أصحابه أن البديع ولد في جمادى الآخرة من تلك السنة، وإن كان قد ورد في بعض نسخ هذا الكتب أن ولادته كانت سنة 375هـ.
والفرق بين الروايتين كبير يصل إلى سبعة عشر عاما، ولا يوافق إجماعهم على وفاته سنة 398هـ بعد أن أربى على الأربعين! ولا قولهم إنه فارق همذان سنة 380 وهو مقتبل الشبيبة غض الحداثة، وهما وصفان لا يناسبان صبيا عمره خمس سنوات على القول بأن مولده كان في سنـة 375هـ.
كان بديع الزمان نضو أسفار، وجواب آفاق، يقطع الفلوات راكبا وراجلا، جاريا وراء الشهرة وذيع الصيت، وباحثا عن المال الذي كان منهوما بحبه، شغوفا بجمعه واكتنازه. . مرتادا ذوي النعمة واليسار، كالطير يسقط حيث يلتقط الحب، حتى قال الرواة إنه لم يبق من بلاد خراسان وسجستان وغزنة بلدة إلا دخلها، وجنى ثمرها، ولم يبق ملك ولا أمير ولا وزير إلا واستمطر بنوئه، وسرى في ضوئه، فحصلت له نعمة حسنة وثروة جميلة.
وانتهي به المطاف إلى مدينة "هراة"، فألقى بها عصا التسيار، وهي المدينة العظيمة الحافلة المشهورة من مدن خراسان التي يقول "ياقوت" في وصفها بمعجم البلدان إنه لم ير بخراسان مدينة أجل ولا أعظم ولا أفخر ولا أحسن، ولا أكثر أهلا منها، وفيها بساتين كثيرة، ومياه غزيرة، وخيرات كثيرة، محشوة بالعلماء، ومملوءة بأهل الفضل والثراء.
واتخذ البديع "هراة" دار قراره، وصاهر بها أحد وجوهها، وهو الفاضل الكريم الأصيل أبو علي الحسين بن محمد الخشنامي، وانتظمت أحواله بمصاهرته، واقتنى بمعونته ضياعا فاخرة !
وقد بقي بديع الزمان في مسقط رأسه "همذان" حتى سنة 380هـ، وتلقى فيها علوم اللغة وفنون الأدب على جماعة من العلماء، وعلى رأسهم إمام كبير من أئمة العربية هو الشيخ أبو الحسين أحمد بن فارس، وكان مقيما إذ ذاك بهمذان قبل أن يحمل منها إلى "الريّ" ليقرأ عليه أبو طالب بن فخر الدولة بن بويه، وكان الصاحب بن عباد يتتلمذ أيضا لابن فارس، وكان يباهي بهذه التلمذة، ويقول عنه دائماً "شيخنا أبو الحسين". . وقد أهدى ابن فارس إلى الصاحب كتابه المعروف في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها وعنونه باسمه "الصاحبي" تأكيدا لمحبته وتقديرا لنبوغ تلميذه.
وقد ذكر العلماء من صفات هذا الشيخ الجليل أنه كان آية من آيات العلم، كما كان آية من آيات الأدب وعلو النفس، وعرف عنه كذلك أنه كريما جوادا إلى درجة أنه ربما كان إذا سئل يهب ثيابه، وفرش بيته !
وإنما سقنا هذه الكلمات القصار عن ابن فارس، وليس الحديث عنه، لسببين: أولهما تلمذة بديع الزمان له، واغترافه من بحر علمه الواسع، ومعينه الفياض في علوم اللغة وميادين الأدب، التي خلف فيها آثارا خالدة منها كتابه "الصاحبي" الذي أشرنا إليه، وهو من أقدم ما عرفته العربية من الدراسات اللغوية المتبحرة العميقة، ومنها كتابه "المجمل في اللغة" ومنها معجمه الكبير "معجم مقاييس اللغة"، وكتابه "مقدمة في النحو" وكتابه "ذم الخطأ في الشعر"، وكتابه "اختلاف النحويين"، وكتابه "الإتباع والمزاوجة" ..
وقد أفاد بديع الزمان من علم هذا الإمام الكبير، وتهيأت له من مجالسته ومن دراسة كتبه الثروة الطائلة من الثقافة اللغوية والأدبية التي استطاع بها أن يكون علما من الأعلام في لغة العرب، وآية من آيات التمكن منها، والقدرة على التصرف فيها فيما شاء من الأغراض والمقاصد، وبدت آثارها واضحة في أسلوبه الكتابي الذي يفيض بآثار التمكن، وامتلاك ناصية اللغة، مما لم يتيسر بهذه الصورة لأكثر أقرانه من الذين زاولوا فن الكتابة، وعدّوا من "أصحاب الأساليب" في تاريخنا الأدبي الحافل الطويل.
والسبب الآخر: أن بديع الزمان إذا كان قد أفاد من علم أستاذه ومعرفته على ذلك النحو الذي أحله هذه المنزلة الرفيعة في فن الكتابة، فقد يكون من العجب العجاب أنه لم يفد من أخلاق شيخه، ولا من نعوته الفاضلة شيئا.. بل لقد كان الرجلان من حيث الناحية الخلقية والفضائل النفسية على طرفي نقيض ! وكلُّ ميسّر لما خلق له، ولما طبع عليه!
فإذا كان ابن فارس قد عرف كما ذكرنا بالترفُّع والإباء. فلا يذهب من همذان إلى الري إلا محمولاً ليعلَّم ابن فخر الدولة، فإن بديع الزمان قد جبل على قطع الفيافي والقفار في سبيـل الشهرة، أو في طلب المال مبتذلا كرامته إذا كان الابتذال هو السبيل الذي يرى أنه يوصله إلى ما يشتهي من أعراض الدنيا.
وإذا كان الشيخ قد اشتهر بالتواضع، وهو فضيلة العلماء وحليتهم، فقد عرف تلميذه إذا أعانته المواقف بالتعالي الذي يصل في كثير من الأحيان إلى ما يمكن أن يوصف بالتبجح أو الوقاحة !
وإذا كان الأستاذ قد عرف بالأدب والوفاء، فقد كان بديع الزمان كثير الإساءة إلى الفضلاء، والتنكر لمن مدوا إليه يد العون والإحسان.
وإذا كان قد عرف عن الشيخ احتقار الدنيا، فقد عرف صاحبنا بالحرص عليها والجري وراء أسلابها وغنائمها، يركب في سبيلها الصعب، ويمتهن كرامة الأدب والأدباء.
وإذا كان الشيخ جوادا كريما يهب إذا سئل ثيابه وفرش بيته، فقد كان تلميذه شحيحا لئيما، يبخل على نفسه، ويضنُّ على خاصة أهله بما يقيم أصلابهم بعد أن أصبح من ذوي اليسار، ومن أصحاب الأموال التي ينوء بحملها الرجال، والضياع التي يعمل فيها مئات من العمال.
فما أبعد الفرق بين الأستاذ والتلميذ ..
ولا يحسبن القارئ أننا بذلك نحاول أن نغض من شأن هذا الأديب الكبير، أو نتجنى عليه، أو نحاول أن نبخسه حقه، أو ننتقص من فضله، فما كان ذلك غاية لنا في أية كلمة من كلماتنا، ولا في أي بحث من بحوثنا، ولكننا باحثون عن الحقيقة، وهي أعز علينا من كل إنسان، وهي أولى ما يجب من الرعاية والاعتبار، وغايتنا الكبرى أن نصل بين شخصية الأديب وفنه، إذ لا مناص من البحث عن العوامل الفعالة في أدبه، وعن حقيقة المشاعر التي وجهت هذا الأدب، وسنجد فيما كتب بديع الزمان بنفسه عن نفسه ما يؤكد كل وصف مما وصفناه به.
* * *
وقبل أن نتحدث عن أدب بديع الزمان لا بد من الإشارة إلى شيء مما حدثنا به المؤرخون عن مواهب الرجل، وهي أحاديث تتفق في جملتها على ما تميز به من الفطنة والذكاء، وعلى القدرة العجيبة على حفظ ما يقرأ وما يسمع وإن طال، وعلى إعادة ما سمع أو قرأ في سرعة عجيبة لا ينقص مما قرأ أو مما سمع حرفا، وكذلك ما عرف عنه من حضور الذهن، وصفاء القريحة، والقدرة على ارتجال المنظوم والمنثور من غير عناء أو مكابدة. حتى قال أبو منصور الثعالبي في صفته "لم نر نظيره في الذكاء وسرعة الخاطر، وشرف الطبع، وصفاء الذهن، وقوة النفس، ولم ندرك نظيره في طرف النثر وملحه، وغرر الشعر ونكته. . .
قال: وكان صاحب عجائب وبدائع، فمنها أنه كان ينشد الشعر لم يسمعه قط وهو أكثر من خمسين بيتا إلا مرة واحدة، فيحفظها كلها، ويؤديها من أولها إلى آخرها لا يخرم حرفا، وينظر في الأربع والخمس الأوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة، ثم يهذها عن ظهر قلبه هدّا، ويسردها سردا.. وكان يقترح عليه عمل قصيدة، وإنشاء رسالة في معنى بديع، وباب غريب، فيفرغ منها في الوقت والساعة. وكان ربما كتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخره ثم هلم جرا إلى أوله، ويخرجه كأحسن شئ وأملحه، ويوشح القصيدة من قوله بالرسالة الشريفة من إنشائه، فيقرأ من النظم والنثر، ويروي من النثر والنظم، ويعطي القوافي الكثيرة، فيصل بها الأبيات الرشيقة، ويقترح عليه كل عويص وعسير من النظم والنثر، فيرتجله أسرع من الطرف على ريق لم يبلعه، ونفس لا يقطعه، وكلامه كله عفو الساعة، وفيض اليد، ومسارقة القلم، ومسابقة اليد للفم.
وكان يترجم ما يقترح عليه من الأبيات الفارسية المشتملة على المعاني الغريبة بالأبيات العربية، فيجمع فيها بين الإبداع والإسراع، إلى عجائب كثيرة لا تحصى، ولطائف تطول أن تستقصى.
وحسبنا هذه الأوصاف التي تدل على تلك المواهب العجيبة والقدرة الغريبة على صناعة الأدب والتمكن من القلم، ولا نظن الثعالبي قد بالغ في وصف من هذه الأوصاف التي تؤكدها كتابات بديع الزمان ومناظراته، وشعره العذب الرصين.
ولعل هذه الصفات البديعة كانت هي السر في اللقب الذي اشتهر به، وهو "بديع الزمان" ولم نسمع عن أحد من الموهوبين أنه بلغ ذلك المبلغ الذي بلغه "بديع الزمان". وإذا كان الثعالبي قد وصف الهمذاني بهذه الأوصاف، فإنه لم يرو شيئا منها سماعا، وإنما كان ذلك عن معرفة بالرجل، فقد لقيه ورآه عن كثب، وكتب عنه، فهي كتابه العارف الخبير.
ولكنا نقول إن سلوك الرجل وأخلاقه لم يكونا كفاء لمواهبه العجيبة وقدراته النادرة. ولم يكن للزمان أو المكان دخل في تلك الأخلاق التي توجه سلوك الناس، وكثيرا ما يكون في الزمان الواحد والمكان الواحد، وتحت تأثير الظروف المتحدة أو العوامل المتشابهة الفاضل الكريم وإلى جانبه الوغد اللئيم. وتلك طباع البشر، وفيها يتفاضل الناس، وبضدها تتميز الأشياء، والبقعة من الأرض تؤتي ثمراتها مما هو حلو المذاق، وما هو مرُّ زعاق !
وقد ارتحل البديع من همذان إلى الريّ، ليرد مورد الوزير الخطير كافي الكُفاة الصاحب بن عباد الذي كانت حضرته مجتمعا يشخص إليه ذوو المواهب من العلماء والأدباء يغمرهم بحفاوته، ويغدق عليهم من صلاته، ويستحثهم على الشخوص عليه.. وقد عكف البديع على مكتبة الصاحب، فتزود مما حوت من أصول العلم والأدب.. وقد أفاد البديع من صحبة الصاحب مالاً، كما أفاد من مكتبته علما وأدبا. . حتى كانت بين الرجلين جفوة رحل بعدها إلى جرجان، فأقام بها مدة على مداخلة الإسماعيلية، والتعيش في أكنافهم، واختص بشيخهم أبي سعيد محمد ابن منصور، ونفقت بضاعته لديه، وتوفر حظه من عادته المعروفة في إسداء الأفضال على الأفاضل، ولكن البديع كان لا يستقـر على حال، فعزم على الشخوص إلى نيسابور، وأعانه أبو سعيد على رحلته، وزوده بحاجته، فوردها سنة 392هـ .
* * *
وفي نيسابور كانت ثمرات أسفاره ورحلاته قد نضجت، وبرزت آثار مواهبه ومعرفته بالعلم والأدب، ودراسته لطبيعة الناس وأحوال الحياة وتناقضات المجتمعات التي عاش فيها، والرجال الذين يممهم، فأملي فيها كما يقولون أربعمائة مقامة، وقد أخذوا هذا العدد واعتمدوه من كلام البديع عن نفسه في بعض رسائله حيث يقول إنه "أملى من مقامات الكدية أربعمائة لا مناسبة بين المقامتين لا لفظا ولا معنى".. وإن كان لم يصل إلينا من هذه المقامات سوى اثنتين وخمسين مقامة !
وفي نيسابور أيضا التقى البديع بشيخ الكتاب في عصره، وهو الأستاذ أبو بكر الخوارزمي الذي كان يشار إليه بأطراف البنان، وكان لا يجرؤ على مساجلته إنسان. ولكن البديع استطاع أن يحتال عليه بكتابات ضارعة، ورسائل متواترة حتى وصل إلى حضرته، واستطاع أن يجر الشيخ إلى مساجلته ومناظرته في مجالس شهدها علية القوم، وفي تلك المجالس صال البديع وجال، وتطاول على الشيخ الذي كان قد أسنَّ، وكان بديع الزمان في ميعة الصبا وعنفوان الشباب، طار على آثارها ذكره، وذاع صيته، وانهالت عليه الأعطيات والهبات، وخلا له الجو بموت الخوارزمي، فتنقل في عرض البلاد وطولها، حتى لم يبق - كما يقول الثعالبي - من بلاد خراسان وسجستان وغزنة بلدة إلا دخلها، وجني ثمارها، ولا ملك ولا أمير ولا وزير إلا واستمطر بنوئه، وسرى في ضوئه، فحصلت له نعمة حسنة، وثروة جميلة، حتى ألقى عصا التسيار كما قدمنا في "هراة" ..
ويقال إنه جُنّ في آخر حياته، وظل مجنونا حتى مات، كما قيل عنه أصيب بسكتة ظنه القوم بها قد مات فدفنوه، وأنه نبش قبره بعد حين فألفي في ركن من أركانه في هيئة الجالس، وقد قبض على لحيته نادما على ما أسلف في حياته، وعلى ما اعتدى عليه من كرامات الناس !.
* * *
وكذا طوى الزمان صفحة حياة بديع الزمان بخيرها وشرها، وحلوها ومرها، وبقيت صفحة أدبه ناصعة مشرقة في تاريخ الأدب العربي بما خلف من رائق الشعر، وفائق النثر الذي يتميز بخصائص فنية عرف بها، وعدَّ في طليعة "أصحاب الأساليب" في أدبنا العربي. ويتمثل ذلك النثر في رسائله الكثيرة، ومقاماته المشهورة، وقد دبجت هذه الرسائل والمقامات بريشة فنان صناع.
ويعنينا قبل كل شيء أن نؤكد هذه الحقيقة، وهي أن تراث بديع الزمان - المنظوم منه والمنثور على السواء - يمثل تمام التمثيل صورة واضحة المعالم لشخصيته، ومـرآة انعكست على صفحتهـا دخيلة نفسه، وطبيعة مزاجه، وآثار ثقافته. ثم هو بعد ذلك صورة واضحة للمثل التي رسمها لحياته ولسيرته في الحياة التي بلغ بها ما كان يريد من الجاه وذيوع الصيت في عالم الكتابة، وما يشتهي من النعمة في عالم المال والثراء..
وقد وفى البديع لهذه المثل، ولم يحد عن طريقها قيد أنملة، حتى إذا تنكب به طريق، فما أسرعه إلى التماس غيره، وسلوك سواه، مما يراه أيسر مسلكا، وأقرب إلى تحقيق بغيته في الحياة.
ولم تكن المصانعة والمداهنة، ولا الكذب ولا النفاق، ولم يكن التقلب بين المذاهب، والاستكانة أحيانا والتعالى المصطنع لم يكن شيء من تلك الأخلاق، بل لم تكن تلك الصفات كلها رذائل من وجهة نظر بديع الزمان، لأنه كان يؤمن بالمبدأ المعروف "الغاية تبرر الوسيلة" وهو المبدأ الذي طبقه في حياته، ودارت حوله أكثر معاني أدبه. وفي ثلاثة من الأبيات من إنشائه ختم بها "المقامة القريضية" يصرح بهذا المبدأ الذي جعله فلسفته، وأساس سلوكه في الحياة، وهذه الأبيات هي قوله:
ويحك! هـذا الزمان زورُ
فـلا يغرَّنك الغرورُ
زوَّقْ، ومخرقْ، وكل، وأطرق
واسرق، وطَلْبق لمن تزورُ
لا تلتزمْ حالةً، ولكنْ
دُرْ بالليالـي كمـا تـدورُ
ويصور نظرته إلى الناس، وتمويهه عليهم، في ثلاثة أبيات أخر في "المقامة الأزاذية" يقول فيها:
أقضِّي العمر تشبيها
على الناس وتمويها
أرى الأيـام لا تُبقـي
على حال فأحكيها
فيوم شرُّها فيَّ
ويوم شِرَّتي فيها
وهو لا يثبت على رأي، ولا يستقر على حال، وإنما يلبس لكل حالة لبوسها، كما يقول:
إنّ للــه عبـادا
أخذوا العمر خليطا
فهم يمسون أعرا
با ويضحون نبيطا
ثم إن هذه الأخلاق لا تزايله، فلا يشاء أن يدع المسكنة، ولا أن يكف عن السؤال مصانعة ذوي اليسار مصطنعا مذاهبهم، ومتكلفا بخلهم، حتى بعد أن حسنت أحواله، وأصبح في نعمة سابغة، وثروة طائلة، فيقول:
لا يغرَّنَّك الذي
أنا فيه من الطلبْ
أنا في ثروة تُشـقُّ
لها بـردةُ الطربْ
أنا لو شئتُ لاتخذ
تُ سقوفا من الذهبْ
أنا طورا من النبيط
وطورا من العربْ !
هذه هي أخلاق البديع صريحة، وهذه مثله سافرة، وتلك فلسفته التي تصور سخريته بالحياة، وسخريته بالناس في زمن تكدست فيه الثروات في أيدي عدد قليل من الطبقات من الخلفاء ورجال الدولة من الوزراء والولاة وحاشيتهم، وأمثالهم من كبار التجار وأرباب الضياع، وبقي السواد الأعظم من أبناء الشعب يعاني آلام المسبغة وضروب الحرمان مما يتمتع به هؤلاء من الحياة الناعمة المترفة، وكان الأدباء من الذين يحرصون على حياتهم ينتجعون أولئك المترفين، ويعيشون على الفتات الذي يتناثر من موائدهم.
وكان صاحبنا يعرف من أين تؤكل الكتف، فعرف كيف يسخر بأدبه ومواهبه من أولئك المترفين، وعرف الطريق الذي يصل منه إلى قلوبهم، وكيف ينفذ بفنه إلى خزائنهم، ليستل بالحيلة والدهاء ما كدسوه فيها من الكنوز والثروات، وذلك بأن يقصد مجالسهم، ويُيَمَّم مجتمعاتهم، ثم يعرض عليهم من آيات علمه، ويسحرهم بغرور أدبه، حتى يحملهم على الاعتراف بنبوغه وعبقريته، وحينئذ يتشوف المجتمعون إلى التعرف على هذه الشخصية المجهولة الفذة التي سحرت ألبابهم، بما نشرت أمامهم من آيات العلم ودلائل المعرفة، وما عرضت عليهم من فنون الأدب، فلا يعرفهم بشخصه، ولكن يعرض عليهم فاقته وخصاصته، ويشكو إليهم سوء الحال وكثرة العيال، حتى ترَّق له قلوبهم، فيتسابقون إلى إعطائه، ويتنافسون في الإغداق عليه، ثم يولي هاربا حتى لا يفتضح أمره، ولا تعرف شخصيته، حتى تتاح له الفرص المماثلة..
* * *
تلك صورة موجزة لسيرة بديع الزمان وسلوكه ومآربه في الحياة وهي الصورة نفسها التي خلعها على "أبي الفتح الاسكندري" الذي جعله بطلا لمقاماته، يرتاد مجالس الخاصة من السراة والأعيان ورجال المال، ليروي لهم من علمه، وينشدهم ما شاء من شعره ونثره الذي يرتجله ارتجالا، فيسحر النفوس، ويأخذهم بمجامع القلوب، ويستخدم هذا وذاك في الكدية والاستجداء...
وقد استطاع بديع الزمان أن يجعل من هذه "المقامات" فنا أدبيا جديدا من فنون الأدب العربي عرف به، ونسب إليه. ثم قلده فيه بعض الكتاب من بعده، فلم يبلغوا مبلغة من الإجادة والإتقان، ومن أشهر هؤلاء المقلدين أبو القاسم الحريري الذي أصابت "مقاماته" شهرة كبيرة وذيوعا في عالم الأدب.
ويقول بعض مؤرخي الأدب إن أبا بكر بن دريد قد سبق بديع الزمان إلى كتابة "المقامات"، وإنه مبتدع هذا الفن في الأدب العربي، وأن بديع الزمان لم يكن إماما فيه، ولكنه نحا نحو ابن دريد في كتابتها، فلما أعوزهم الشاهد على ما زعموا قالوا إن مقامات ابن دريد قد ضيعها الزمان، وإن فقدها كان إحدى حسنات الزمان على بديع الزمان التي حسن بها حظه، وبزغ نجمه في عالم الأدب.
ومعنى "المقامة" في الأصل اللغوي موضع القيام، ثم استعملت بعد ذلك فـي المجلس وجماعـة الجالسين فيه، ثم فيما يقال فيه من الكلام. قال الشريشي شارح المقامات الحريرية "والمقامات المجالس، واحدها مقامة. والمقامة الحديث يجتمع له، ويجلس لاستماعه، ويسمى مقامة ومجلسا، لأن المستمعين للمحدِّث ما بين قائم وجالس، ولأن المحدِّث يقوم ببعضه تارة ويجلس ببعضه أخرى".
وإذا كنا نريد أن نحدد "المقامة" بين أجناس الأدب المعروفة فهي أقربها شبها بالقصة القصيرة التي تعتمد على التركيز، وتدور أحداثها حول شخصية البطل، وهي كما قدمنا شخصية "أبي الفتح الإسكندري" وهو - كما صورناه فيما سبق - أديب عالم واسع المعرفة يقرض الشعر ويصوغ النثر، ويخلب الجالس بروعة منطقه، وسحر بيانه، ويستدر عاطفتهم بهلهلة ثيابه، وسوء حاله، أو هو شخصية البديع نفسه.
وتندر في المقامات الشخصيات الثانوية، وفيها الحدث الذي تدور حوله المقامة. ولا يخرج عما سبق بيانه، وفيها ما يشبه العقدة، وهي ذروة الحدث التي تتشوف النفوس عندها إلى الحل، ثم فيها ذلك الحل، وهو معرفة شخصية البطل المجهول التي أراد أن يخفيها طوال الحديث..
وفي كل مقامة راوية يروي أحداث الأقصوصة، وهذا الراوية هو وحده "الشخصية الخيالية" التي اخترعتها مخيلة البديع، وما عداه لا يعدو الواقعية في شيء.. وهذا الراوية في مقامات بديع الزمان كلها هو "عيسى ابن هشام"، وهو كما قلنا شخصية اخترعها خيال بديع الزمان.
ويبدو البديع في تلك المقامات في طليعة المهرة من الوصّافين، وذوي البراعة من المصورين، والصور القلمية التي يرسمها بالكلمات الأنيقة، والتعابير الرشيقة للأشخاص أو للأحداث لا تكاد تجد لها نظيرا في الدقة وحسن الإخراج. وقد أعانه على هذا الإبداع الإمساك بعنان اللغة وامتلاكه ناصيتها، وذلك الثراء الملحوظ من مفرداتها، والقدرة الفائقة على تطويعها لمقتضيات الأحوال، ومجاراتها لطبيعة الموضوعات التي يفتن فيها. كما أعانه على ذلك الإبداع في الوصف ما عرف به البديع من دقة الملاحظة، ونفاذ الخاطر، والطبع المواتي على التصوير والاستقصاء، مما لا تكاد تجد له نظيرا عند المبدعين من حملة الأقلام.
* * *
وإذا كان البديع قد عرف بالصنعة التي كانت سمة العصر الذي عاش فيه وطبيعة أساليب القرن الرابع، فإن الصنعة في كتابة البديع لا تعني شيئا غير الأناقة المطبوعة التي يتميز بها الفن الأدبي من سائر ألوان التعبير اللغوي.. وإذا كان كذلك يلتزم السجع، وتقصير الجمل في جلّ ما كتب، فإنك لا تجد في تلك الجمل القصار، ولا في ذلك السجع الذي التزمه في رسائله وفي مقاماته لفظة إلا وهي مستقرة في موضعها الذي يقتضيها، وفي المعنى الذي يتطلبها.. ولا تلحظ في ذلك البيان المصنـوع أو الكلام المسجوع أثرا من آثار التعمل، ولا سمة من سمات التكلف، التي قد تلحظ شيئا من آثارهـا في كتابات غيره من الأدباء المطبوعين.
وإليك نموذجا من أقصر مقامات البديع ترى فيه معالم هذا الأسلوب وخصائصه الفنية. وتلك مقامته العشرون التي سمّاها "المقامة الفردية" وفيها يقول:
"حدثنا عيسى بن هشام قال: بينا أنا بمدينة السلام، قافلا من البلد الحرام، أميس ميس الرجلة، على شاطئ الدجلة، أتأمل تلك الطرائف، وأتقصى تلك الزخارف، وانتهيت إلى حلقة رجال مزدحمين يلوي الطرب أعناقهم، ويشق أشداقهم، فساقني الحرص إلى ما ساقهم، حتى وقفت بمسمع صوت الرجل دون مرأى وجهه لشدة الهجمة، وفرط الزحمة فإذا هو يرقِّص قرده، ويُضحك من عنده فرقصت رقص المحرج، وسرت سير الأعرج، فوق رقاب الناس يلفظني عاتق هذا لشدة ذاك، حتى افترشت لحية رجلين، وقعدت بعد الأين، وقد أشرقني الخجل بريقه، وأرهقني المكان لضيقه، ولما فرغ القَّراد من شغله، وانتفض المجلس عن أهله، قمت وقد كساني الدهش حلته، لأرى صورته، فإذا هو والله أبو الفتح الإسكندري، فقلت: ما هذه الدناءة ويحك ! فأنشأ يقول:
بالحمق أدركتُ المنى
ورفلت في حلل الجمال
وأسلوب البديع في كتابة المقامات كما رأيناه هنا هو أسلوبه في سائر ما كتب من رسائل، وفيه تلك الخصائص الفنية التي ذكرناها.
وتمتاز معانيه بالإغراق والغلو الذي يجاوز حد الاعتدال، وذلك لتقرير معانيه وتأكيدها، وتلمح آثار ذلك الغلو فيما كتبه مادحا أو مستعطفا أو هاجيا أو واصفا. كما نجد أخلاقه بادية في كتابته فهو ذليل بينَّ الضراعة، إذا كان المقام يقتضي ذلك، أو إذا كان يريد انتهاز سانحة أو اهتبال فرصة، وسنرى أثر ذلك في أولى رسائله إلى الأستاذ أبي بكر الخوارزمي الذي يلتمس فيه زيارته وورود مجلسه، وفيها يقول: "أنا لقرب الأستاذ كما طرب النشوان مالت به الخمر، ومن الارتياح للقائه كما انتفض العصفور بلَّلَه القطر، ومن الامتزاج بولائه كما التقت الصهباء والبارد العذب، ومن الابتهاج بمزاره كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب.."
كما نجده مستعليا شديد المغالاة إذا أحس بالغلبة، كما يبدو ذلك في رسائله التي نال فيها من ذلك الأستاذ نيلا أليما بعد أن قضى لبانته وأدرك مأربه في الغلبة وذيوع الصيت.
وكان بديع الزمان ضنينا شحيحا حتى على أحق الناس برعايته وأولاهم ببره، بعد أن ابتسم له الزمان، وأصبح من ذوي النعمة والثراء في هراة التي قر بها قراره.
وقد كتب منها لأبيه الذي كان لا يزال مقيما بهمذان يطلب إليه الرحلة إلى هراة مع أخيه وأمه، ليروا آثار هذه النعمة التي أصابها، ليروا أنه أصبح يملك الضياع الواسعة وألفين من الثيران وألفا من العمال يعملون في ضياعه، فلم يستجب الأب لدعوته، وكتب إليه على لسان أمه يسأله العون على نوائب الزمان وأسباب الحرمان، فلم يجبه إلى طلبه بل كتب رسالة مقذعة نال بها من أمه، وأسرف في النيل منها غاية الإسراف كما تعود ذلك في إقذاعه ونيله من أعلام الرجال وأساطين الأدب.
وذلك ما يؤخذ على هذا الأديب الكبير الذي نجد في أدبه ذلك الهجاء المقذع الذي لا يعف عن ذكر السوءات ولا كشف العورات، بل إننا في كثير من الأحيان نجده يصرح بما يقبح ذكره ولا يكني عنه بما يدل على ما يريد.
وما كان قلم البديع ليعجز عن بلوغ ما يريد.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1814  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 7 من 25
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج