بسم الله الرحمن الرحيم |
تصدير |
هذه فصول عالجت فيها كثيراً من جوانب الحياة الأدبية في العصر الذي عشت فيه، وتناولت فيها كثيراً من قضايا الأدب التي شغل بها صناع الأدب ونقاده، باحثاً عن أصول كل قضية وأبعادها، وما وقفت عليه من الآراء فيها، وباسطاً وجهة نظري في كل قضية منها. |
وقد كان فن الشعر أكثر الفنون الأدبية التي دار حولها نقاش طويل، وثار فيها جدل كثير في هذه الحقبة من الزمان. ولم يخل هذا الجدل من عنف أدى إليه التعصب لهذا الرأي أو ذاك بين المحافظين الذي تمسكوا بتقاليد الشعر الموروثة التي رأوا فيها مثلاً ينبغي احتذاؤها، لأنها ثمرة معاناة، وخلاصة تجارب، ارتضتها أذواق أولي البصر بهذا الفن الجميل على مر العصور، والمجددين الذين حاولوا الفكاك من تلك التقاليد التي عدوها قيوداً تحد من حريتهم، وتحول بينهم وبين الإبداع المنشود، والانطلاق إلى آفاق أوسع، ومجالات أرحب. |
وتناولت هذه الثورة فنون الشعر وأغراضه، ومعانيه ومضموناته، ولغته وأشكاله، ولذلك حظي فن الشعر بالحظ الأوفر من التأمل والدراسة في هذه الفصول. |
ولم يعدم فن القصة حظه في هذه الفصول، وإن جاء هذا الحظ متواضعاً، تناولت فيه النتاج القصصي لواحد من كتاب القصة في المملكة العربية السعودية لا يعرفه عامة أهل الأدب في عالمنا العربي، لحداثة مولد هذا الفن في ذلك البلد العربي العزيز. |
أما سائر فنون النثر فقد شهدت صحوة في أوليات هذا القرن، وبخاصة فن الخطابة الذي نشط نشاطاً ملحوظاً في الثلث الأول فيه بتوافر الدواعي إليه، وأهمها دواعٍ سياسية، في مقدمتها الإحساس بوطأة الاستعمار والدعوة إلى مناهضته، وتخليص الوطن من شروره وبغيه، واستعادة ما ضيع من حرية الأمة، وما سلب من عزتها وكرامتها، ثم تعدد الأحزاب الوطنية، ودعوة كل حزب منها إلى المبادئ التي يؤمن بها، وفي مقدمة تلك الأحزاب الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل، والوفد المصري بزعامة سعد زغلول، وقد برع في هذه الخطابة هذان الزعيمان وأشياعهما وخلفاؤهما الذين ارتقوا المنابر، فأشعلوا جذوة الوطنية واستثاروا حميّة الجماهير التي هبت للجهاد في سبيل الأوطان. كما شهدت تلك الفترة نشاطاً في مجالات التأليف والترجمة. وكان لهذا النشاط أثر بالغ في نشر المعرفة والثقافة العلمية والفنية. |
وظهرت في تلك الفترة طبقة من الكتاب برزت في كتاباتهم خصائص النثر الفني التي تتجلى في قوة الأداء، وإحكام العبارة، والتأنق في الصياغة. |
واستطاعت تلك الطبقة من الكتاب أن تعيد النثر الفني إلى عهود نضرته وازدهاره، وأن تذكرنا بالجاحظ وعبد الحميد وابن العميد والصاحب ابن عباد وأبي حيان، وأضرابهم من زعماء الكتابة في العصر العباسي. |
ومن أعلام هذه الطبقة السيد توفيق البكري، وحفني ناصف، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وشكيب أرسلان، ومصطفى صادق الرافعي، وعبد العزيز البشري، وأحمد حسن الزيات، وغيرهم من أصحاب الأساليب. |
وقد انقضت بوفاة هؤلاء الأعلام دولة النثر الفني لتحل محلها الكتابة الصحفية التي لا ترقى إلى وصفها بالكتابة الأدبية، وإن كان بعضها يعالج موضوعات أدبية، وذلك أنها لا تكتب للخاصة، وإنما تخاطب الجماهير، وفيها أوساط من الناس ومن دونهم ممن يعرفون القراءة والكتابة. |
ولم يحدث في تاريخ الأدب الحديث ما يمكن أن يوصف بأنه قضية من قضايا الأدب المنثور مثل تلك القضايا التي أثيرت حول الفن الشعري، اللهم إلا كلمات كتبها الدكتور طه حسين في نقد بعض ما كتب الرافعي ممّا رأى أنه أشبه بأساليب القرن الرابع الهجري، والتي لا تناسب هذا العصر الذي تغيرت الحياة فيه في كل شيء، وكلمات كتبها الدكتور زكي مبارك في نقد أسلوب الشيخ عبد العزيز البشري. وقد شن سلامة موسى حملة شعواء على هذا النثر وعلى أصحابه الذي سمى أدبهم "أدب الفقاقيع" ! |
ومن ثم كان حظ النثر ضئيلاً في هذه الفصول، لأنني اكتفيت بالدراسة المفصلة التي كتبتها في هذا الموضوع، وضمنتها فصلاً كاملاً عنوانه "لغة الأدب" في كتابي "التيارات المعاصرة في النقد الأدبي"
(1)
وبما كتبت في كتابي "نظرات في أصول الأدب والنقد" |
* * * |
وإذا كنت قد عنيت في هذه الفصول بالأدب الحديث وبخاصة فن الشعر وقضاياه التي أثارها الشعراء، وشغل بها النقاد المعاصرون، فقد عرضت لبعض الاتجاهات الفكرية والأدبية التي تبناها جماعة من الكتـاب، أو من دعاة التجديد. وكذلك عرضت هذه الفصول للتنويه ببعض الشعراء والمفكرين في هذا العصر. |
وقد اجتذبتني شخصيات من أعلام الأدب القديم كان لهم ذكر في مختلف العصور، وحظوا بأرفع المنازل عبر التاريخ الأدبي لهذه الأمة، وبقيت لهم هذه المنزلة في نفوس الخبراء بالفن الأدبي، والعارفين بجهات الإبداع الفني إلى زماننا، وأعتقد أنها ستبقي ما دامت للأدب دولة في عالمنا العربي، فخصصت بعنايتي ثلاثة من أولئك الأعلام هم الإمام علي بن أبي طالب، وبديع الزمان الهمذاني، وأبو الوليد أحمد بن زيدون. |
وقد حرصت على تضمين هذه الفصول شيئاً مما كتبت عنهم، أو عن أيديهم، وهو أدب يدعو إلى التأمل والتقدير، ليكون تبصرة وذكرى لكل من يطمح إلى أن يكون له مكان في تاريخ الأقداذ النابهين من الأدباء الذين لا يموت أدبهم بانقضاء آجالهم في هذه الحياة الدنيا. |
ومما تنبغي الإشارة إليه أن الفصول التي تضمنها هذا الكتاب إنما هي مختارات من كتابات كثيرة، سطرها القلم في فترات مختلفة من العمر، وأن فيما يطالعه القارئ فيه فصولاً مضى على كتابتها أكثر من ربع قرن، وأن كثيراً مما يقرأ في هذا الكتاب سبق نشره في مجلات أو في صحف أدبية في مصر وغيرها من البلاد العربية، إذ حرص القائمون عليها على أن ينشروا شيئاً من آثار هذا القلم الذي أحسنوا الظن بصاحبه، وهو ما زال معتداً بها، حريصاً على ما أبقاه الزمن منها، حرص الأب الشفيق على بنيه، وكلهم قريب إلى نفسه، حبيب إلى قلبه، وإن اختلف مشاربهم، وتفرقت بهم السبل في الحياة. |
وأشعر الآن بكثير من الرضا والاغتباط بعد أن رأيت في خياتي هذه الأشتات المنثورة مجموعة بين دفتي كتاب يحفظها، ويقيها عوادي الزمان. |
ولله الأمر من قبل ومن بعد، وله الحمد في الأولى والآخرة. |
|
|
وكتب بمدينة النصر ـ القاهرة |
|
|
يوم الأحد 29 من شهر رجب سنة 1415هـ |
|
|
|