أولاً: التعادلية / لتوفيق الحكيم |
يقربنا النظر في هذا الكتاب من مفهوم "التوازن" بالحد الذي تعنيه الباحثة. "فالحكيم" يُعرف التعادلية بقوله: "والجاذبية هي أساس التعادل، لأن الجاذبية تعني وجود قوتين، والتعادل يعني المحافظة على بقاء القوتين دون أن تتلاشى إحداهما في الأخرى"
(1)
. |
ويحرص على توضيح عدم تلاشي إحدى القوتين، أو فنائها في القوة الأخرى فيقول: "لا ينبغي أن تؤخذ كلمة التعادل هنا بالمعنى اللغوي الذي يفيد التساوي، ولا بالمعنى الذي يعني الاعتدال أو التوسط في الأمور، بل إن معنى التعادل هنا هو التقابل، والقوة المعادلة هنا معناها: القوة المقابلة والمناهضة، فإذا لم يفهم معنى الكلمة على هذا الوضع فإن التعادلية تفقد حقيقة معناها ومرماها، إن التعادلية في هذا الكتاب هي الحركة المقابلة والمناهضة لحركة أخرى"
(2)
. |
وتأويل ما ذهب إليه "الحكيم" في تفسير "التعادلية" يضاهي أو يقارب مفهوم "التوازن" كما سيبين في الفصل اللاحق. |
فالتعادلية في نظره ليست التوسط الرياضي في كل الأمور، لأن التوسط الرياضي ثابت ومطرد ويفضي إلى سكون وجمود أما "التعادلية" فهي قوة جاذبة بين طرفين، يحكم الموقف صورة الاعتدال بينهما. |
والكتاب على كل حال يوضح القوتين اللتين ينبغي أن تتعادلا، قوة العقل وقوة الشعور، أو العقل والقلب. |
ويعني بالفكر أو العقل: العلم، وبالشعور أو القلب: الدين. وفكرة الكتاب الأساسية تقوم على ما ينبغي من تعادل هاتين القوتين. ويؤكد "الحكيم" أن رقي أية حضارة داخل الفرد -أياً كان نشاطه- أو المجتمع مرهون بتوازن هاتين القوتين، كما أن طغيان أي من هاتين القوتين يفضي لا محالة إلى اختلال وصدع في بنيان الأمة. |
فلو طغت قوة العلم ولدت حضارة ظالمة للكون والإنسان، وإن طغت قوة الروح، وتجافى أصحابها عن العلم اختلت حضارتهم أيضاً، وملحوظ أن الكتاب يعني بالدين مطلق الدين، وليس الإسلام بذاته. |
وثم ملحوظة تتصل بهذا الكتاب لا يفوتني التنويه بها، وهي أن "التعادلية" كتبت في مرحلتين متباعدتين، الجزء الأول باسم "التعادلية" في عام 1955م والثاني باسم "مع الإسلام والتعادلية" 1982م. فالزمن بينهما ليس قصيراً، يعترف "الحكيم" في الأول بتأثير الغرب عليه، وأن الفكر العربي وقتئذٍ يخلو من فلسفة. "وأن تفكيرنا وفلسفتنا هي ما نستجلبه جاهزاً من الفلسفات الأوروبية"
(3)
. |
غير أن التعادلية ظلت تنمو تدريجاً داخل فكره، وتدعوه إلى التدبر فيما حوله إلى أن نضجت بعدما يقرب من سبعة وعشرين عاماً من البحث الدؤوب، ثم قادته فطرته الإسلامية إلى أن التعادلية هي أساس الإسلام، دينه. يقول: "وفي عام 1955م كتبت التعادلية لأوضح أن كل شيء في الكون يقوم على التعادلية، ثم وصلت إلى عام 1982م فوجدت أن ديني وهو الإسلام، هو جزء من النظام الكوني القائم على التعادلية، ورأيت أن ما يمكن جعله أساساً لفلسفة عربية إسلامية هو ما نشأ عن عقيدتنا التي تقول للإنسان: إن عليه أن يعيش في الدنيا كأنه يعيش أبداً. ويعيش للآخرة كأنه يموت غداً"
(4)
. |
فالكتاب اهتدى إلى أن منهج الشريعة قائم على "التوازن" والتعادلية، ولكن الرجل لم يكن ذا إحاطة بفقه الشريعة، ولم يكن على دراية تامة بالأحكام وأصولها، وبأقوال الفقهاء فنجده لا يتوخى الدقة والصواب فيما يذهب إليه في بعض الآراء التي يسوقها. |
فهو مثلاً: يقترح الأخذ من القوانين الوضعية بما ينفع الناس في الأرض مستأنساً بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "اطلبوا العلم ولو في الصين". ويزعم بعد ذلك أن الرجم في الزنا أخذه الإسلام من التوراة "فلا حرج إذن أن يقتبس الإسلام ما ينفع المسلمين"
(5)
. |
ثم يجعل من هذا قياساً ومدخلاً للأخذ من القوانين الوضعية على أساس النفع وحده، فيقول: "وهذا ما ينبغي دائماً لرجال الدين اليوم الاقتداء به فيما ينفع الناس بصرف النظر عما إذا كان هذا مطابقاً أو غير مطابق لما كان يجري عليه العمل في العصور السابقة أي أن يكون الأساس في ممارسة الحياة على النفع الذي يعود على الناس وليس على النصوص القديمة وحدها"
(6)
. |
وجعل أساس ممارسة الحياة يقوم على النفع إطلاقاً فيه مجازفة، والأصح مع اعتبار النفع هو وجود مرجع من الشريعة، يُستند إليه في ضبط النفع، لأن النفع يختلف باختلاف الناس والأجناس والأزمنة والأمكنة. |
كما يقترح الكاتب الفصل بين الدين والدنيا، وهذا ما يأباه المنهج الإسلامي فهو دين يأمر أتباعه أن تكون الآخرة حصاداً لأعمال الدنيا بدون فصل بين عمل للدين وعمل للدنيا، بل أعمال الدنيا إذا وجهت فيها النية لله وحده تصبح عملاً للآخرة. |
يقول "الحكيم": كما وُجدت الدنيا وإلى جانبها الآخرة، ويقع بينهما أحياناً مواقف متعارضة تستوجب الفصل بينهما بالقول: إن الإيمان يستخدم فيما يتصل بالله، والعقل يستخدم فيما يتصل بالبشر"
(7)
. |
وهكذا أجده يناقض نفسه، فهو على حين قرر في أول الكتاب أن التعادلية لا تتحقق إلا بالتعادل بين قوة العلم وقوة الدين، وجعلها الفكرة الرئيسة للجزء الأول، أجده عند تطبيق "التعادلية" على الإسلام في الجزء الثاني يطالب بالفصل. وهو فصل -فيما أظن- يؤدي إلى طغيان قوة من القوتين على الأخرى، وهذا ما تنكره فكرة الكتاب. |
وإضافة إلى موضع الفصل بين الدين والدنيا، أجد الكاتب أقحم مصطلحات غريبة لا تمت لطبيعة المنهج الإسلامي، كاستخدام "رجال الدين" في مقام فقهاء الإسلام. |
كما أجده يدعو إلى فلسفة إسلامية وكان أحرى ألا يضيف الفلسفة إلى الإسلام، لأن الإسلام دين عقيدة وسلوك، ودين حكمة منبثقة من ممارسات الحياة وليس دين فلسفة نابعة من الذهن وحده. |
وعلى الرغم مما نوهت به تعليقاً على الكتاب فإني أراه إشراقة على طريق معيار "التوازن"، وطّأت لمن أتى بعده من الباحثين. |
* * * |