أ- التوازن في علاقة المسلم بالله منعكساً على آداب المسلم في ذاته: |
إن علاقة الفرد بالله في الإسلام لا تنحصر فيما يقوم به المسلم من عبارات كالصلاة والزكاة والصوم والحج فقط بل تتسع لتشمل كل ما يقوم به من أعمال وأقوال. |
ومع أن تلك العبادات السابقة لها مقاصد جمة في الإسلام، وهي كما فصلتها الشريعة تعتبر المظهر العلمي للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، مع ذلك لا يخفى أن لكل عبادة جانباً اجتماعياً لا يتميز منها ولا ينفصل عنها. |
فالصلاة مثلاً: صلة بين العبد وربه، وإظهار للخضوع والخشوع التامين، لكنها بهيئاتها، وبطريقة أدائها تحقق مقاصد اجتماعية يتفرد بها المجتمع المسلم، منها النظام والمساواة وتوحد الهدف. |
وأيضاً فللزكاة والصوم والحج... والخ مقاصد اجتماعية كذلك. |
ولا تنحصر هذه المقاصد في المظهر وحده بل تمتد إلى ما وراءه، فالعبادات من حيث هي علاقة بين العبد وربه تتداوى بها الأرواح في أوقات خوائها وهمودها فتقوى وتخشع بها، وتضرع في أوقات تجبرها وطغيانها فتلين وترعوي، وتغويها نوازع الشيطان فتعيدها إلى الصراط المستقيم من باب التوبة. |
فالصلاة وتفرقها خلال النهار والليل، في النهار معاش الناس، يسعون إلى أعمالهم وأرزاقهم، ويتعامل بعضهم مع بعض، ومنهم من يزل ويغوي، بحيث يتغالب الخير والشر ويستبد به صراع الحياة، يشتعل معه الغضب والحقد، وتحتدم رغبات الأثرة والكبر وسائر ما يفضي إلى الاختلال من المقابح والجرائم، فيكون في الرجوع المتجدد إلى الله أثناء ذلك كله وقف للخطأ، وتنبيه للغافل، وتثبيت للمعتدل، وعدل لميزان المختل، فيبقى باستعادة "التوازن" المفقود متماسكاً قوياً قادراً. |
وما يقال عن الصلاة، يقال عن بقية العبادات مع اختلاف بسيط في آثارها الاجتماعية، وكأن العبادات ما فرضت إلا لتهذيب الإنسان تهذيباً متكاملاً راقياً. |
وما يهمني من علاقة المسلم بالله هنا هو الأسس التي تقوم عليها نظرة المسلم لله وأثر هذه النظرة على توازنه النفسي، من خلال ما تغذيه به أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم): |
1- فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كنت خلف النبي (صلى الله عليه وسلم) يوماً فقال: يا غلام إنّي أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله، واعلمْ أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء، قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلامُ وجفت الصحف
(1)
. |
هذا الحديث يقوي مراقبة الفرد لله، حيث يعلمه كيفية إيقاظ تلك المراقبة، وأنها تبدأ بحفظ المسلم لله، والحفظ لا يكون إلا مع المراقبة الشديدة، ثم إن هذه المراقبة إذا تأسست في باطن الفرد طهرته من الداخل كما يطهر الماء النظيف البدن والثوب من الخارج ووحدت عنده الملجأ والمنتهى فيصبح لا يلجأ إلا لله ولا يخاف إلا منه. |
فإذا توحد عند الإنسان الهدف، وتوحدت طاقته الروحية قويت نفسه واشتدت عزيمته، وأصبح مهما تشتت به سبل الحياة، وتنازعته مفارقاتها، أصبح داخله معقوداً على توحيد الله ومراقبته له، كالشعاع ينشر الضوء حوله ومركزه ثابت لا يتحرك ومتى ما أصبح الفرد بهذه القوة توازنت نفسه، فاستطاع أن يلبي حاجات النفس والجسد والمجتمع كل بقدر احتياجه لا يطغى عنده جانب على حساب الآخر، وكيف له ذلك ومراقبة الله كالمصباح الداخلي ترشده، وكلمات الحديث توقظه متى غفا وقول الله تعالى: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ
(2)
، وقوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ
(3)
. يدعم في داخله نور المراقبة كلما خبا. |
فتوحيد المقاصد والأهداف يخلق "التوازن" النفسي، وتشتيت المقاصد والأهداف يخلق الخلل والصراع النفسي. |
ومتى ما توازنت النفس سكنت، كسكون الليل نراه هادئاً مع أن كل ما فيه متحرك، فإذا كان هذا بالنسبة للإنسان العادي فكيف بالأديب "المتوازن"؟ إن المعنى الذي يرمي إليه الحديث وهو مراقبة الله، ما هو إلا خلق "التوازن" النفسي عند المسلم. |
وهو معنى جميل وأي جمال أكثر من أن يتأدب الإنسان فلا يستعين إلا بالله ولا يخاف إلا منه، وأي رفعة يرشد إليها هذا الحديث فلا يعود ينظر الإنسان إلى الناس إلا نظرته إلى الأسباب فقط ويبقى الحكم كله لله. |
هذا المعنى حمله إلينا أسلوب "متوازن" معه أيما توازن فجاءت جمله مقطعة مقاطع "متوازنة" متناسبة عليها غلالة من سجعة بسيطة متوازنة غير متكلفة أما غير ذلك من زخرف القول فلا أشعر بوجوده. |
فالألفاظ بسيطة جميلة، وجمالها منبعث من "توازن" كل لفظ مع معناه لا يزيد عنه ولا ينقص. |
فأي جمال أكثر من شعوري بصدق القائل وأمانته، ويقيني بأن ألفاظه خدم لمعانيه وليس العكس، وأنه ما تعنى من أجل صياغتها بل هي أثر من آثار نفسه الشريفة "المتوازنة"، وقد قال الرافعي يصف بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن التكلف في القول بقوله: "بيد أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان أفصح العرب، على أنه لا يتكلف القول، ولا يقصد إلى تزيينه ولا يبغي إليه وسيلة من وسائل الصنعة ولا يجاوز به مقدار الإبلاغ في المعنى الذي يريده"
(4)
.فالتوازن كمعيار جمالي واضح هنا في معنى الحديث، كما أنه واضح في شكله. |
على أن "التوازن" الذي يحدثه البيان النبوي في نفس المسلم ليس من الضروري أن يتكفل به حديث واحد، فقد يستقل حديث بإحداث "التوازن" النفسي في موقف وقد تتضافر طائفة من الأحاديث يؤازر بعضها بعضاً في لمّ شعث النفس المختلفة، وردها إلى الصورة "المتوازنة" حتى ينجم ظرف يعرضها للخلل. |
فالمسلم في حال دائم من طلب الهداية إلى الاستقامة لا يفتر ولا ينقطع ما دام حياً يسعى، بل إنه كلما ازداد سعيه ازدادت حاجته إلى الاستقامة و "التوازن"، فـ "ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبه كيف يشاء"
(5)
، ولذا كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدعو دائماً بقوله: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. |
2- فعن "علي" رضي الله عنه قال: كنا جلوساً مع النبي (صلى الله عليه وسلم) ومعه عود ينكت به الأرض فنكس وقال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار أو من الجنة، فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: لا اعملوا فكل ميسر، ثم قرأ: فأما من أعطى وأتقى الآية
(6)
. |
وفي رواية أخرى عن عمران، قال: "قلت: يا رسول الله! فيم يعمل العاملون؟" قال: "كل ميسر لما خلق له"
(7)
. |
ومضمون الحديث يدور على التوكل على الله. فالتوكل والتواكل مصطلحان متشابهان في النطق مختلفان في المعنى. |
فالتوكل في أبسط معانيه هو: العمل ثم الرجاء فيم عند الله أما التواكل فهو: ترك العمل وهماً أن ما كتب على المرء يكون، عمل أو لم يعمل. ولكن من أين لنا أن نعرف ما كتبه الله؟ وتجارب الحياة اليومية تقدم لنا كل يوم نماذج مختلفة من أناس انغمسوا في المعصية حتى أوشكوا على الهلاك، ثم طرأ عليهم ما غير سلوكهم وأعادهم إلى الجادة، فلو أن هؤلاء الناس تواكلوا ويئسوا من رحمة الله أثناء انغماسهم في المعصية اعتماداً منهم على أن ذلك ما كتبه الله لهم، لما تغيرت أحوالهم. |
فكون كل واحد منا له مقعده من الجنة أو النار، لا يمنع عن عمل أهل الجنة كما لا يدفع إلى الوقوع في أعمال أهل النار والطريقان بيان واضحان في الشريعة، ووصفهما القرآن بقوله: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى
(8)
، وقوله: وَهَدَيْناَهُ النَّجْدَيْنِ
(9)
. |
فالعلم بأن الله سبحانه وتعالى قد كتب مقعد كل منا من الجنة والنار يظل جهلاً بما كتبه لكل منا على حدة، فأنا أعلم مقعدي أهو في الجنة أو في النار، وهذا رحمة من ربي حتى يظل الرجاء به موصولاً، والعمل من أجله قائماً بدون ملل أو فتور. |
ولكن العمل من أجل الفوز بالجنة والنجاة من النار يجب أن يكون "متوازناً" لا نسرف فيه على حساب أبداننا أو ما علينا من حقوق، فننقطع عن أهلينا ومجتمعنا ونعيش عالة على أمتنا بحجة الانقطاع للعبادة والعمل من أجل الجنة. |
فمنهاج الإسلام في تربية الإنسان متكامل شامل، يشمل العقيدة والعبادات والمعاملات والآداب، فإذا كانت الصلاة والزكاة عبادة فالعمل أيضاً عبادة، ومثله أنواع البر المختلفة. |
فإذا ضممنا إلى قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الحديث السابق قوله (صلى الله عليه وسلم):لن ينجي أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته سدِّدوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدُلْجَة، والقصد القصد تبلغوا
(10)
. |
فالحديثان معاً متكاملان "متوازنان" فبينما يدعو الحديث الأول إلى الإيمان بأن الله كتب لنا مقاعدنا من الجنة ومن النار، وما قد يوهم بعضنا ذلك من ترك العمل يأتي هذا الحديث الآخر فيحض المتقاعسين على أن يعملوا ويكف المنبتين أن يتوانوا، وأن يخلدوا إلى القصد والاعتدال والتوازن ليدوم العمل "فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى"
(11)
. |
والحديثان السابقان – وما يدعوان إليه من "التوازن" بين التوكل على الله والعمل – حديثان جميلان، والجمال فيهما مبعثه المضمون ولكن هذا لا يعني أن الشكل في الحديثين خال من الجمال، لا بالطبع ولكن الشكل هنا يختلف جماله عن جمال الشكل في النصوص الفنية الأخرى التي تعتمد على الإبهار في الألفاظ. |
إنما جمال الشكل هنا انصب على بساطته وخلوه من التعقيد وأمانة ألفاظه في تحمل المعنى وتوازنها مع ذلك المعنى. |
وعندي لو أن ذلك المعنى قد عبر عنه بألفاظ أخرى قد تكون اكتسبت من الفنون البلاغية زخرفاً، وتحلت بجواهر البديع، فقد تخرج به هذه الزخارف عن المعنى بل وتعوق المتلقي عن فهم المعنى. |
ولقد كان العرب يعدون الجمال في النص في "ترك التكلف ورفض التعمل، والاسترسال للطبع، وتجنب الحمل عليه و العنف به"
(12)
. |
وأي طبع أجمل من طبع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ وقد كانوا يعدون الطبع السليم هو "المهذب الذي قد صقله الأدب وشحذته الرواية وجلته الفطنة وألهم الفصل بين الرديء، والجيد، وتصور أمثلة الحسن والقبح"
(13)
. |
إذا كان الحديث الأول يزرع في نفس المسلم مراقبة الله التي بها تقوم الأعمال، والحديثان الآخران يوازنان بين العمل والتراخي، فستصل نفس المسلم إلى حالتين: الخوف والرجاء، والخوف من أن عمله لن يقبل، والرجاء في أن يقبل بكل ما فيه من قصور أو ضعف، فبينا هو في هذه الحالة يأتيه حديث يؤجج فيه عواطف الرجاء أو الخوف. |
|