شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هـ- خصوصية البيان النبوي:
"الدراسات السابقة للبيان النبوي، قسته بالبيان العربي، ثم حكمت له بالفوقية، وأثبتت من وجه أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) أفصح العرب وأبلغهم، إلا أنها -كما أتصور- غير كافية في الكشف عن خصوصية البيان النبوي وتمييزه بتلك الخصوصية التي لو استبانها جاهل أو غير مسلم لأسلم أو ازداد إيماناً، اعترافاً بأن هذه الخصوصية لا تطرد وتستقيم في بيان إلا أن يكون صاحبه نبياً اصطفاه الله وأدبه.
إن الاكتفاء بحصر جمال البيان النبوي في تطبيق المعايير البلاغية المتعارف عليها فيه إثبات لفوقية البيان النبوي، لكن فيه حجب ومصادرة لجانب آخر من الجمال المستسر، الذي يسهل استكشافه مما حصل الباحثون من اتساع المعارف وزيادة الوعي.
فإذا سأل سائل الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن عمل يدخل به الجنة فأجابه عليه الصلاة والسلام بقوله: "قل آمنت بالله ثم استقم" (1) فماذا فيه من التشبيه والاستعارة أو غيرهما مما يثبت الفوقية البيانية، لا شيء ظاهر ما لم يتكلف القول ومع ذلك فهذا الحديث الوجيز ينطوي في ضميره -شأن غيره من سائر البيان النبوي- على الخصوصية المطردة.
إن وراء الشكل والمعنى القريب في البيان النبوي قيمة جمالية بعيدة الغور، رفيعة الجمال، خالدة الأثر، تعزز ما قاله البلاغيون عن فوقية البيان النبوي، وهي -في تصوري- قيمة استمدها الرسول (صلى الله عليه وسلم) من القرآن الكريم، فتجلت في أخلاقه كما تجلت في بيانه، هذه القيمة هي: الأخلاق القرآنية "المتوازنة" التي انعكست على أعماله كما انعكست على أقواله (صلى الله عليه وسلم) في المعاني والمباني، في الشكل والمضمون على السواء.
إن خصوصية الحديث النبوي وتميزه عن غيره من البيان العربي هو في اطراد خاصية "التوازن" فيه، ذلك "التوازن" الذي يسلك حبات الحديث في سلك واحد مع اختلاف تلك الجواهر.
"فالمضمون: الذي يعبر عنه الحديث النبوي هو: العقيدة الإسلامية ببساطتها وصراحتها وملاءمتها للفطرة؛ وهي الصراط المستقيم الذي لا يقبل لجاجة ولا تكلفاً ولا تنطعاً ولا مماراة، ولا ما يشبه ذلك مما يخرج عن الاستواء في الطباع الشاذة، والفكر المارق وهي بهذه البساطة والاستقامة تنجي البشرية من زحام التقعيد وآفات التعقيد فلا يضيع معلم التوحيد في تيه الحياة البشرية وفجاجها" (2) .
والشكل: الذي يصوغ تلك المعاني ويبرزها "متوازن" تمام "التوازن" لا يطغى أبداً على المعاني مهما توسل به بالوسائل البلاغية المعروفة لأنه يرد عن منبع جمالي طبيعي ثري.
وقد حام "مصطفى صادق الرافعي" حول تلك الخاصية في البيان النبوي واقترب من النبع لكنه لم يرده.
فقد عبر مشدوهاً بذلك الجمال الخاص في البيان النبوي والذي يشعر أنه يختلف عن غيره من البيان العربي شيئاً ما، شيئاً يشعر به "الرافعي" بأنه يستقيم دوماً في البيان النبوي فإن قارنته بغيره من النصوص العربية فقد تجده ولكنه لا يطرد له تلك الاستقامة كما في البيان النبوي.
ويشرح "الرافعي" ذلك بقوله:
"كان (صلى الله عليه وسلم) في اللغة القرشية التي هي أفصح اللغات وألينها، بالمنزلة التي لا يدافع عليها، ولا ينافس فيها، وكان من ذلك في أقصى النهاية وإنما فضلهم بقوة الفطرة واستمرارها وتمكنها مع صفاء الحس ونفاذ البصيرة واستقامة الأمر كله، بحيث يصرف اللغة تصريفاً ويديرها على أوضاعها، ويشقق منها في أساليبها ومفرداتها ما لا يكون لهم إلا القليل منه، لأن القوة على الوضع والكفاية في تشقيق اللغة وتصاريف الكلام، لا تكون في أهل الفطرة مزاولة ومعاناة... إنما هي إلهام بمقدار تهيئ له الفطرة القوية، وتعين عليه النفس المجتمعة، والذهن الحاد والبصر النفاذ، فعلى حسب ما يكون للعربي في هذه المعاني، تكون كفايته ومقداره وتسديده في باب الوضع" (3) . و "الرافعي" في النص السابق يستشرف سر البلاغة النبوية، ويكاد أن يلمسه ببصيرته ويلم بهذه الحقيقة الفذة ثم يصير كمن غشيت عينه بنور باهر فجأة فيهرع عن اللباب إلى الشكل.
إن "قوله: فضلهم بقوة الفطرة واستمرارها وتمكنها مع صفاء الحس، ونفاذ البصيرة واستقامة الأمر كله" ما هو إلا تفسير لمعيار "التوازن" الذي اطرد عند النبي (صلى الله عليه وسلم).
أما وصفه للغة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنه كان فيها بالمنزلة التي لا يدافع عليها ولا ينافس فيها فذلك لأن سعي المرء يكون بقدر حاجاته الروحية والبدنية، وكلما زاد الطموح اشتد طلب الحاجات وتنوعت الوسائل إليها، ومن هنا تختلف لغة الأداء على مستوى الخطاب العادي والخطاب الفني رقياً وانحطاطاً، وقوة وضعفاً، فالطموح الذي تتعلق روحه بآخر المدى، وينشغل عقله وقلبه وسائر حواسه بما يتطلع إليه، ولديه ما يقويه من تكوينه المواتي واستعداده الخاص، وتمكنه من لغته يكون على حالة لا تخطئها سواء بالنسبة لحصيلته من الخبرة، ولغته وأسلوب أدائه.
فإذا كان الأمر مما يحتاج فيه إلى تربية الإنسان، أو إلى عمل فني ينتهي من خلال اللغة إلى الإنسان، كانت اللغة هنا أبلغ و الأسلوب أقوى تأثيراً وجمالاً.
وإذا سلمت هذه النتيجة، فأين الأدباء جميعاً، وأين ما عندهم مما عند محمد (صلى الله عليه وسلم)؟ يكفي أن حاجة كل أولئك الشوامخ وأهدافهم محلية آنية، وهو فرق يغني عن سائر الفروق.
إن رسالة الإسلام عامة وشاملة، وشخصية تحمل أمانتها لا يدانيها في الإبلاغ وفي البلاغة أحد من البشر، إنها إذاً البلاغة المتكافئة مع هذه الرسالة وطبيعة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومع المثل الأعلى لبلاغة العرب أهل الفصاحة واللسن (4) .
إن "التوازن" في البيان النبوي لا ينصب فقط على المعاني التي ما هي إلا انعكاس عن شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم)، إنما أيضاً "توازن" في شكل الأداء، "توازن" يربط بين المعنى والشكل بطريقة معجبة تحير "الرافعي" وتجعله يبحث في العلاقة بين الشكل والمضمون عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فهو يصف لنا هذه العلاقة بقوله عن أسلوبه: "يخرج رصيناً غير متهافت، متسقاً غير متفاوت، لا يغلب على النفس التي خرج منها، بل تغلب عليه، ولا تسترسل به المخيلة، بل يضبطه العقل ولا يتوثب به الهاجس بل يحكمه الرأي، ولا يتدافع من جهاته، ولا يتعارض من جوانبه بل تراه على استواء واحد في شدة وقوة واندماج وتوفيق... ونحن فلسنا نعرف في هذه العربية أسلوباً يجتمع له مع تلك الحالة العصبية هذه الصفة، ويكون سواء في الحدة والرصانة مبنياً من الفكرة بناء الجسم من اللحم متوازناً في أعصاب الألفاظ وأعصاب المعاني، يثور وعليه مسحة هادئة فكأنه في ثورته على استقرار، وتراه في ظاهره وحقيقته كالنجم المتقد، يكون في نفسك نوراً وهو في نفسه نار...
تجده قصداً محكماً متسايراً يشد بعضه بعضاً وكأنه صورة روحية لأشد خلق الله طبيعة وأقواهم نفساً وأصوبهم رأياً، وأبلغهم معنى وأبعدهم نظراً، وأكرمهم خلقاً، وهذا وشبهه لا يتأتى إلا بعناية من الله تأخذ على النفس مذاهبها الطبيعية، وتتصرف بشدتها على غير ما يبعث عليها الطبع الحديد والخلق الشديد، ويخرجها من كل أمر متكافئة متوازنة بحيث يظهر أثر النفس في كل عمل.
ومن أولى بهذه العناية ممن يخاطبه الله تعالى بقوله: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (5) .
لأنه يستحيل أن يكون مع أحد من ذلك الذي بيناه ما خص الله به نبيه، إذ الاستحالة راجعة إلى الطبع والجبلة وخلق الفطرة " (6) .
وهكذا أرجح أن "الرافعي" كان قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى خاصية البيان النبوي وأن هذه الخاصية تكمن في "توازن" أدبه (صلى الله عليه وسلم) وأن مستسر الجمال في البيان النبوي إنما يعود إلى ذلك "التوازن"، إلا أنه شعر بهذه الخاصية، شرحها، وترجم خواطره تجاهها، دون استخراجها بطريقة منهجية، وجمعها تحت مصطلح يعرف به ذلك المعيار الجمالي.
وتحدوني هذه التوطئة إلى ما يكون من أثر استواء شخصية محمد (صلى الله عليه وسلم) "وتوازنها" التام خَلْقاً وخُلُقاً على حديثه الشريف، وما ينجم عن هذا "التوازن" من مقاييس جمالية تضيف إلى موروثنا من المقاييس البلاغية غدقاً كثيراً، وتجعل لأدبنا منزلة متميزة بين آداب العالم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :482  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 65 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج