جـ- انعكاس "توازن" شخصيته (صلى الله عليه وسلم) على بيانه: |
وصلت في المبحث السابق، إلى أن "التوازن" في خَلْقه -(صلى الله عليه وسلم)- مكافئ له في خُلُقه فهل لهذا "التوازن" أثر على بيانه (صلى الله عليه وسلم)؟. |
قد يقال إن "التوازن" فقي الخلق عن ذوي المواهب لا اعتبار له في مقام البلاغة، وهما أن سر البلاغة ينحصر في القول ذاته، وأن جماله منه فيه دون حاجة إلى تعقب سر الجمال ف مُنْشِئِه أو متلقيه، نعم قد يكتفي الكلام بذاته تأثيراً وجمالاً، إلا أن الإحساس والتأثير يظلان في عقل المتلقي ووجدانه كرضيع فطم قبل أوانه. |
لذا فإن الحديث النبوي وإن أغنى بذاته في إحداث الأثر، إلا أن وصله بصاحبه (صلى الله عليه وسلم) يمنحنا بهجة عقلية، وفائدة روحية، ويجعلنا نأنس بجماله أنساً كبيراً. |
إن "التوازن" يؤدي وظيفة جوهرية في العلاقة بين المنشئ والنص. |
وفي تصوري أن العمل الأدبي تغذيه روافد عدة تنتهي به إلى الكمال والجمال وقد ذكرتها في الفصل الثاني، ولكني أشير هنا إلى بعضها لحاجة المقام إليها: العمل الأدبي يقوم على أركان ثلاثة: |
منها ركنان أساسيان هما: الأديب المنشئ والنص. |
وركن نعتبره طرفاً لا غنى عنه في تذوق النص وتقويمه هو المتلقي، ومع هذه الأركان روافد أخرى تفيد في اتساع أبعاد الرؤية كالزمان والمكان. |
أما الركنان الأساسيان: فبينهما تلازم الشيء وصورته في المرآة، فقد نعجب بالنص مقطوعاً عن صاحبه، وتوحي إلينا "صورة" غدقاً من المشاعر ويستحوذ علينا ما فيه من جاذبية وجمال، ولكن يبقى في النص شيء ما وفي نفس المتلقي شيء ما، ولا يكشف هذا ولا يشبع تلك إلا وصل النص بصاحبه فيزداد سطوعاً وإشراقاً. |
ومن هذه العلاقة القوية بين المنشئ والنص، استنبطت أثر سلامة المنشئ من الآفات على ما يكتبه، فإن الآفة بطبيعتها خلل، وإذا كان الأديب مؤوفاً فحتم أن يتسرب من آفته شيء إلى أدبه. |
ولو احتكم إلى هذا المقياس في واحد "كبشار" أو "أبي العلاء" أو "طه حسين" لثبت وجه الصواب فيما أعتقده. |
فأدب هؤلاء فيه تحرفات كثيرة لا من ناحية العقيدة فحسب، ولكن من حيث إغراق الأول في اللذة، وإغراق الثاني في الحرمان، والثالث في الخروج عن المألوف، وفي كل ذلك جموح عن الاستواء. |
وقد تنبه إلى العلاقة بين النص والمنشئ "القاضي الجرجاني" وقال عنها: |
"وقد كان القوم يختلفون في ذلك، وتتباين فيه أحوالهم، فيرق شعر أحدهم ويصلب شعر الآخر، ويسهل لفظ أحدهم، ويتوعر منطق غيره، وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع وتركيب الخلق، فإن سلامة اللفظ تتبع سلامة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة، وأنت تجد ذلك ظاهراً في أهل عصرك وأبناء زمانك، وترى الجافي الجلف منهم كزَّ الألفاظ، معقد الكلام، وعر الخطاب، حتى إنك ربما وجدت ألفاظه في صورته ونغمته، وفي جرسه ولهجته"
(1)
. |
هذا كله يقودني إلى نقطتين: |
- الفرق بين فصاحة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وفصاحة غيره من الفصحاء. |
- خصوصية البيان النبوي. |
|