شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أ- صفات الرسول (صلى الله عليه وسلم) الخَلْقية والخُلُقية:
كثر الواصفون لشخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومن بينهم "القاضي عياض" الذي وصفه بقوله: "أما الصورة وجمالها وتناسب أعضائه في حسنها، فقد جاءت الآثار الصحيحة المشهورة الكثيرة بذلك... من أنه (صلى الله عليه وسلم) كان أزهر اللون، أدعج أنجل، أشكل، أهدب الأشفار، أبلج، أزج، أقنى، أفلج، مدور الوجه، واسع الجبين، كث اللحية تملأ صدره، سواء البطن والصدر، واسع الصدر، عظيم المنكبين، ضخم العظام، عبل العضدين والذراعين، والأسافل، رحب الكفين والقدمين سائل الأطراف، أنور المتجرد، دقيق المسربة، ربعة القد، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير المتردد، ومع ذلك فلم يكن يماشيه أحد ينسب إلى الطول إلا طاله (صلى الله عليه وسلم)، رجل الشعر، إذا افتر ضاحكاً افتر عن مثل سنا البرق، وعن مثل حب الغمام، وإذا تكلم رئي كالنور يخرج من ثناياه، أحسن الناس عنقاً ليس بمطهم ولا مكلثم، متماسك البدن ضرب اللحم (1) .
إن أول ما لفت انتباهي في أوصاف النبي (صلى الله عليه وسلم) هو توازن خلقته واعتدالها وأن هذا التوازن كان سبب جماله (صلى الله عليه وسلم).
فإن حظ ملامحه وأعضائه من تمام الخلقة كان على أتم ما يكون، فإن كان العضو يتم جماله بكبره وضخامته، وجدته عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كبيراً ضخماً، وإن كان العضو يتم جماله بصغره ودقته، كان عند رسول الله صغيراً ودقيقاً، وإن كان مما يتم جماله كونه وسطاً كان عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كذلك، وهذا أول ما استرعى انتباهي في تمام التوازن في صورته (صلى الله عليه وسلم)، هذا التوازن العجيب في خلقته (صلى الله عليه وسلم) جعلني أتصوره أنموذجاً جميلاً لما يجب أن تكون عليه صورة الرجل في أعلى مستويات الجمال.
إن جمال محمد (صلى الله عليه وسلم) لهو جمال الرجل المكتمل، الذي لم يعقه ذلك الجمال عن تبليغ رسالته، وإنما كان عوناً عليها فإن الجاحظ مثلاً يجعل جمال الخطيب من تمام البلاغة ووسيلة مساعدة عليها فيقول بعد وصفه للبلاغة: "وزين ذلك كله وبهاؤه وحلاوته وسناؤه، أن تكون الشمائل موزونة والألفاظ معدلة، واللهجة نقية فإن جاء مع ذلك السن والسمت والجمال وطول الصمت، فقد تم كل التمام وكمل كل الكمال" (2) .
فهذه الصلة التي نوه بها الجاحظ بين بيان الخطيب وصورته هو ما حدا بي إلى الإشارة إلى بعض أوصافه الخلقية (صلى الله عليه وسلم) استشرافاً لما أعنيه من توازن بيانه (صلى الله عليه وسلم)، وربما يقال: إن التاريخ يحفظ لنا أسماء بعض الأدباء الكبار وكانوا مؤوفين بآفات مختلفة، أمثال "بشار" و "أبي العلاء" و "طه حسين" وغيرهم والإجابة: أن أدبهم -لا محالة- يشي بحرمانهم من الاستواء، والقارئ الفطن اللبيب لا يخفى عليه ذلك، ومن جانب آخر قد يقال إن أدبهم بما يعكس من قيم ورموز ومعاني قد يتوازن مع آفاتهم النفسية أو الخلقية ويبقى بعد ذلك أن البيان يحظى بقدر من الاستواء في ذاته مكافئ لاستواء شخصية صاحبه.
صفاته (صلى الله عليه وسلم) الخُلُقية:
"إن أول ما يسترعي انتباه من يقرأ سيرته (صلى الله عليه وسلم) بروية وفقه لبواعث أقواله وأفعاله في مختلف المواقف أن عواطفه وسائر انفعالاته كانت متكافئة بعضها مع بعض في القوة. فقل في كل عاطفة على حدة ما فيها من المضاء والنصاعة والعمق، ثم قل كلها مجتمعة ما فيها من التناسب و "التوازن" التامين مع المواقف، تراه (صلى الله عليه وسلم) في كل الشؤون زوجاً وأباً وصديقاً وقائداً، فتوقن أن أحداً لا يبلغ مبلغه في مشاعره كلها، وكأن كل شعور يولد في قلبه (صلى الله عليه وسلم) مقدر على قد المناسبة بلا زيادة أو نقصان.
فلا غرو إذن أن تكون الأقوال والأفعال على شاكلة هذه المشاعر وعلى شاكلة الجوارح التي بلغت أقصى ما تبلغه من الاستواء في بشر.
"ونظرة إلى كتب الصحاح تظهر هذه الانفعالات والعواطف وما ينعكس عنها من سلوك مرويةً ومعها الوقائع والظروف التي أحاطت بها، أو التي أظهرت ذلك الخلق.
فمعروف عن طريق الرواة من أصحابه ومن زوجاته، وممن داناه، كل ما يقفنا على الدقائق، يقظته ونومه، إفطاره وصومه، قيامه وجلوسه، معاشرته لأهله، ومعاملته لأصحابه، ما يحب وما يكره، متى يرحم ومتى يقسو ما يرضيه وما يغضبه بل نعرف كيف كانت هيئته في رضاه وفي غضبه وفي فرحه وفي حزنه، وفي جده وفي دعابته" (3) .
وسأختار بعض الحوادث التي تبين بعض صفاته (صلى الله عليه وسلم) وكيف أن انفعالاته (صلى الله عليه وسلم) "تتوازن" دائماً مع الموقف دون زيادة أو نقصان.
- فمثلاً الرحمة والشدة:
تواترت الروايات تصف مدى رحمة الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى ليظن أنها صفة غالبة عليه، وقد وصفه الله عز وجل بأنه: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (4) مما أغرى قوم المرأة التي سرقت أن يستشفعوا بـ "أسامة بن زيد" ليكلم الرسول (صلى الله عليه وسلم) في ذلك فماذا من شأن هذه الرحمة الرحيمة؟ هل تجاوزت حدها وقدرها فحركت قلبه (صلى الله عليه وسلم) تجاه تلك المرأة؟.
لا إنها رحمة "متوازنة" رحمة تقدر الموقف وتحسب حساب المستقبل إنها رحمة ترتبط بأسبابها، ولا ينالها غير مستحقها، فما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا أن قال "لأسامة": "أتكلمني في حد من حدود الله"، قال أسامة: استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول الله خطيباً فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: "أما بعد فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر رسول الله بتلك المرأة فقطعت يدها" (5) .
إن هذا "التوازن" في رحمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حوّل الشدة إلى فضيلة فالشدة قسوة في الظاهر، ولكنها رحمة بتلك المرأة خاصة وبأمة محمد (صلى الله عليه وسلم) عامة لأن المرأة حسنت توبتها بعد ذلك كما يذكر راوي الحديث وتزوجت وتقول عائشة رضي الله عنها: فكانت تأتيني بعد فأرفع حاجتها إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
- قوته وضعفه:
تروي لنا كتب الصحاح قصصاً كثيرة عن قوته (صلى الله عليه وسلم) الجسدية وتحمله النفسي، كما تروي لنا كذلك قصصاً عن شجاعته (صلى الله عليه وسلم)، ومن ذلك:
"يوم فزع أهل المدينة، فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أول من خرج على فرس لأبي طلحة قوية سريعة فذهب إلى مصدر الصوت وعاد وهو يقول: لم تراعوا لم تراعوا" (6) .
ومع كل هذه القوة والشجاعة، كان يعتريه في بعض الأحيان شعور بضعف البدن، مثله مثل باقي البشر، ومن ذلك يوم ثقيف بعد أن أغروا صبيانهم أن يتعهدوه بالحجارة حتى أدموا عقبيه، مما جعله يرفع يديه إلى السماء ويشكو ضعفه لله عز وجل بقوله: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس" (7) .
وسأكتفي بهذين المثالين دليلاً على غيرهما من الأمثلة الموجودة في كتب السيرة والصحاح والتي تبين مدى "توازن" شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم) أتم ما يكون "التوازن" لإنسان، بل إن "التوازن" عنده (صلى الله عليه وسلم) -كما ذكرت آنفاً- من المستوى الخاص الذي يُهيئه الله عز وجل لمن يصطفيهم برسالته، ومع هذا التوازن الخاص، فالرسالة لم تخرجه عن بشريته، ولهذا لم تنسج الأساطير حوله، كما نسجت حول غيره: وَقَالُواْ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِي الأَسْوَاقِ (8) ، قُلْ إنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ (9) .
وكانت هذه البشرية فيه حافزاً على الاقتداء، فالتماثل في البشرية بين الداعي والمدعو أحفز للاقتداء وأعون عليه وإلا كان للمدعو أن يتذرع بالعجز.
وإذا كانت البشرية على هذا النحو من النضج والاستواء والتكافؤ كانت أخلق بأن تدل على نفوس البشر في شتى أحوالها، قوة أو ضعفاً، وأخبر بأساليب الخطاب. المتوافقة "المتوازنة" مع هذه النفوس، ومن ثم يكتسب هذا الخطاب سمة "التوازن".
 
طباعة

تعليق

 القراءات :643  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 61 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثامن - في مرآة الشعر العربي - قصائد ألقيت في حفل التكريم: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج