الأمر الثالث: أمور تتعلق بالنص والمتلقي معاً: |
هذه الأمور لخصها "الجاحظ" بمقولته المشهورة في البلاغة وهي "موافقة الكلام لمقتضى الحال"، وهذا يعني تنوع أساليب الخطاب بما يناسب: |
أ- ثقافة المتلقي. |
ب- حالته النفسية. |
أ- تنوع أساليب الخطاب بما يناسب ثقافة المتلقي: |
يقصد بذلك أن ينشئ الأديب نصوصاً تتلاءم والطبقة الموجهة إليها تلك النصوص بحيث يراعى الأديب استخدام مفردات وأساليب يفهمها ويستوعبها من ينشئ لهم، فلا يكون الكلام أرقى أو أحط من مستوى من يخاطبهم. وقد عدوا ذلك عين البلاغة. |
وقد أعجب "الجاحظ" بصحيفة لأهل الهند جاء فيها أن البلاغة مخاطبة الناس بما يناسب مقاماتهم، جاء في ذلك الرأي قوله: "أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة: وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش ساكن الجوارح متخير اللفظ، لا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السوقة.. ومدار الأمر على إفهام كل قوم بمقدار طاقتهم، والحمل عليهم على أقدار منازلهم"
(1)
. |
وقد خطا "ابن رشيق" في هذا الميدان أكثر من ذلك، عندما قرر أن اختلاف الأذواق يعود إلى اختلاف الأزمنة والبيئات، لذا فقد نقل في "العمدة" رأياً أعجبه "لعبد الكريم التهشري" في هذه المسألة، فقال "ابن رشيق": "ولم أرَ في هذا النوع أحسن من فصل أتى به "عبد الكريم بن إبراهيم" فإنه قال: قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد، فيحسن في وقت ما لا يحسن في آخر، ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن عند أهل غيره، ونجد الشعراء الحذاق تقابل كل زمان بما استجيد فيه، وكثر استعماله عند أهله، بعد أن لا تخرج من حسن الاستواء وحد الاعتدال وجودة الصنعة، وربما استعملت في بلد ألفاظ لا تستعمل كثيراً في غيره"
(2)
. |
ويتفق "القاضي الجرجاني" مع هذا الرأي، ويجعل استحسان الناس "للبحتري" عائداً إلى ذلك فيقول بعد أن يورد أشعاراً كثيرة "للبحتري" معللاً سبب ذلك الاختيار بقوله: "وإنما أحلتك على البحتري، لأنه أقرب بنا عهداً ونحن به أشد أنساً، وكلامه أليق بطباعنا، وأشبه بعاداتنا، وإنما تألف النفس ما جانسها وتقبل الأقرب فالأقرب إليها"
(3)
. |
وما ذهب إليه "التهشري" و "علي الجرجاني" صحيح، إلى حد ما، فنحن نقبل أنماطاً أدبية في عصر ما، ونمجها في عصر آخر. وقد تدور على ألسنة الأدباء بعض المفردات والمصطلحات والصور في زمن أو بلد ما، وتسقط في زمن آخر وبلدٍ آخر. وهذه الأمور معروفة لدى الناقد الحاذق، وهذه الأمور بذاتها ما تجعل عملية الحكم الجمالي شائكة، لأن العملية تخضع لذوق العصر والبيئة وهذا الذوق قابل للتغيّر. |
ولكن ليس معنى هذا أن الأدب لكي يكون جميلاً يجب أن يتغير كلياً من جهة الألفاظ والأسلوب والصياغة من عصر إلى عصر، بل هناك خطوط أصلية تُسمي بالذوق العام، وهذه الخطوط لا تتغير بل يتوارثها الأدباء كما يتوارثها متذوقو الأدب، وإلا فكيف نفسر تعلقنا بقصائد تعود إلى العصور السابقة؟ وهذا ما استدركه "ابن رشيق" على رأي "التهشري" فقد علق على النص بقوله: |
"وأنا أرجو أن أكون باختيار هذا الفصل وإثباته ههنا داخلاً في جملة المميزين إن شاء الله، فليس من أتى بلفظ محصور يعرفه طائفة من الناس دون طائفة، لا يخرج من بلده ولا يتصرف من مكانه، كالذي لفظه سائر في كل أرض ومعروف بكل مكان، وليس التوليد والرقة أن يكون الكلام رقيقاً سفسافاً، ولا بارداً غثاً جافياً، ولكن حال بين حالين"
(4)
. |
و "لابن طباطبا" تفصيل في مخاطبة كل قوم بما يليق بهم. فهو ينصح الأديب بـ "بأن يوفق في تشبيهاته وحكاياته، ويحضر لبه عند كل حاجة ووصف فيخاطب الملوك بما يستحقونه من جليل المخاطبات، ويتوقى حطها عن مراتبها، وأن يخلطها بالعامة. |
كما يتوقى أن يرفع العامة إلى درجات الملوك. ويعد لكل معنى ما يليق به، ولكل طبقة ما يشاكلها، حتى تكون الاستفادة من قوله في وضعه الكلام مواضعه أكثر من الاستفادة من قوله في تحسين نسجه وإبداع نظمه"
(5)
. |
"وأول من سلك هذه السبيل في كتبه سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، فإن مكاتباته التي نفذت إلى ملوك العجم كانت في نهاية البيان والوضوح وسهولة الألفاظ وقربها على الناقل لها، فأما مكاتباته التي صدرت إلى رؤساء العرب فإنها بخلاف هذه الصفة، وذلك أنها مشتملة على غريب الألفاظ وجزلها بما يليق بمخاطبة من نفذت إليه، وفيها توخاه (صلى الله عليه وسلم) من ذلك ما يوضح أن استعمال الكلام إنما هو بحسب مراتب المخاطبين وأحكام الأزمنة والأمكنة"
(6)
. |
ب- تنوع أساليب الخطاب بما يناسب حالة المتلقي: |
يقول "ابن طباطبا": "النفس تسكن إلى كل ما وافق هواها، وتقلق مما يخالفها، ولها أحوال تتصرف بها، فإذا ورد عليها في حالة من حالاتها ما يوافقها اهتزت له وحدثت لها أريحية وطرب، فإذا ورد عليها ما تخالفه قلقت واستوحشت... وللأشعار الحسنة على اختلافها مواقع لطيفة عند الفهم لا تحد كيفيتها.. فهي تلائمه إذا وردت عليه -أعني الأشعار الحسنة للفهم- فيلتذها ويقبلها، ويرتشفها كارتشاف الصديان للبارد الزلال.. فإذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى، الحلو اللفظ، التام البيان، المعتدل الوزن، مازج الروح ولاءم الفهم، وكان أنفذ من نفث السحر، وأخفى دبيباً من الرقى، وأشد طرباً من الغناء، فسل السخائم، وحل العقد، وسخى الشحيح، وشجع الجبان، ... وقد قال (صلى الله عليه وسلم):وإن من البيان لسحراً
(7)
. |
ويقول "حازم القرطاجني" عن سبب تأثر النفوس بالتشبيهات، وأن ذلك يعود إلى أمرين، ما يهمني هو الأمر الأول حيث اشترط فيه استعداد النفس للصور فيقول عن ذلك الاستعداد هو: "استعداد بأن تكون النفس حال وهوى قد تهيأت بهما لأن يحركها قول ما بحسب شدة موافقته لتلك الحال كما قال المتنبي: |
إنما تنفع المقالة في المر |
ء إذا وافقت هوى في الفؤاد"
(8)
|
|
بعد دراسة النصين السابقين، استنبطت أن نقاد العرب كانوا حريصين كل الحرص على عدم الاعتماد في الحكم الجمالي على التهيؤ النفسي وحده، وإنما التهيؤ النفسي والنص الجميل، وعودة لقول "ابن طباطبا" نجده يركز على ذلك فيقول: "للأشعار الحسنة... أعني الأشعار الحسنة الفهم... فإذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى، الحلو اللفظ، التام البيان، المعتدل الوزن... الخ" و "حازم" يقول: "تهيأت بهما لأن يحركها قول ما بحسب شدة موافقته لتلك الحال" وشدة الموافقة لا تأتي إلا بشدة النسج ودقة الصياغة، والوصول إلى أعماق المعاني، حتى تتقابل تلك المعاني مع ما يناسبها عند المتلقي، فتتحد مع نفسه وتحركها إلى قبول ذلك النص. |
ولكي يصل الأديب إلى ذلك القبول عند المتلقي لا بد له من العلم بفن القول، ولم يغفل نقاد العرب هذا الأمر، وهذا "ابن رشيق" ينبه الأديب إلى أمور عدة فيقول: |
"وأول ما يحتاج إليه الشاعر بعد الجد الذي هو الغاية وفيه وحده الكفاية، حسن التأتي والسياسة وعلم مقاصد القول فإن نسب ذل وخضع، وإن مدح أطرى وأسمع، وإن هجا أخل وأوجع. وإن فخر خبّ ووضع، وإن عاتب خفض ورفع، وإن استعطف حن ورجع. ولتكن غايته معرفة أغراض المخاطب كائناً من كان ليدخل إليه من بابه ويداخله في ثيابه، فذلك هو سر صناعة الشعر ومغزاه الذي تفاوت الناس به وتفاضلوا"
(9)
. |
ويصف لنا "ابن طباطبا" الأثر الذي يتركه ذلك "التوازن" بين تنوع الكلام على حسب تنوع المواقف بقوله: "فإذا وافقت هذه الحالات تضاعف حسن موقعها عند مستمعها لا سيما إذا أيدت بما يجذب القلوب من الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلجة فيها، والتصريح بما كان يكتم منها، والاعتراف بالحق في جميعها"
(10)
. ويقول: "فإذا كان المديح ناقصاً عن الصفة التي ذكرناها كان سبباً لحرمان قائلة والتوسل به وإذا كان الهجاء كذلك أيضاً كان سبباً لاستهانة المهجوِّ به وأمنه من سيره ورواية الناس له"
(11)
. |
وهنا ألحظ أنهم توخوا "التوازن" حتى في أغراض الشعر، وبكل دقة فلكل غرض مقدار معين من القول وطريقة فنية من طرق الصياغة إذا لم يتبعها الشاعر بكل دقة، "دارت عليه الدوائر" وكان سبباً لعدم رواية الناس له. |
إذاً فكلما كان الكلام "متوازناً" مع الموقف بكل ما فيه، المتلقي وبيئته وزمانه وثقافته وحالته النفسية اهتزت له النفوس، وحكمت له بالجمال. |
مما سبق توصلت إلى أن الجمال في مفهوم النقد الأدبي عند العرب كان ينصب على محورين: |
أ- مدى "توازن" النص الأدبي من حيث النظم في ذاته؛ بحيث إن النص يأخذ درجته من الجمال بمدى تحقيقه لهذا المعيار الذي عرفه نقاد العرب ولكنهم لم يصرحوا بلفظه - وقد كان مثلهم الأعلى في ذلك هو القرآن الكريم، الذي بهرهم بنظمه المحكم المعتمد على "التوازن". |
فتوصلوا بعد دراسات عدة إلى أن إعجازه لم يكن في شكله فقط، ولم يكن في مضمونه فقط بل كان في نطمه القائم على "التوازن" المعجب بين مضمون الآيات في ذاتها وبينها وبين شكلها. |
ب- مدى "توازن" النص مع المنشىء والمتلقي، فكلما وافق الكلام مقتضى الحال، كان في رأيهم جميلاً. |
|