(د)- "النظام" وجمال الموسيقى الأدبية |
مما مرّ وجدت أن "النظام" الذي هو عنصر "التوازن" الذي تقوم عليه عملية الترتيب في التأليف هو سر جمال النص. فهل يدخل "النظام" في عملية النغم الموجودة في الشعر؟ والذي يسميها "د. إبراهيم أنيس": موسيقى الشعر ويقول عنها: "وللشعر نواحٍ عدة للجمال، أسرعها إلى نفوسنا ما فيه من جرس الألفاظ وانسجام في توالي المقاطع وتردد بعضها بعد قدر معين منها، وكل هذا نسميه موسيقى الشعر"
(1)
. وإذا كان "النظام" يدخل في عملية التأليف، وتقوم عليه عملية ترتيب الكلمات، فهو في الموسيقى الشعرية أظهر، ويحس به كل سامع للشعر، بل يدركه الطفل قبل إدراكه للمعاني. يقول "د. إبراهيم أنيس": "ويدرك الطفل ما فيه – أي الشعر – من جمال الجرس قبل أن يدرك ما فيه من جمال الأخيلة والصور، ويعزو بعض رجال علم النفس الموسيقي مثل هذه الظاهرة إلى أن الطفل جزء من نظام الكون العام، وكل مظاهر الطبيعة منتظمة منسجمة، فلا غرابة أن يميل الطفل إلى كل ما هو منتظم منسجم من الكلام"
(2)
. |
فإن صدق كلام علماء النفس الموسيقي من أن الإنسان يميل إلى كل ما هو منظم منسجم، فهذا يدل على ميلنا إلى سماع الشعر، بل إلى سهولة حفظه أيضاً، لأن النغمة تساعد الإنسان على توقع كلمات معينة تنسجم مع الإيقاع العام للقصيدة. |
يؤكد هذا بقوله: "والكلام الموزون ذو النغم الموسيقي يثر فينا انتباهاً عجيباً، وذلك لما فيه من توقع لمقاطع خاصة تنسجم مع ما نسمع لتتكون منها جميعاً تلك السلسلة المتصلة الحلقات التي لا تنبو إحدى حلقاتها عن مقاييس الأخرى، والتي تنتهي بعدد معين من المقاطع بأصوات بعينها نسميها القافية. |
فنحن نسمع بعض مقاطع الشعر ونتوقع البعض الآخر، وذلك حين نمرن المران الكافي على سماع هذا النظام الخاص في مقاطع الوزن... ومثل الوزن في هذا مثل كل شيء منظم التركيب منسجم الأجزاء يدرك المرء بسهولة سرّ توالي أجزائه وتركيبها خيراً مما يدرك المضطرب الأجزاء الخالي من النظام والانسجام"
(3)
. |
من النص السابق استنبطت أن "التوازن" لا بد أن يقوم على "النظام"، بمعنى آخر: إن موسيقى الشعر تقوم على "توازن" معين بين التراكيب والأجزاء. وهذا "التوازن" هو ما يسميه د. أنيس "النظام". بدليل أنه لو أصيبت المقاطع باضطراب من أي نوع، لصارت نشازاً في أذن السامع، ولما استطاع أن يتوقع الكلمات كما كان يفعل مع النغم المتوازن. |
ويعرف "د. منصور عبد الرحمن" الشعر بأنه: "إيقاع ونغمات في إطار من اللغة، وموسيقى أبيات الشعر والنثر الفني ترجع إلى اختيارها وإلى مطابقتها لنغمات والعروض والأوزان وتكرار النغم أو تضاربه وإلى التنظيم الدقيق القوي الذي نجده في مقاطعها، ومن هنا كان تغيير كلمة أو حرف أو حركة يؤدي إلى الخلل وإلى فقدان الإيقاع الجمالي المنشود. والإيقاع هو جوهر الشعر، أي ذلك التوقيع المنتظم الذي نحسه في كلمات البيت، أي نظام الحركات مراعى فيها التماثل والتكرار، فالوزن والإيقاع الشعري يحصل نتيجة تلاقي مجموعة من أصوات الحروف وتناسقها على مختلف درجاتها الصوتية، وأي إخلال بالإيقاع هو إخلال بموسيقى الشعر"
(4)
. |
والنص يبين أثر النظام و "التوازن" الموسيقي في جمال الشعر، فالكلمة الشعرية أو النثرية المختارة على أساس من "التوازن" بين أصوات حروفها الموضوعة بنظام معين مراعى فيه الترتيب المعنوي، وتجانس أصوات حروفها مع ما قبلها وما بعدها، من أجل إيجاد ذلك الإيقاع، ولذلك قال: "ومن هنا كان تغيير كلمة أو حرف أو حركة يؤدي إلى الخلل وإلى فقدان الإيقاع الجمالي المنشود". |
وهذه العملية وهي اختيار الكلمات بدقة وإخضاعها لنغم "متوازن" عملية ليست بالهينة إلا على الموهوبين أو المطبوعين على قول الشعر، بحيث تفرغ عواطفهم وانفعالاتهم مباشرة في كلمات معينة ذات نغم معين يتوازن مع تلك المشاعر والانفعالات المتنوعة، وكان هذا سبب اختلاف بحور الشعر. |
و"لكولوردج" كلام بهذا الشأن يعلق عليه "د. محمد زكي العشماوي": "ومصدر الوزن عند "كولوردج" هو: العاطفة أو الانفعال، بمعنى أن الذي يختار الوزن الشعري انفعال الشاعر نفسه، فعندما تثور في نفس الشاعر عاطفة جياشة يلجأ إلى الوزن أو إلى الموسيقى لأنها أقرب الوسائل للتعبير عن العواطف المشبوبة، ولأنها هي الأخرى بدورها أكثر الوسائل قدرة على تبليغ العاطفة وإثارتها عند القارئ أو السامع، على أن الوزن الذي هو وليد الانفعال والعاطفة المشبوبة بحاجة إلى أن يفرض عليه الشاعر درجة من "التوازن" وهنا تتدخل الإرادة التي تستطيع أن تحول العاطفة الثائرة المشبوبة عند الشاعر إلى إيقاع محدد خاضع لنظام وليس مجرد تفجر عاطفي غير خاضع لسيطرة الإرادة. ومن ثم لا يتحقق الوزن في الشعر إلا نتيجة لدرجة من "التوازن" بين العاطفة والإرادة"
(5)
. |
وهكذا يقرر "كولوردج" أنه لولا النظام لما ترجمت العواطف المشبوبة عند الشاعر إلى كلمات موسيقية، ولكي يتحقق النظام المنشود لا بد من "التوازن" بين العاطفة والإرادة، وهكذا يؤدي الاثنان -النظام والتوازن- دوراً كبيراً في عملية الإبداع الفني. |
ثم إن النظام عندما يتحقق في الشعر فإنه ينساب إلى داخل السامع فيحس به مباشرة، فإذا كان السامع مضطرباً هدأ وسكن، لأن النغمة المنتظمة لها أثر كبير على السامع، وإن كان السامع ساكناً هادئاً أحدثت تلك النغمة المنتظمة انفعالات "متوازنة" معها تماماً، فإذا ما تشبعت منها النفس تماماً وجدت أثر تلك النغمة في هزات جسمانية منسجمة مع النغمة تماماً. |
ويعلق على ذلك الأثر "د. إبراهيم أنيس" بقوله: "فإذا سيطر النغم الشعوري على السامع وجدنا له انفعالاً في صورة الحزن حيناً، والبهجة حيناً آخر والحماسة أحياناً، وصاحب هذا الانفعال النفسي هزات جسمانية معبرة ومنتظمة نلحظها في المنشد وسامعيه معاً"
(6)
. |
وهذا الأثر يظهر بوضوح عند إلقاء الشعر النبطي وخاصة عندما ينشد بشكل جماعي، وهذه الهزات الجسمانية ما هي إلا أثر للنغم المنتظم الذي يحدثه الترصيع في الأبيات ينتهي الشطر الأول من الأبيات بحرف واحد مختلف عن حرف القافية. |
مما سبق توصلت إلى أن النظام يتدخل تدخلاً كبيراً في عملية الحكم الجمالي للنص، فلا يحكم بجمال نص أدبي إلا وجدت أثر النظام في ذلك النص. هذا – وإن النظام يعمل في النص الفني من ناحيتين: |
1- النظام يتدخل في عملية ترتيب الكلمات وفق ترتيبها في النفس فإذا اختل النظام تغير المعنى وقبح النص. |
2- النظام يتدخل في عملية موسيقى النص فبه تختار الكلمات من جهة أصواتها وبه ترتب هذه الكلمات بطريقة معينة بحيث تؤدي في النهاية إلى إحداث إيقاع معين. |
ثم إن "معيار التوازن" المنشود في العمل الفني لا يقوم إلا على النظام، بمعنى آخر أن كل ما هو "متوازن" فهو منظم، وليس كل منظم متوازناً. |
وهذه الحقيقة هي أساس الجمال في الكون والحياة. في الماديات والمعنويات، وفي الإنسان جسداً وروحاً. ولذلك قال الشيخ "محمد قطب": |
"ومن ثم يتعين الجمال في الحياة الإنسانية بصفة عامة: أنه نظام"
(7)
. |
|