3- التوازن بين الشكل والمعنى: |
هذا مبحث جليل أفاض فيه البلاغيون والباحثون بمسميات كثيرة وسأشير إلى هذا في موضعه من الفصل اللاحق. |
وحسبي هنا بعض الإشارات لوجود قيمة "التوازن" في شكل الآيات الكريمة. |
يقول الله تعالى: |
- هُوَ الأَوَّلُ وَاْلآخِرُ وَالْظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِ شَيءٍ عَلِيمٌ
(1)
. |
- وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالْشَّمْسَ وَالقَمَرَ
(2)
. |
وعلى هذا النحو تشتمل آيات كثيرة على الطباق والمقابلة ومراعاة النظير وغيرها مما هو أمس رحماً وأليق شبهاً بمعيار "التوازن" في جوانب من دلالاته وآثاره. |
وفي مقال للمرحوم "السباعي بيومي"، عن إعجاز القرآن يتحدث فيه عن "التوازن" في شكل الآيات القرآنية يقول: "ومن "التوازن" في شكل الآية: انسجام اللفظ مع اللفظ في القرآن، وأن يأتي بالجمل متلاصقة ذات تساوٍ في الرنة، وصلة في المعاني مع الصلاحية للانفصال كقوله تعالى: |
- تُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي الَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ
(3)
. |
هذا "التوازن" بين اللفظ واللفظ أدى إلى جعل كل سورة من سور القرآن تسير وفق إيقاع معين يأخذ بالقارئ من أول آية إلى آخر آية. ولقد جاء القرآن الكريم بهذا الانسجام البالغ موسيقى الألفاظ، حتى لنرى الحروف في الكلمات، والكلمات في الجمل والجمل في الآيات يتحدر بعضها وراء بعض حين النطق تحدر الماء المنهمر من الحزون إلى السهول، ومن ثم سهل حفظه وترداده على الأحداث، وإن من أنصع الأدلة على موسيقيته، مجيء كثير من آياته على "موازين" الشعر غير مقصود فيه إنما جاء كذلك من قوة انسجامه وشدة تعاشقه، كألحان الموسيقى لا تزال "يوازن" بعضها البعض حتى تكون كلاً منسجم المواقع حسن الرنين"
(4)
. |
ومن "التوازن" بين ألفاظ الآية يقول تعالى: |
- وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ
(5)
. |
ويقول: وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مَنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وإِيَّاهُمْ
(6)
. |
فالمعنى العام في الآيتين هو النهي عن قتل الأولاد خشية إملاق لكن بتدبر كل من الآيتين نجد في الآية الأولى الرزق ينصرف إلى الأولاد فالوالدين. |
وفي الثانية ينصرف إلى الوالدين فالأولاد، فما الحكمة في تقديم الأولاد في الأولى وتأخيرهم في الثانية؟. |
الحكمة -والله أعلم- هي أن الإملاق لما يقع بعد، وإنما كان القتل خشية منه عند وقوعه في المستقبل، فناسب ذلك تقديم الأولاد على الوالدين "توازناً" مع الخشية. |
أما الآية الثانية: فالإملاق حادث، وكأنما شعروا أن ولادة الأولاد تضيف إلى أعبائهم عبئاً، ومن ثم ناسب تقديم الوالدين على المولودين، وقد سمى "السباعي بيومي" ذلك "التوازن" بدقة الألفاظ وانسجامها، وشرحه قائلاً: "قاصدين بالدقة إحكام الاستعمال والانسجام قصداً عاماً يشمل ما بين اللفظ واللفظ كما يشمل ما بين اللفظ والمعنى، فاللفظ في تركيبه تعاشق وانسجام إلى الألفاظ، كما له هذا إلى المعاني الجزئية له العامة التركيب"
(7)
. |
ومن هذا "التوازن" أيضاً "التوازن" في السلوك بين العزة والذل. يقول الله تعالى: |
يآ أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أّذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ
(8)
. |
لا يتحقق "التوازن" للمسلم في أن يلازم حالة واحدة من العزة أو من الذلة، ولا يكون توسط في أي منهما، بل "التوازن" في العزة فيما يقتضيه مقام الكفار، والذلة فيما يقتضيه مقام المؤمنين. |
ذلك هو "التوازن" الذي تمليه الحركة الإيجابية مع الموقف ومعايشته بيقظة وفاعلية. |
وهذا "التوازن" الداخلي بين معاني الآية يصاحبه "توازن" آخر في الشكل، نلحظه بين "أعزة" وحروفها ذات إيقاع قوي يناسب مقاومة الكفر، وعدم الإذعان له، وبين "أذلة" ولحروفها جرس رقيق يناسب طبيعة العلاقة بين المؤمنين وما يجب أن تحمله من ملاينة ومسامحة، ومثل ذلك "التوازن" ما يلحظ في قوله تعالى: |
- أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ
(9)
. |
أما المتلقي فإنه واجد من هذا "التوازن" بنوعيه، في المعنى والشكل غدقاً من الإحساس بالجمال، وسكباً من السكينة يملآن نفسه نوراً وقوة
(10)
. |
وحسبي هذه الشواهد دليلاً على وجود هذا المعيار في القرآن الكريم، وإذا كان القرآن هو الذروة العليا بلاغةً وجمالاً وتأثيراً على العقل والقلب كان معنى ذلك سلامة المعيار وصحته فنياً. |
وبعدما فرغت في هذا الفصل من شرح معيار "التوازن" وتأصيله أرى أن ضرورة المنهج العلمي للبحث يحدوني إلى عقد الصلة أو تباينها بين "التوازن" -باعتباره معياراً عاماً- وبين الأداء الفني باعتبار "التوازن" معياراً جمالياً فنياً وهذا هو موضوع الفصل اللاحق. |
|