2- التوازن بين المعاني في طائفة من الآيات وطائفة أخرى: |
ومنه "التوازن" مع المقام في كيفية أداء العبادات: |
إنه ليروعني الإسلام بعظمته وسماحته ويسره، كلما تعمقت النظر في منهجه العام، إن فيما يخص شؤون العبادة، وإن فيما يتعلق بالأفراد، فهي لا تخرج جميعها عن "التوازن" المنشود. ففي أداء ركن الصلاة يقول تبارك وتعالى: |
- حَافِظُواْ عَلَى الْصَّلَوَاتِ والصَّلَوةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ
(1)
. |
هذه الآية وكثير غيرها من الآيات تنبه المسلم إلى أهمية الصلاة، وأهمية المحافظة عليها والقيام بها. |
لكن ما الشأن حين يحيق بالمسلم أي ضرب من ضروب العجز عن أدائها بالصورة التي شرعت بها؟. |
هنا أجد "التوازن" مع المقام والحالة بالشكل الذي يحرك في النفس كل مشاعر الرضى والإعجاب والخضوع لله. |
يخاطبنا الله تبارك وتعالى من خلال الآية الكريمة: |
- فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً
(2)
. |
فتخفيف القيام في الصلاة إلى المشي بها أو أدائها وهم ركوب، حالتان تتناسب وحالة الخوف من الأعداء وعدم الشعور بالأمان. |
فإذا نظرت إلى كيفية الأداء ذاتها ألفيت أمر "التوازن" واضحاً جلياً لا يحتاج إلى بيان. |
فالقرآن الكريم يقول عن صفة المؤمنين أنهم: |
- الَّذينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وقُعُوداً وَعَلى جُنوبِهِمْ
(3)
. |
وثبت في الصحيحين عن "عمران بن حصين" أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: صلِّ قائماً فإن لم تستطعْ فقاعداً، فإن لم تستطعْ فعلى جنبك
(4)
. |
"فالتوازن" هنا مدعو إليه، لأنه رخصة، والله يحب أن تؤتى رخصة، فهي في الأساس "توازن" مع الموقف لئلا يكون تجاوزاً لحدود الطاقة. |
وأعيد ما قاله "د. عبد الله دراز" عن كيفية التعامل مع رخص الله بقوله: |
"فمن استعمل هذه الاستثناءات بروح النظام والموافقة الكلية لا على سبيل الترف والتفريط – فإنه يرتقي إلى ما فوق مرحلة براءة العوام، وهو يبرهن بذلك على تواضعه، وخشوعه أمام الله، حين يقر بعدالة كل إجراء رحيم من لدنه، باعتباره تلطفاً إلهياً بضعفنا الإنساني. |
وبعكس ذلك، فإن من يزعم لنفسه القوة على تحمل المشقة، وعلى التزام الإجراء الصارم، الذي يتقرر في الظروف العادية أوشك أن يقول لله: "إنني أستطيع أن أستغني عن رحمتك"
(5)
. |
ويقول عن ذلك "التوازن" مع المواقف: "ومع ذلك فإن الجوانب كلها ليست متساوية النصيب في التكليف، ففي ظرف معين يمكن إغفال هذا الجانب وفي ظرف آخر يمكن إغفال ذاك وهكذا من الممكن أن نغفلها جميعاً، ما خلا واحداً على وجه التحديد هو الأساس والمحور
(6)
، وفي مجال الإنفاق أجد نفس المنهج "المتوازن" الذي يتعايش مع الموقف. فبعض الآيات أجدها تحضّ على الإنفاق وتنفر من الشح مثل قوله تعالى: |
- وَأنفِقُوا في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين
(7)
. |
- وَإذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللهُ أَطْعَمَهُ
(8)
. |
- وَالذِّين يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
(9)
. |
- وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(10)
. |
ثم أجد آيات تنهى عن التبذير وتنفر منه مثل قوله: |
- وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إنَّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّياطِينِ وَكَانَ الْشَيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً
(11)
. |
بعد ذلك تأتي الآيات التي تحضّ على "التوازن" في الإنفاق، مثل قوله تعالى: |
- وَالَّذِينَ إَذَآ أَنْفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً
(12)
. |
- وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُورًا
(13)
. |
- لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتاهُ اللهُ
(14)
. |
بعد استعراض هذه الآيات، وجدت أن العبرة بالمقام ومقتضياته في الإنفاق فالتنفير من الشح يناسب البخيل الممسك، والتنفير من التبذير يناسب و"يوازن" المتلف، وبهذا تكون كل آية في ذاتها على حدة متوازنة مع الموقف الذي يقتضيها، أما السلوك الأمثل -ما لم يكن المقام مقام شح أو تبذير- فهو "التوازن"، فلا نُسْرف ولا نقتِّر، ولا نجعل أيدينا إلى أعناقنا ولا نبسطها كل البسط. |
وكما سارت عليه الآيات في ميدان الإنفاق من دعوة إلى الإنفاق والبعد عن الشح، ثم التنفير والتحذير من الإسراف ثم الدعوة الصريحة إلى "التوازن". |
أجد نفس المنهج يستخدم في مناسبات أخرى، مثل معاملة المسيئين بوجه عام: فبعض الآيات أجدها تحض على الصبر في معاملة المسيء، وبعضها تحض على مواجهة السيئة بالسيئة، فمن الحض على الصبر قوله: |
- لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُم وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُواْ فإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ
(15)
. |
- ادْفَعْ باْلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
(16)
. |
- وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُم سِراً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ
(17)
. |
- ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ
(18)
. |
ويعلق "سيد قطب" على الدعوة إلى الصبر ومقابلة السيئة بالحسنى بقوله: |
"كان الذين يتولون إيذاء الفرد المسلم هم خاصة أهله إن كان ذا نسب، كما كان السادة يؤذون مواليهم إلى أن يشتريهم المسلمون، ولم يكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يحب أن تقع معركة بين الفرد المسلم من هذا البيت والذين لم يسلموا بعد، ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة نخوة تثور لصاحب الحق الذي يقع عليه الأذى، واحتمال المسلمين للأذى وصبرهم على عقيدتهم كان أقرب إلى استثارة هذه النخوة في صف الإسلام والمسلمين، وهذا ما حدث بالقياس إلى حادث الشَّعْب. ومنها أن "التوازن" في الشخصية الإسلامية كان يقضي كبح جماح هذا التوفز الدائم وإخضاعها لهدف، وتعويدها الصبر وضبط الأعصاب. مع إشعار النفوس باستعلاء العقيدة على كل نزوة وعلى كل مغنم، ومن ثم كانت الدعوة إلى الصبر على الأذى متفقة مع منهج التربية الذي يهدف إلى "التوازن" في الشخصية الإسلامية وتعليمها الصبر والثبات والمضي في الطريق"
(19)
. |
فإذا انتقلت من هذه الآيات إلى طائفة أخرى اختلف فيها أسلوب المواجهة، تحققت أيضًا من وجود "التوازن" التام فيها مع الموقف، ثم من "التوازن" بينها وبين الطائفة الأولى يقول الله تعالى: |
- وَالَّذِينَ إَذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَآؤُا سَيِّئةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأصْلَحَ فأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالمينَ * وَلَمَنِِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِن سَبِيلٍ
(20)
. |
- وَإِنْ عَاقَبْتُم فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ
(21)
. |
- فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ
(22)
. |
فالناس ضربان، فظ غليظ، وضرب غير ذلك، فإذا كان المعتدي من الضرب الأول فمن التوازن مع الموقف عقوبة بالمثل، وإن لم يكن كذلك فقد يكون من التوازن مع الموقف مسامحته، والعفو عنه، والصبر عليه، لعل ذلك يرده آخر الأمر إلى البر والتآلف، وربما يصير ودوداً. |
|