شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمـــة
الحمد لله الذي قال في كتابه المحكم: إنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَهُ بِقَدَرٍ (1) وقال: وَالأَرْضَ مَدَدْنَهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَىْءٍ مَّوْزُونٍ (2) . وطلب إلينا أن نستهديه في كل صلاة، في كل ركعة منها ليهدينا إلى الصراط المستقيم؛ الذي لا إفراط فيه ولا تفريط اْهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (3) ؛ القرآن الكريم ومنهج الدين الحنيف، ليتم لنا الانتظام والانسجام في عبادة الله، فتحقق لنا القوة والجمال، في حياتنا الفردية والجماعية، وفيما يصدر عنا من علم وفن فنصير بذلك جديرين بخلافة الله في الأرض.
والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي كان بيانه الشريف شرحاً عملياً لمنهاج الدين الحنيف؛ منهاج "التوازن" والعدل والاستقامة، فصنع به أمة وصنع للأمة تاريخاً، فشادت حضارة، ظلت حضارة الإخاء والأمن والعزة ما استمرت على هديه صلى الله عليه وسلم بوعي وحكمة.
وبعد...
فقد كثر الاهتمام في الوقت الحاضر بمعيار "التوازن" في الشرق والغرب، في مجالات مختلفة، في الاجتماع والاقتصاد، في الزراعة والتجارة، في العلاقات بين الدول بعضها ببعض، بل في ظواهر الكون والطبيعة تنقيباً واستنباطاً، باعتباره قانوناً كلياً شاملاً وسنة من سنن الله مطردة في الكون والطبيعة والإنسان، ومعياراً جمالياً تقاس به الفنون قاطبةً ومنها فن القول.
فكان هذا الاهتمام جديراً أن يلفتني إليه، وأن أطيل التأمل فيه تجاوباً مع الاتجاه في التفكير فيه، ثم أعانني على تحديد هذا الاهتمام وتركيزه ظهور بعض الدراسات الحديثة التي أشرت إليها في التمهيد – حول "التوازن"، ومحاولة بعضها الربط بينها وبين الجمال الفني.
كما كان للمحاضرات التي ألقاها أستاذي أ.د. "محمود فياض" في السنة التمهيدية حول "التوازن" والبيان النبوي أيضاً أثرها الجلي الحميد في تعميق شعوري بهذا المعيار وشحذ اهتمامي به.
لقد جذب انتباهي هذا الربط بين معيار "التوازن" والجمال الفني، واستحوذ على تفكيري وتوقعت أن تكون دراسة أدبية على هذه الشاكلة تتناول أي موضوع أدبي في إطار هذا المنهج – توقعت أن تكون جديرة بفتح أفق جديد للدراسات الأدبية بعامة، لا سيما في نطاق الأدب الإسلامي الذي يستشرف له الآن كثير من الباحثين في أرجاء العالم العربي، وتعقد له الندوات والمؤتمرات، وتنشأ حوله الكتب والمقالات.
من هذا المنطلق الذي أشرت إليه، آثرت أن يكون الموضوع الذي تعلقت به رغبتي في دراسة الماجستير هو:
التوازن معيار جمالي تنظير وتطبيق على الآداب الاجتماعية في البيان النبوي
الشق الأول منه: دراسة المعيار ومحاولة تنظيره.
أما الشق الثاني: فيتمثل في دراسة تطبيقية لهذا المعيار على الجوانب الاجتماعية في البيان النبوي.
يقتضي مني الشق الأول – كما تصورت وصولا للهدف من البحث – تحديد هذا المعيار تحديداً دقيقاً واضحاً، وجلاء مفهومه في التصور الإسلامي، وتبيان ملامحه وإظهار الفرق بينه وبين المفهوم الإغريقي. وتعيينه على هذا النحو لا محيد عنه لتأصيله وتعميمه وإزالة اللبس عنه عند التطبيق.
أما الشق الثاني: وهو دراسة تطبيقية فاخترت لها البيان النبوي، لأن "التوازن" لما كان صميم المنهج الإسلامي ولبه في كل شيء – كما أفصحت عن ذلك دراسات كثيرة – كان أخلق بالبيان النبوي وهو الشرح العملي لهذا المنهاج الذي يدعو المسلم فرداً وجماعة في كل العصور والأزمنة، كان أخلق أن يستهدف به العقل والروح والسلوك والعلاقات، وكان أخلق بالبيان النبوي أن يكون تطبيقاً لهذا المنهاج، وأن يستنبط منه أيضاً، ويدل عليه في القيم التي يشتمل عليها، وفي الألفاظ والتراكيب والجمل التي تحمل هذه القيم؛ لأن المباني مع الصدق في الأداء، تكون صورة لمعانيها أي متوازنة في ذاتها، متوازنة مع هذه المعاني، وبهذا تكون الذروة العليا للجمال الفني.
أما النطاق الذي اخترته مجالاً لتطبيق هذا المعيار في إطار البيان النبوي فهو: الآداب الاجتماعية. وأعني بها ما يمس سلوك الفرد وعلاقاته بمن حوله جماعة أو مجتمعاً؛ لأن الآداب في هذا المجال أمس رحماً بالأدب وبوظيفته وبالدراسات الأدبية. حقاً إن كل ما يتضمنه البيان النبوي ينتهي إلى هذه الآداب سواء ما يتصل بالعقيدة أو العبادات أو غيرهما. فالصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها لكل منها جانب من الآداب لا يتم أداؤها أداءً كاملاً إلا برعايته. فمثلاً في الصلاة نبهنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنه من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له (4) .
وفي الزكاة قال تعالى: يَأَيُّهاَ الَّذينَ ءَامَنُوا لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى (5) ، وفي الصوم ينبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن الصيام ليس من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد، أو جهل عليك، فقل إني صائم (6) ، وفي الحج يقول تعالى: فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ في الحَجِّ (7) وكل ذلك جوانب اجتماعية تتصل بحياة الفرد والجماعة.
غير أنني اقتصرت على الآداب الاجتماعية بمفهومها المحدود المتصل بأحوال الإنسان في ذاته أو بعلاقاته بمن حوله تحديداً للبحث.
كما أنني اعتبرت هذا من جوهر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: إنما بُعثت لأتممَ مكارم الأخلاق (8) .
اعتبرتها من ناحية ثانية من صميم رسالة الفن عامة والأدب خاصة.
إن ارتباط هذه الآداب في البيان النبوي بمعيار "التوازن" يشير إلى المسؤولية الجسيمة التي يتحملها الفنانون على اختلاف وسائلهم بالنسبة لمناشط البشر وحضاراتهم.
إن تحرف الحضارة أو الغلو في ناحية من نواحيها، ينطوي على عواقب وخيمة بالنسبة للحضارة نفسها ولأصحابها تبعاً. إن الحضارة التي تفقد توازنها تشيخ أو تدمر نفسها بنفسها، وغالباً ما تكون الفنون وراء فساد الحضارة إن في شيخوختها وإن في قوتها وحيويتها، وربما يكون هذا سبباً من أسباب نفور بعض فقهاء المسلمين من بعض الفنون. وكم نبهتني هذه النتيجة إلى تمثل منهاج "التوازن" في البيان النبوي، وما ينجم عن ذلك من إشعاعه بجمال لا ينضب، ولا يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأذواق، جمال يرتقي الإحساس به ويزداد كلما تيسرت وسائل إدراكه من بصيرة مستحكمة، ومن تمرس بأساليب البيان العربي الفصيح.
إن البيان المنبعث من الشعور "بالتوازن" سواءٌ بالنسبة للقيم التي يتضمنها الحديث النبوي، أو الألفاظ والجمل التي تدل على هذه القيم، لا يتمثل في أي بيان باطراد إلا لمن اصطفاهم الله، وتلك خاصية أخرى تؤكد الفوقية للبيان النبوي. على أن تقديري لهذه الخاصية لا ينفي القيم الجمالية الأخرى التي حدّدها النقّاد والبلاغيون القدامى والمحدثون، إلا أن "التوازن" في تصوري يتصدر كل القيم الجمالية.
ومن هنا فإدراكه وذوقه لا يتأتيان إلا بحشد كبير من وسائل الخبرة والمعرفة، ووعي وفطنة مع إلهام وبصيرة مستنيرة.
ولا غرو بعد ذلك أن يصير من أهدافي في هذا البحث – إضافة للهدف السابق – وضع لبنة متواضعة لبناء منهج نقدي نابع من تصورنا الإسلامي للإنسان والحياة والكون، يضيف إليها بقية الدارسين لبنات أخرى ترفع من صرح الأدب الإسلامي إنشاءً ودرساً. وبناءً على ما سبق فالموضوع يقوم أساساً على جانبين اثنين:
أ - شرح مفهوم التوازن في الرؤية الإسلامية، وصلة هذا المفهوم بالجمال الفني.
ب- تطبيق هذا المفهوم على الآداب الاجتماعية في البيان النبوي.
ولكي أصل إلى هذه الغاية التزمت بخطة رجوت الله أن ييسر لي من خلالها ويعينني على تحقيق ما توخيته.
وتتضمن هذه الخطة: مقدمة وتمهيداً وثلاثة فصول، كل فصل منها يشتمل على مباحث وأخيراً خاتمة تشتمل على نتائج الدراسة.
التمهيد: نظرت منه إلى ما تيسر لي من الدراسات السابقة للموضوع أسترشد بها، وأعيّن مكاني منها.
الفصل الأول: وهو بعنوان "التوازن منهجاً عاماً":
وقسمته إلى ثلاثة مباحث تعرضت في الأول منها إلى: معنى "التوازن" لغة حيث وضحت الفرق بينه وبين بعض المترادفات اللغوية، مبينة سبب اختياري لمصطلح "التوازن"، ثم شرحت معنى "التوازن" في الاصطلاح عند فلاسفة الإغريق وعلماء مع بيان نقاط التشابه والاختلاف بينهما. ولأن مجال التطبيق هو الآداب الاجتماعية في البيان النبوي ألزمني هذا إلى إيجاز القول عن "التوازن" مع المواقف في المفهوم الإسلامي كيفيته وحده وملامحه وانعكاسه على طريقة الأداء.
أما المبحث الثاني: فقد جعلته خاصاً بعرض مظاهر "التوازن" في الكون والطبيعة قصداً إلى تبيان شمولية "التوازن".
والمبحث الثالث: خصصته بدراسة معيار التوازن في آيات القرآن الكريم، مستأنسة بشواهد منه برهاناً على وجود هذا المعيار عنصراً أصيلاً في منهج القرآن.
الفصل الثاني: وهو بعنوان "التوازن والجمال الفني".
لقد دار بحثي هنا على كل ما يؤصل معنى "التوازن" ويحقق علاقته بالجمال النفسي في الأدب لذا خصصت المبحث الأول بعرض مفهوم الجمال الفني عند فلاسفة الإغريق ثم علماء الغرب وأخيراً المسلمين.
ومن خلال قراءاتي حول الموضوع، وتصوري أن "التوازن" هو القيمة الجمالية العليا، والدليل على تكامل العمل الفني، ولا يتحقق وجوده إلا باكتمال المقومات الجمالية الأخرى، كان لا بد لي أن أبحث عن تلك المقومات. وكان أن لحظت علاقة وثيقة بين "التوازن" والنظام في أي عمل فني.
وبناء على ذلك كان لا بد لي من مبحث، أبحث فيه تلك العلاقة مستهدية في ذلك بآراء بعض الجماليين في الشرق والغرب.
وحتى أصل إلى ما يؤصل علاقة "التوازن" بالجمال الفني في الأدب العربي، جعلت المبحث الثالث خاصاً بعرض بعض آراء نقاد العرب حول النص الأدبي الجميل، ودراسة الأمور التي تتعلق بالحكم الجمالي على النص الفني.
ولاستكمال حدِّ "التوازن" باعتباره معياراً جمالياً، كان لا بد لي من الرجوع إلى علوم البلاغة، وتتبع أثر المعيار في بعض الفنون البلاغية، وبيان علاقته بجمال تلك الفنون أو قبحها، وجوداً أو عدماً. فكان أن خصص المبحث الرابع لدراسة "التوازن" وعلوم البلاغة.
وحيث إن الدراسة التطبيقية على دراسة البيان النبوي مضموناً وشكلاً، كان لا بد لي من مبحث مخصص لدراسة اللغة في فقهها ونحوها وصرفها، وصلة معيار "التوازن" الجمالي بالتركيب اللغوي. فكان المبحث الخامس منصباً على تلك الدراسة.
ومن الدراسات الوثيقة الصلة بـ "التوازن" الدراسات العروضية لذا وجدت أنه من دواعي استكمال المنهج أن يكون هناك مبحث خاص بذلك فكان المبحث السادس.
الفصل الثالث: وهو بعنوان: تطبيق معيار "التوازن" الجمالي على البيان النبوي:
ولكي أصل البيان النبوي بصاحبه صلى الله عليه وسلم، كان لا بد لي من دراسة "التوازن" في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم خَلقاً وخُلقاً، ثم دراسة أثر ذلك "التوازن" على بيانه، وذلك ما خصصت به المبحث الأول في هذا الفصل.
أما المبحث الثاني: فكان للدراسة التطبيقية، وقد كانت الدراسة عبارة عن انتخاب بعض الأحاديث النبوية التي تتمثل الآداب الاجتماعية، وليست استقصاء لكل الأحاديث. كما كانت الدراسة تعتمد على الأحاديث التي تقوم على البيان – أي أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وليس أفعاله أو إقراره – لأن البيان هو الذي ينصب عليه الجانب الجمالي التطبيقي لهذا البحث.
هذا البيان الذي انتخبته كان يمس علاقة الفرد بالله عز وجل لأني أتصور أن أساس سلوك الفرد الاجتماعي في أي حضارة نابع من تصورها العقائدي.
ثم ما تعكسه تلك الحضارة على آدابه في ذاته، ثم آدابه مع من حوله. لذا كانت دراستي لعلاقة الفرد بالله، وأثر تلك العلاقة على توازنه مع مجتمعه. كل ذلك من خلال تحليل كل حديث على حدة، بدراسة مضمونة لاستخلاص قيمة "التوازن" الجمالية في المضمون. ثم دراسة شكله مستحضرة ما قاله البلاغيون في الفصاحة والبيان البديع؛ للوصول إلى أثر معيار "التوازن" الجمالي على شكل الحديث.
الخاتمة: وتشمل على نتائج الدراسة.
وإني لأحمد الله العلي القدير الذي أعانني على السير في هذه الخطوات إلى أن اكتمل هذا البحث واستوى على سوقه.
وأتوجه بالشكر إلى أستاذي الجليل الدكتور محمود فياض، الذي سهر على دراسة هذا البحث، ووهب لي وقتاً يفوق الوقت المخصص لي بكثير، ولم يتوانَ أبداً عن تقديم المشورة لي حتى في أيام مرضه، فكان يحضني على الاتصال به لمتابعة سير العمل في ذلك البحث. فجزاه الله عني خير الجزاء ووهبه الصحة والعافية وأعانه على تأدية رسالته حتى النهاية.
كما أتوجه بالشكر الجزيل والامتنان العظيم إلى:
- جامعة أم القرى بمكة المكرمة.
- كلية اللغة العربية / قسم الدراسات العليا.
وآخر دعوانا أن "الحمد لله رب العالمين"
غادة عبد العزيز الحوطي
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1630  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 2 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.