المقَالة العشرون |
خََاتمَة المطافْ |
في شعر البهاء زهير لمحات فنية تفيض بالرقة في عاطفة متأججة بالحب الصادق والشعور السامي، اختار لها كما قيل عنه الأوزان الموفورة الحظ من الموسيقى وهو يختار لهذا الاتجاه من الأوزان لينتقل بالقارىء إلى جو موسيقي رائع تنساب فيه النغمات في لفظ عذب رقيق ومعنى سام كريم يختلف عن شعره في المديح اختلافاً بيناً واضحاً فمن ذلك قوله عن حبيب جفاه وغدر به واتخذ غيره حبيباً له، فهو يبدي شكواه في ألم ويعتب عتباً مثيراً يفيض بحرارة الشوق في نغم موسيقي رائع وشعر جذاب رقيق، يسبح مع النغمات في جوها الرائع البديع وهو لا يأتي هذا تكلفاً ولا يبديه اصطناعاً، وإنما يأتي هذا عن طبيعة تكاد تبرز في شعر البهاء زهير عندما يشكو ويعتب ويناجي طيف هواه: |
هو حظي قد عرفته |
لم يحل عما عهدته |
فإذا قصر من أهـ |
ـواه في الود عذرته |
غيرَ أنْ ليَ في الحـ |
ـبِ طريقـاً قـد سلكتُـه |
لو أراد البعد عني |
نور عيني ما تبعته |
إن قلبي وهو قلبي |
لو تجنى ما صحبته |
كل شيء من حبيبي |
مـا خـلا الغـدر احتملتـه |
أنا في الحب غيور |
ذاك خلقي لا عدمته |
|
وقد اختار في هذه القصيدة مجزوء الرمل حيث أسقط تفعيلة أخيرة من كل شطر ويسمى العروضيون هذا الوزن مجزوءاً في البحور. |
وفي القصيدة التالية جاء بوزن مجزوء الوافر، وهو يأتي بهذه الأوزان الخفيفة ليطالعنا بقدرته الفنية في إخراج أوزان تنساب فيها النغمات العذبـة في جوها الموسيقي الحافل بالألحان الشجية فصارت بهذه الأوزان قصائده شعراً غنائياً جميلاً: |
حبيبي تائه جداً |
أطال العتب والصدا |
حمانـي الشهـد من فيـه |
وخلى عنـدي السهـدا |
وهيفاء كما تهوى |
تريك القد والخدا |
وتشجيك بألحان |
تذيب الجلمـد الصلـدا |
|
ثم يسخر كعادته في شعره من تأثير هذا الجمال على نفسه فيقول: |
ولفظ يوجب الغسل |
على السامع والحدا |
|
أو هو يريد المداعبة بهذا التعبير اللطيف وهي وافرة في شعره الغنائي الذي اختار له من الأوزان ما يتناسب مع شعره العاطفي الرقيق. |
وقد علق على هذه الأوزان المرحوم مصطفى عبد الرزاق حين قال: "انتشرت في عهد البهاء زهير أوزان التواشيح الآتية من الأندلس وذلك لا بدّ أن يكون نبه الشعراء إلى فن من الألحان الشعرية جديد، فاهتدت الفطر الموسيقية إلى اختيار البحور اللطيفة والأوزان الموفورة الحظ من الموسيقى ومن التأثير، وهذا شأن البهاء زهير، فإننا نجده في غير شعر المديح قلما يركن إلى غيره من الأوزان الخفيفة. |
فإذا كان هذا الاتجاه في الأوزان يرجـع إلى اختيـار الشعـراء لـه في عصر البهاء زهير، واختاره البهاء زهير معهم ليقابلوا به أوزان التواشيح الآتية من الأندلس، فلا يعنينا كل هذا وإنما الذي يعنينا في هذا أن البهاء زهيراً لم يبق جامداً أمام سنة التطور التي يمليها الزمن، وأمام تيار الثقافة الغربية التي امتد ظلها بعصر البهاء زهير الذي يعتبر (أي العصر) في حساب المؤرخين لأدب ذلك العصر أنه أكثر العصور صلة بين الثقافة العربية وثقافة الغرب، فهم أرادوا أن تتلاقى الثقافتان العربية والغربية على صعيد واحد إبان الحروب الصليبية، فاختاروا من آثار العرب الأدبية أوزاناً خفيفة كالمجزوء والمشطور والمنهوك تصلح لصياغة شعر ينساب مع الألحان ويسبح مع النغمات، فكان البهاء زهير بهذا موفقاً في جميع قصائده التي اتجه فيها هذا الاتجاه الجديد. |
وإذا كان لشعراء عصره مشاركة في هذا فهو قد تفوق فيه إلى أبعد حد وخلف لنا أثراً أدبياً ممتعاً يمتاز به في عصره، ويخلد مع الزمن في قوة من التأثير الفني والإِشراق بالجمال، حتى عرفته المصادر التاريخية الصحيحة بأن شعره هو السهل الممتنع. |
والحكايات الغرامية كثيرة في شعر البهاء زهير، ولكنها ليست مملة لأنها تنبع من معين الحياة ولا تغرب في الخيال، ولأنها تفيض بالملح والطرائف وتنم عن روح مرح وظرف يتسم بهما شعر البهاء زهير العاطفي في حكاياته الغرامية الممتعة، وكل حكاية من هذه الحكايات المثيرة الجذابة تعبر عن شكوى وعتاب وأمل وألم وحب وهجر وإقبال وصد، هو كل ما يساور أنفس الهائمين بأحبائهم، وهو تعبير صادق لخلجات النفس الشاعرة بالحب المعبرة عن عواطف جياشة وشعور متدفق بالحب والمناجاة. |
وهي تصور لنا ناحية أهـم وأدق من كل هـذه العواطف الجياشـة بالحب الصادق والشعور المتدفق الرقيـق، تصـور لنـا أحاسيس أهـل ذلك العصر ومشاعرهم في آمالهم وأمانيهم، ونزعاتهم واتجاهاتهم، فهي حكايات تترجم في شعر عاطفي عن مشاعر وأحاسيس من صدرت عنهم تلك الحكايات وما تحمله من طابع ذلك العصر من عادات وتقاليد، تعبر عن روح ذلك العصر، ومستواه الاجتماعي والثقافي في عرض شعري موفق يطالعنا بالتعبيرات الشائعة عن أهل ذلك العصر وامتداد ظلها إلى عصرنا اليوم لنقف من كل ذلك على أساس ما نسير عليه في حياتنا وتعبيراتنا وأدبنا الحديث، لأن الأدب في كل أمة يربط حاضرها بماضيها ويتكون من هذا الارتباط الأدبي مستقبل آدابها وحياتها الثقافية والاجتماعية، وهو من الأهمية بمكان في تاريخ أدب كل أمة لما يتصل في ذلك من عاداتها وتقاليدها فهنا حكاية غرام وبعدها حكاية أشواق ويليها حكاية عتاب وأمل، وهكذا تنقل إلينا حكايات البهاء زهير صوراً متعددة من نزعات النفس واتجاهاتها وخلجات خواطرها يتنوع فيها القصص من لون إلى آخر، وهذه حكاية تقص لنا قصة عتاب وأمل: |
يا معرضاً متجنيا |
حاشاك يا عيني وروحي |
لم تدر ما فعل البكا |
ء عليك بالجفن القريح |
وجرحت قلبي بالجفا |
ء فآه للقلب الجريح |
قبحت في بما فعلـ |
ـت ولست من أهل القبيح |
|
وما أجمل ما في هذا البيت الأخير من تلطف وأدب وتبرئة الشاعر لصديقه من القبح والنقص، وهو يعبر عن خلق كريم وذوق سليم، ويستمر هذا الخلق الكريم في حسن تعبيراته الرقيقة وهو يعاتب محبوبه في شوق ورقة ولطف: |
إن كنت مني مستريحا |
لست منك بمستريح |
فمتى أفوز بنظرة |
من وجهك الحسن المليح |
لك من ضميري ما علمت |
به من الود الصريح |
وكذلك أنـت فسـل ضمـ |
ـيرك فهو يشهد بالصحيـح |
|
نحن نقرأ للبهاء زهير من المجون في شعره من الخمريات ما يجعلنا نحكم عليه بالآثم، ثم نقرأ له شعراً آخر يلتزم فيه الوقار والحفاظ على سمو الأخلاق فنبرئه من المجون والإِثم ولا سبيل إلى تفسير هذا التناقض في شعره إلا أن نقف على حقيقة ما يقصده من شعر المجون والخمريات، وهل في هذا يعبر عن خلقه وسلوكه أو أنه اتجاه في شعره لا يعمل به في سلوكه ولا يرضاه لنفسه؟ فهو القائل عن خلقه قولاً رصيناً وأنه لا يقول ما يقوله من مجون للعمل به، وإنما للشعر وحده وأن الخيال فيه أكثر من الحقيقة وهذا نص قوله: |
ولي صبوة العشاق في الشعر وحده |
وأما سواها فهي مني طالق |
|
فهو إذن لم يعن شيئاً حقيقياً في قوله، وهو فيه آثم، وإنما هو يصور لنا ما يبدو له من أحوال الناس وأحاسيسهم ومشاعرهم حتى إذا ما قرأنا له نصاً في شعر الخمريات سبقنا الظن أن هذا الشاعر آثم ولكنه يؤكد سمو خلقه بقوله: |
فلكم فيّ من مكارم خلق |
ولكم فيّ من حميد الصفات |
لست أرضى سـوى الوفاء لـذي |
الـود ولو كـان في وفائي وفاتـي |
وألوف فلو أفارق بؤساً |
لتوالت لفقده حسراتي |
طاهر اللفظ والشمائل والأخـ |
ـلاق عـف الضمير واللحظـات |
ومع الصمت والوقار فإني |
دمث الخلق طيب الخلوات |
|
وإذا ما قرأنا له شعر الخمريات لمسنا غير هذا الوقار ودمث الخلق: |
هب النسيم عليلا |
وهو النسيم الصحيح |
وطاب وقتك فانهض |
فالآن طاب الصبوح |
وخذ عن الكأس نوراً |
به يضيء الفسيح |
من قهـوة طـاب منهـا |
طعم ولون وريح |
في دنها وهي راح |
وفي الحشا وهي روح |
|
يتبادر من هذا القول أن شاعرنا البهاء زهيراً صاحب هذا المذهب في أبياته، ولكننا إذا فتشنا في آثاره الأدبية نعثر على أنه يقول خيالاً لا حقيقة وفكرة وتصويراً لا أثر لها في واقع حياته فهو القائل: |
أعشق الحسـن والملاحة والظـر |
ف وأهوى مكارم الأخلاق |
|
ويقول عن شعره ويفصح عن قصده بهذا القول: |
كلامي الذي يصبو لـه كل سامـع |
ويهواه حتـى في الخـدور العواتـق |
كلامـي غني عـن لحون تزينـه |
له معبد من نفسه ومخارق |
لكـل امرىء منـه نصيب يخصـه |
يلائم ما في طبعه ويوافق |
يغنـي به الندمـان وهـو فكاهـة |
وينشده الصوفي وهو رقائق |
به يقتضي الحاجات مـن هو طالـب |
ويستعطف الأحباب من هو عاشق |
|
وإذن فهو مصور للخواطر، مترجم للمشاعر، يحس بأحاسيس الناس ويصورها ويبدع في تلوينها بألوان مختلفة في حياة الناس. |
إلا أن هذا لا يعصمه من اللهو والصبا مع الحفاظ على حظه في المجد والعلا حين قال: |
فما فاتني حظـي من اللهو والصبـا |
ومـا فاتني حظـي من المجد والعـلا |
|
ونكتفي بهذا القدر من البحث لنعاوده في بحث آخر للمضي في دراستنا لشاعر حجازي له في تاريخنا الأدبي منزلته الرفيعة، ومكانه المرموق حتى نكمل حقه في دقة وإخلاص. |
* * * |
|