المقَالة التَاسَعة عَشرة |
ومن المديح الذي يتقدمه النسيب في شعر البهاء زهير شأنه في ذلك شأن غيره من شعراء عصره ومن سبقوه في المديح قوله وهو يمدح الملك الناصر صلاح الدين ابن الملك العزيز محمد: |
عرف الحبيب مكانه فتـدللا |
وقنعت منـه بموعد فتعـللا |
|
ومن يقرأ هذا النسيب للبهاء زهير دون أن يمضي إلى نهايته ويدخل منه على المديح يعتقد أن البهاء زهيراً يتغزل بحبيب ذي دلال وتعلل، ولا يخطر بباله أن هذا مقدمة المديح في مجلس الملك الناصر، وها هو يصف لنا الرسول وقد سيره إلى محبوبه وعاد فاشلاً في مهمته الخطيرة: |
وأتى الرسول فلم أجد في وجهه |
بِشْراً كما قد كنت أعهـد أولا |
فقطعـت يومـي كله متفكـراً |
وسهـرت ليلـي كله متملمـلا |
|
ونأتي على ثورة محب يثور في وحدته منفرداً يتخيل كل شيء لم يكن، كأنه متحرك في مخيلته - عن حبيبته - وعن طيف حبيبه - تخيـلات تسوق شتـى الصـور المثيرة في مخيلة العاشق الحزين بهجر معشوقـه، ومطله ودلاله، ويقـول في هذا نغماً رائعاً في أنشودة من الغـزل الرقيق الذي يعبر عنـه في مقدمة المديح: |
وأخذت أحسب كل شيء لم يكـن |
متحركاً في فكرتي متخيلاً |
فلعل طيفاً منه زار فـردَّه |
سهري فعاد بغيظه فتقولا |
|
إننا نلمس الروعة والجمال في هذا التصوير البارع وهذا التخيل المليح لطيف حبيبه حين زاره فجنى عليه السهر، فرده فعاد بالغيظ يتقول على محب بريء لم يأثم بحق حبيبه، حتى إنه ليخشى أن يكون النسيم قد فضح سراً حرص هو على كتمانه، فسعى بالوشاية ليوهم معشوقه بأنه قد سلا، وقد كان لهذه التخيلات فيما لم يكن أثر جميل في إبراز هذه الصور الرائعة: |
وعسى نسيـم بتُ أكتم سـرنا |
عنه فراح يقـول عني قد سـلا |
|
وهنا موضع الفتنة وقد بعثها البهاء زهير في همسة رقيقة وهو يداعب الحلو في لطف ومرح: |
ولقد خشيت بأن يكون أمالـه |
غيري وطبع الغصـن أن يتميـلا |
|
وهي مداعبة حلوة في تشبيه معشوقـه بالغصن، والتميل من طبـع الغصن وهي غمز جميل يصور لنا هذه المجانسـة في تميل الغصن وطبعـه في التميل، وقال: |
وأظنه طلـب الجديد وطالمـا |
عتق القميص على امرىء فتبدلا |
|
وقد تمثل هذا في صحبة القديم وشبهها بالقميص وقد تبدل لونه من قدمه فاحتاج إلى التبديل، ولعل صاحبه كان على هذا الطبع مع البهاء زهير، وإن كان هذا من النسيب الذي يتقدم المديح عادة في شعر الأولين، إلا أنني أعتقد أنه يعبر عن فكرة في النفس، عن عشق في الفؤاد، عن ميل في الغرام عن افتتان بحبيب تهزه له الذكرى والنجوى والهيام فيقول هذا النسيب معرضاً به في مجال المديح، ويقول هذا مروحاً عن نفوس تستمع إلى المديح وتود أن تستمع لذكر الحبيب وهيام العاشقين وكلفهم بأحبابهم، لأن كل قلب له من نجواه وذكراه وشغفه بمن يهواه ميل وحب وافتنان، وهو يقولها صريحة في مجال المديح: |
أهـوى التذلل في الغرام وإنمـا |
يأبى صـلاح الدين أن أتـذللا |
|
ثم استدرك الموقف أمام الملك الناصر فقال في تحفظ: |
مهدت بالغـزل الرقيق لمدحـه |
وأردت قبل الفـرض أن أتنفـلا |
|
وما أحسن ما في هذا القول من تخلص في الغزل، وتدخل في المديح عبر عنه بالفرض وعن الغزل بالنفل، وهو تخلص موفق جميل يطرب النفس في معناه وخاصة عندما يؤكد في مجلس الملك وهو يقول: |
يا من مديحي فيـه صدق كلـه |
فكأنما أتلو كتاباً منزلا |
يا مـن ولائي فيـه نص بيـن |
والنص عند القـوم لن يتـأولا |
|
وورود هذه الكلمات (النص البين - التأويل - الفرض - النفل - التلاوة) تدل على مكانة البهاء زهير العلمية في مجال الحكم والقضاء فضلاً عن شاعريته الفذة وشعوره المتدفق بأغاني الحب والجمال. |
شاء البهاء زهير أن يشعر خصوم مذهبه الجديد في الشعر في تحد وكبرياء المتسمين بضعف الأذواق التي أفسدها التكلف عن تذوقه الفطري، هو صاحب مذهب السهل الممتنع، شاء أن يشعر هؤلاء الخصوم أنه يستطيع في المديح شعر البلاط أن يؤدي المذهب القديم الذي أخذوا عليه ولو أنه فيما يحاول أن يفلت منه في هذا المجال لا يستطيع أن يغالب طبعه وما فطر عليه من مذهبه السهل الممتنع، فكلّما هتفت عواطفه بالشعر بَرَزَ روحه القوي جذاباً أخاذاً في روائعه وفنه المبدع الأصيل. |
وعرفنا المؤرخون للبهاء زهير خصوم مذهبـه الجديد فقالوا: ولمذهب البهاء زهير خصوم نجد صدى أحكامهم في قول صاحب كتاب "مرآة الجنان، وعبرة اليقظان" لليافعي اليمني المتوفى سنة 768 حيث قال: |
"قال ابن خلكان: وكل شعره لطيف وذكر شيئاً منه في تاريخـه، ولكـن للاختصار والتخفيف لم أكتب شيئاً منه ولا أعجبني ولا قوى عزمي الضعيف". |
وهكذا شأن الخصوم إذا حملوا في أحكامهم على شخصية كثر مريدوها وعز شأنها فقد كان له مريدون كثيرون يرون شعره لطيفاً من السهل الممتنع كما رواه ابن خلكان في صدق وتقدير وإعجاب. |
وإذا قرأنا ما نقله لنا الأستاذ مصطفى عبد الرزاق عن مؤرخ أوروبي يدعى بلمر كتب مقدمة لديوان شاعرنا الحجازي نلمس مدى مكانة شاعرنا في الآداب العالمية. فقد قال بلمر: "إن عصر البهاء زهير كان أكثر العصور صلة بين الثقافة العربية وثقافة الغرب بسبب الحروب الصليبية وما تبعها من استقرار مملكة غربية من فلسطين زمناً ويقول: إن شعر البهاء زهير يشابه الشعر الأوروبي، وأكثر أفكاره تحاذي أفكار الشعراء الإِنجليز في القرن السابع عشر". |
ومن هذا الرأي الذي قال به بلمر المؤرخ الأوربي في شعر شاعرنا الحجازي البهاء زهير، وفيما نقله عنه الأستاذ مصطفى عبد الرزاق نلمس خطر هذا الإِنتاج الأدبي لشاعرنا الفذ ومدى تضارب الآراء حول مكانته الأدبية في عصره الذي أشرف على ثقافة الغرب في أيام الحروب الصليبية، فكان البهاء زهير أبرز من عرف في ذلك العصر الذي اتصف بأنه أكثر العصور صلة بين الثقافة العربية وثقافة الغرب. |
وإذا ما عنينا بشعر البهاء زهير ودرسنا لشاعرنا الحجازي روائعه، وعنينا بإنتاجـه الأدبي فإن مكانة البهاء زهير في أدبنا الحجازي وعناية المؤرخين بشعره وأدبه وفنه من شرقيين وغربيين تضاعف عزمنا وتمدنا بالنشاط الأدبي في إكمال ما أقدمنا عليه من واجب الدراسة لأدب رفيع له شأنه وخطره في الآداب العالمية، وكيف لا يكون هذا وبلمر المؤرخ الأوروبي يقارن بين أفكار شاعرنا الحجازي العملاق وبين أفكار الشعراء الإِنجليز في القرن السابع عشر، وإذا ما قرأنا ما ترجم للشعراء الإِنجليز في القرن السابع عشر وعرفنا مكانتهم في الآداب العالمية لمسنا بجلاء ووضوح مقعد شاعرنا المطبوع في صف أولئك الشعراء الأفذاذ بل في مقدمة الصفوف لما طبع عليه من فطرته السليمة وسمو ذوقه وفنه الأصيل. |
وسنورد في الحلقة القادمة جانباً من جوانب هذه العظمة في مذهب البهاء زهير وإبداعه في عهد انتشرت فيه أوزان التوشيح الآتية من الأندلس، وإلى ما أدركه - بإلهامه - إلى فن من الألحان الشعرية جديد فاهتدت فطرته الموسيقية إلى اختيار البحور اللطيفة والأوزان الموفورة الحظ من الموسيقى وحسن التأثير. |
|