المقَالة الثَامنَة عشرة |
ومن مدائح البهاء زهير قوله في مدح الملك الكامل ناصر الدين ابن أبي الفتح محمد بن الملك العادل، وذكر انتزاعه ثغر دمياط من الإِفرنج: |
بك اهتز عطف الدين في حلل النصر |
وردت على أعقابهـا ملـة الكفـر |
|
ثم يأتي على وصف المعركة: |
وليلة غزو للعدو كأنها |
بكثـرة من أرديتـه ليلة النحـر |
فيا ليلـة قد شـرف الله قدرهـا |
ولا غـرو إن سميتهـا ليلة القـدر |
|
وهي صفحة مجيدة من تاريخنا الإِسلامي المجيد وكفاح أسلافنا ضد الصليبيين ويمضي البهاء زهير في وصف المعركة ويشيد بانتصارات المسلمين: |
سددت سبيل البـر والبحر عنهـم |
بسابحة دهم وسابحة غر |
أساطيل ليست في أساطير من مضى |
بكل غراب راح أفتـك من صقـر |
|
ويأتي على ذكر الجيش الإِسلامي وبطولة أفراده وما كان لدمياط من شرف التضحية في سبيل إعلاء كلمة الله، يصور لنا هذه البطولات بشعور المسلم المجاهد في سبيل الله وفي سبيل الذود عن حق المسلمين: |
وجيش كمثل الليـل هولاً ورهبـة |
وإن زانـه ما فيه مـن أنجم زهـر |
وكل جـواد لم يكـن قط مثلـه |
لآل زهير لا ولا لبني بدر |
وباتت جنـود الله فـوق ضواـر |
بأوضاحها تغني السراة عن الفجر |
فلا زلـت حتـى أيـد اللهُ حزبـه |
وأشرق وجه الأرض جذلان بالنصر |
|
ثم يشيد بمكانة دمياط في موقف الجهاد المشرف ويبالغ في تمجيدها: |
كفى اللَّهُ دميـاط المكـاره إنهـا |
لمن قبلة الإِسلام في موضع النحر |
وما طـاب ماء النيـل إلا لأنـه |
يحل محـل الريق مـن ذلك الثغـر |
|
ولا بد أن نمر من تاريخ ذلك العهد الذي امتاز بمعركة الصليبيين السابقة على ذلك الثغر الذي صمد لأعداء الإِسلام، لقد كانت هزيمتهم على شواطىء دمياط عناية إلهية أنقذت البلاد العربية من خطر الزحف الصليبي على ديارنا العربية وآثارنا الإِسلامية، ونحن إذا ما مررنا بهذا الجانب العظيم في تاريخنا الإِسلامي وذكرنا عنه ما وسعنا ذكره فإنما نؤدي بهذا واجبنا في البحث التاريخي الذي يرتبط بعصر البهاء زهير وما ورد في شعره عن ذلك العهد وأبنائه المكافحين، وكان ذلك الكفاح المجيد وأمجاد أبنائه الأبطال يعبر لنا عن صورة مماثلة لما أعده التاريخ في أيامنا في كفاح أبناء بور سعيد الأبطال الذين صدوا خطر الزحف الصهيوني والمتآمرين من إنجليز وفرنسيين فأنقذ الله ديار العرب من عدوان المعتدين. |
ذكر المؤرخون أنه في سنة 646هـ حدث للملك الصالح نجم الدين مرض خطير وهو بقلعة دمشق، ثم خبّره مخبر أن ملك فرنسا لويس التاسع الذي كان يقود الصليبية السابعة عازم على المسير إلى أرض مصر وأخذها، فسار السلطان من دمشق وهو مريض في محفة ونزل بأشموم طفاح في المحرم سنة 647هـ وأعد العدة للكفاح عند دمياط، وفي أواخر صفر وردت جيوش العدو، وبعث ملكهم إلى السلطان كتاب تهديد ووعيد هذا نصه: |
"أما بعد فإنه لم يخف عليك أنني أمين الأمة العيسوية، كما أنه لا يخفى عليك أنك أمين الأمة المحمدية. |
وغير خاف عليك أن عندنا أهلاً في جزائر الأندلس وما يحملونه إلينا من الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر ونقتل الرجال ونرمل النساء ونستأثر بالبنات والصبيان ونخلي منهم الديار، وأنا قد أبديت لك الكفاية، وبذلت لك النصيحة إلى الغاية والنهاية، فلو حلفت بكل الأيمان وأدخلت علي القسس والرهبان وحملت قدامي الشمع طاعة للصلبان، لكنت واصلا إليك، وقاتلك في أعز البقاع عليك، فإما أن تكون البلاد لي فيا هدية حصلت في يدي، وإما أن تكون البلاد لك والغلبة عليّ فيدك اليمنى ممتدة إليّ، وقد عرفتك وعرفت ما قلت لك، وحذرتك من عساكر حضرت في طاعتي تملأ السهل والجبل وعددهم كعدد الحصا، وهم مرسلون إليك بأسياف القضا". |
فلما قرىء الكتاب على السلطان وقد اشتد به المرض بكى واسترجع، فكتب شاعرنا البهاء زهير الجواب التاريخي البليغ: |
"بسم الله الرحمن الرحيم وصلواته على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين أما بعد، فإنه وصل كتابك وأنت تهدد فيه بكثرة جيوشك وعدد أبطالك، ونحن أرباب السيوف وما قتل منا قرن إلا جددناه، ولا بغى علينا باغٍ إلا دمرناه، فلو رأت عينك أيها المغرور حد سيوفنا وعظم حروبنا، وفتحنا منكم الحصون والسواحل وتخريبنا ديار الأواخر منكم والأوائل لكان لك أن تعض على أناملك بالندم، ولا بدّ أن تزل بك القدم، في يوم أوله لنا وآخره عليك، فهنالك تسيء الظنون (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) فإذا قرأت كتابي هذا فتكون منه على أول سورة النمل: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه)، وتكون أيضاً على آخر سورة صَ: (ولتعلمن نبأه بعد حين) ونعود إلى قوله تعالى وهو أصدق القائلين: (وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) وقال الحكماء: (إن الباغي له مصرع) وبغيك يصرعك، وإلى البلاء يسلمك. والسلام". |
فإذا ما صَمَدَتْ دمياط لهذا العدو وأرْدَتْهُ وجيوشه وأنزلت به البلاء فحق للبهاء زهير أن يشيد بها وبأبطالها في أرض الكنانة التي صمدت في أدوارها التاريخية في وجه المعتدين، فكانت كنانة الله في أرضه ولا تزال بإذن الله الحصن الذي يقف سداً في وجه الغاصبين ما دام التآزر والتراحم قائماً بين العرب والمسلمين، حق للبهاء زهير كاتب الملك أن يجيد أسلوبه في النثر كما أجاده في الشعر وأن يهنىء ويمدح الملك والمسلمين بانتصاراتهم كما جاهد معهم بقلمه ملة الكفر. |
وقرأت في مدائح البهاء زهير من قصيدة يمدح بها علاء الدين علي ابن الأمير شجاع الدين قدمها بالنسيب كما كانت تصنع العرب في مدائحها: |
فيا ظبـي هلا كـان منك التفاتـة |
ويا غصن هـلا كان فيك تعطـف |
ويا حـرم الحسن الـذي هو آمـن |
وألبابنا من حوله تتخطف |
عسى عطفة للوصل يا واو صدغـه |
عليّ فإنـي أعـرف الواو تعطـف |
|
وجمال الاقتباس يبدو بارزاً في هذه الأبيات، ومن هذا اللون في المديح، وقد تقدمه النسيب قوله في مدح السلطان الملك الصالح نجم الدين وذلك في سنة 622هـ ولعلها أول قصائده في مدحه حين جاء من (قوص) بالصعيد إلى القاهرة واتصل به كما يقول أحد المؤرخين له، وهي غاية في الحسن والروعة وحوت من التصرف في الألفاظ والسمو في المعنى ما دل على شاعرية البهاء زهير المتدفقة وملكته الشعرية: |
وَعَدَ الزيارة طرفُهُ المتَمَلِّقُ |
وتـلاف قلبي مـن جفون تنطـق |
إني لأهوى الحسـن حيث وجدتـه |
وأهيم بالقد الرشيق وأعشق |
|
وهذا شعور متدفق بحب الجمال وجرأة أدبية في مجال المديح، ولكنه أسلوب عصره الذي يتقدم المديح بهذا النسيب حتى ليقول: |
وبليتي كفل عليه ذؤابة |
مثل الكثيب عليه صل مطرق |
إن عنفوا، أو سوفوا، أو خوفوا |
لا أنثني، لا أنتهي، لا أفرق |
ويزيدني تلفاً فأشكر فضله |
كالمسك تسحقه الأكف فيعبق |
|
ثم يفخر بمزايا نفسه ويصف سعيه في آفاق الحياة حتى يدخل من هذه الصور الجذابة إلى مدح السلطان: |
وقد سعيت إلى العلاءِ بهمة |
تقضي لسعي أنه لا يُلحق |
وسريت في ليل كأن نجومه |
من فرط غيرتها إليّ تُحَدِّقُ |
حتى وصلت سرادق الملك الذي |
تقف الملوك ببابه تسترزق |
فإليك يا نجم السماء فإنني |
قد لاح نجم الدين لي يتألق |
|
وجانس في هذا اسم الملك بذكر النجوم فهو نجم الدين. |
ومضى إلى وصف عظمة الملك ومزاياه في إطراء بديع: |
الصالح الملك الذي لزمانه |
حسن يتيه به الزمان ورونق |
ملأ القلوب مخافة ومحبة |
فالبأس يرهب والمكارم تعشق |
|
هذه الصيغ الجميلة في ألفاظ ومعاني أشعار البهاء زهير تنساب رقيقة في الأذهان فتطرب القلوب، وكأنها أنغام وألحان وليست مديحاً فحسب، فقد وضع البأس مكان المخافة للقلوب الغادرة، وجعل المحبة في موضع المكارم للقلوب المخلصة، وتمم هذا المعنى بقوله: |
فعدلت حتى ما بها متظلم |
وأنلـت حـتى ما بهـا مسـترزق |
يا مـن رفضت النـاس حين لقيتـه |
حتى ظننت بأنهم لم يخلقوا |
|
وهذه غاية الإِطراء في صياغة رائعة تبسم النفس إعجاباً لحسنها ومضى يردد أغنيته في هذا المديح مطرباً وطروباً: |
قيدت في مصر إليك ركائبي |
غيري يغرب تارة ويشرق |
وحللت عنـدك إذ حللت بمعقـل |
يلقى إليه ما رد والأبلق |
وتيقن الأقوام أني بعدها |
أبدا إلى رتب العلا لا أسبق |
فرزقـت ما لم يرزقـوا ونطقت مـا |
لم ينطقـوا ولحقـت ما لم يلحقـوا |
|
وإلى حلقة أخرى نعرض فيها ما وسعنا العرض، وإلى مجال آخر وجولات أخرى في رياض شعر البهاء زهير، شاعرنا الحجازي وآثاره القيمة. |
|