المقَالة السّابعَة عشرة |
ذهب البهاء زهير مذهب غيره من الشعراء في مدائحه، ومدائح البهاء زهير تمتاز دون سائر فنونه الشعرية طرافة وإبداعاً، وهو شاعر القصر في عهد الأيوبيين، وهذه نماذج من مدائحه: |
لك الله من وال ولي مقرب |
فكـم لك مـن يوم أغـر محبب |
حللت من المجد الممنـع في الـورى |
بأرفع بيت في العلاء مطنب |
يقصـر عن أمثالـه كل قيصـر |
ويغلب عـن أمثالـه كل أغلـب |
جـواد متى تحلل بواديـه تلقـه |
كمـا قيل في آل الجـواد المهلـب |
أحـق بمـا قال ابـن قيس لمـالك |
وأولى بما قـال ابن أوس لمصعـب |
ولو شاهد العجلي جدواه ما انتمى |
لعكرمة الفيـاض يومـاً وحوشـب |
|
وهكذا كان البهاء زهير يرى في صفات ممدوحه ما تفوق صفات من ذكرهم من المتقدمين، بل إن فيها من المزايا ما تتضاءل أمامها صفات من سبقوه من الممدوحين مثل مصعب ومالك وإن ساواه في الجود بالمهلب فلأن البهاء زهير ينتسب إليه، فما أراد أن يزيد ممدوحه على جده المهلب، وقد أوضحنا نسبته إليه في أول بحثنا عن البهاء زهير وأنه لو شاهد العجلي هذا الممدوح لما خص عكرمة ولا حوشباً بشيء من المدائح، بل أفرد بها ممدوح البهاء زهير، وكأن المدائح يجب أن تكون موافقة لمزايا هذه الممدوح وصفاته البارزة. |
هذه التعبيرات والتفكيرات فيها من الطرافة ما لا يخفى على فطنة القارىء، وهو إبداع في مجال المديح يميز به ممدوحه ويصطفيه بمزايا صفات عالية دون سائر الممدوحين من الأجواد وفحول الرجال، ومن قصيدة له يمدح بها السلطان الملك الناصر يوسف بن محمد بن عادي بن يوسف بن أيوب: |
ومذ كنت لم ترض النقيصة شيمتي |
ومثلك يأباها لمثلي ويأنف |
ولا أبتغي إلا إقامة حرمتي |
ولست لشيء غيرها أتأسف |
ونفسي بحمد الله نفس أبيةٌ |
فها هي لا تهفو ولا تتلهف |
|
وأَعْظِمْ بهذه النفس الكبيرة التي تبرز مزاياها وتعتد بكرامتها في مجلس السلطان وفي موقف المديح فتحفظ عزتها وتصون كرامتها، لأنه لم يصغ مدائحه من أجل تهدير كرامته وإذلال نفسه الأبية ولا هو يرجو بقرب السلطان التزلف والاستجداء، ولكن البهاء زهيراً يفصح لنا عن هذا في قوله: |
ولكن أطفالاً صغاراً ونسوة |
ولا أحد غيري بهم يتلطف |
أغار إذا هب النسيم عليهم |
وقلبي لهـم من رحمـة يترجـف |
سروري أن يبـدو عليهـم تنعـم |
وحزنـي أن يبـدو عليهـم تقشف |
ذخـرت لهم لطـف الإِله ويوسفـا |
ووالله لا ضاعوا ويوسـف يوسـف |
|
ويعني بيوسف شخص السلطان الممدوح بهذه القصيـدة، ويستمر في إفصاحـه عن سبب تقربه للسلطان وأنه لا يرجو في هذا القـرب إلا أن يكون في عزة ورعاية ممدوحه، وأنه عندما يشكو مشقـة فهو يكلف شعـره ما لا يألـف فقد قال: |
أكلف شعري حيـن أشكو مشقـة |
كأني أدعوه لما ليس يؤلف |
|
وهنا تبدو نفس البهاء زهير عظيمة، وهو يقول هذا أمام ممدوحه السلطان لأنه يحس بانحدار النفس إذا شكا مشقة، بل إن شعره يتكلف بهذه الشكوى، ولا أدل على عزة النفس من هذا التعبير في هذا المجال السلطاني، ويكرر هذا الاعتزاز بقوله في الشطر الأخير من هذا البيت بأن شعره لم يألف منه هذا التكليف، ولذلك هو لا يرضى به فقد تعود شعره منه التغزل وله رونقه وجماله، فهو لهذا يعاني شعره الآن من التكلف في مجال الشكوى والتعبير عن المشقة. |
حقاً إن البهاء زهيراً ليبدع حين يعبر عن لسان الشعر هذا التعبير الذي يفصح به عن عظمة نفسه، وإنها الطرافة التي تطالعنا في تعبيراته وتفكيراته فقد قال في هذا المعنى: |
وقـد كـان معتـاداً لكل تغـزل |
تهيم به الألبـاب حسنـاً وتشـغف |
يلوح عليه في التغزل رونق |
ويظهر في الشكـوى عليه تكلـف |
|
ومع هذا فهو لا يزال عند مبدئه الذي لا يتزعزع عنه، ولا يمكن لشعره أن يفقد رونقه وجماله في غزله وإحساساته الفنية المتدفقة، فهو يقول في اعتداد وكبرياء: |
وما زال شعـري فيه للـروح راحـة |
وللقلب مسلاة وللهم مصرف |
يناغيك فيـه الظبـي والظبـي أحـور |
ويلهيك فيه الغصن والغصـن أهيـف |
|
ثم يصارح السلطان بأنه لم يشك مشقة لينزل بنفسه إلى الحضيض، ولم يبح بآلامه ليمرغ وجهه بالتراب، فهو يأنف هذا الصغار الذي اعتادته النفوس الهزيلة فيقول في أنفة واعتزاز: |
شكوت وما الشكـوى إليك مذلـة |
وإن كنت فيها دائماً أتأنف |
|
وكيف لهذه النفس الكبيرة أن تهون بقدرهـا، وكيف لهذا الحجـازي أن يذل وهو يحس بإباء قومه وأمجاد أجداده ونسبـه الذي يعتز به، المنحـدر من سلالة كريمة تأبى على أبنائهـا الهوان وتمقت منطق الذل والانحطاط؟ فهو يحيا بصفات قومه وعشيرته وبيئته التي تدافع عن عزتها بالدماء وتكافح عن أمجادها بالموت في سبيل الشرف والغايات النبيلة، وها نحن قد لمسنا في مدائح البهاء زهير عزة وأنفة وترفعاً عن الهوان واعتـداداً بالنفس في مجال العـزة ورفعة النفس. |
وإذا ما عرضنا لمثال آخر من مدائحه ألفيناه هو البهاء زهير بروحه الذي لا يذل ولا يهون ولا ينزل عن مستواه العالي الرفيع، فقد قال في قصيدة مدح بها الأمير النصير اللمطي: |
يا معجز الأيام قرع صفاته |
ومجمّل الدنيا بحسن صفاته |
قوم هم فـي البيد خيـر سراتـها |
حسباً وهم في الدهـر خير سراتـه |
شرف الزمـان بكل نـدب منهـم |
متيقظ وهب العلا غفواته |
يا منسك المعـروف أحرم منطقـي |
زمناً وقد لباك من ميقاته |
هذا زهيرك لا زهير مزينة |
وافاك لا هرماً على علاته |
دعه وحولياته ثم استمع |
لزهير عصرك حسن ليلياته |
|
كان زهير يشتغل بحولياته، ولكن زهير عصره أي البهاء زهير يبدي حسن ليلياته لأن حسن ليلياته يعبر عن أحاسيس ومشاعر نفسيته المستمدة من الجمال والحسن ومؤثرات النفس الحالمة، ولكن زهير الحوليات حدد لنفسه مجالاً واحداً لا يتخطاه واتجاهاً محدوداً لا يتجاوزه ولا يحيد عنه، فهو جدير بأهل زمنه، وأما البهاء زهير فهو قد خلق لعصره ولأهل زمنه ولاجتذاب النفوس إلى نواحي الجمال والحسن وإشراقته الزاهية، وإلى بدائع الفن المثير، ولكل عصر صبغته وذووها ومفاهيمهم وأساليبهم في الحياة والفن والأدب الرفيع، ولم يكتف البهاء زهير بهذا كله ولم يقف به الاعتزاز عند هذا الحد من الاتجاه في مدائحه، بل مضى إلى أبعد حد من الاعتزاز بحسن ليلياته فقال: |
لو أنشـدت في آل جفنة أضربـوا |
عـن ذكر حسـان وعن جفناتـه |
|
والمطلع على الشعر الجاهلي وصدر الإسلام يعرف ما يعنيه البهاء زهير من ذكر الشعراء الفحول لتلك العهود وهو بهذا يكشف عن غزارة علمه وسعة إطلاعه على آثار الشعراء الجاهلية والإِسلامية والمناسبات التي تكلموا عنها، ومن هذه الأمثلة في المدائح وغيرها نؤكد بها مكانة البهاء زهير وندلل بها على شهرته ومستواه في أدبنا الحجازي الذي يتطلب منا الدراسة والتأمل العميق. |
|