المقَالة الخامسَة عَشَرة |
قال البهاء زهير وهو يعاتب امرأة وفي عتابه سخرية، وإذا سخر البهاء زهير فإن في سخريته دعابة وطرافة وفي تصويره فكاهة، وفي عتابه تهكماً لا يخرج عن حد الطرافة التي طبع عليها البهاء زهير وظرفه الذي عرف به: |
يا هذه لا تغلطي |
والله ما لي فيـك خاطـر |
|
أي لا يريدها زوجة لأنها لم تعد صالحة للزواج: |
خدعوك بالقـول المحـال |
فصح أنك أم عامر |
|
وكأن بعـض الناس أغروهـا بالثنـاء حتى أوهموهـا بأنها حسنـاء وكما قـال شوقي: |
خدعوها بقولهم حسنـاء |
والغواني يغرهـن الثنـاء |
|
ولنمض مع سخرية البهاء ودعابته اللطيفة في هذا العتاب: |
أظننت لي قلباً على |
هذي الحماقة منك صابر |
|
وكثيراً ما يكون هذا قولاً دارجاً بيننا، فإذا ضاق أحدنا بحماقة أحمق قال كهذا القول للتعبير عن ضيقه بحماقة الأحمق: |
وسمعت عنك قضية |
قد سطرت فيهـا دفاتـر |
|
وسامح الله البهاء زهيراً وهو يسخر في سخريته اللاذعة فما هذه القضية التي تسطر فيها دفاتر، ولو كان في زمنه الصحف لنشرت هذه القضية بالصحف كما ينشر عن الجريمة وأصحابها في صحف اليوم، ولكن البهاء زهيراً قصد المبالغة في تهويل هذه القضية فلم تكن هناك جريمة ولا مجرمة، وتظهر المبالغة والتهويل في البيت التالي بأبرز وضوح: |
نقلت إليَّ جميعها |
حتى كأني كنت حاضـر |
|
ثم يأتي بالدلائل والأمائر على صحة القضية ليدعم قوله بالحجة ولو بغرض التهويل من شأنها: |
فمتى أردت شرحتها |
لك بالدلائـل والأمائـر |
|
ومتى تريد منه المرأة هذه الهتيكة وهو يعرف أنها لا تريد، ولكن سخريته اللاذعة لا ترحم هذا الجانب المهزوز في خلق المرأة الحمقاء التي ترى نفسها حسناء وهي ليست بحسناء: |
إن كنـت أنت نسيتهـا |
فلكم لها في الناس ذاكـر |
|
وبدأ يقابل هذه الحمقاء بشهادة جميع الناس لتوكيد ما ألصقه بها، حتى إنه لا يجد من يشكرها من الناس، وكأن الناس قد صاروا جميعهم ضدها: |
وسألت عنك فلـم أجـد |
لك في جميع الناس شاكر |
وزعمت أنك حرة |
ما هـذه شيـم الحرائـر |
فإذا كذبـت فـلا يكـن |
كذباً لكـل الناس ظاهـر |
|
ويعني بالكذب خداعها للناس وغشها لهم بأنها ذات جمال ومحاسن فلا بدّ للكاذب أن يرتدع عن أكاذيبه، ويقتصر على من تجوز عليهم أكاذيبه فلا تظهر أكاذيبه لجميع الناس. |
ولم تكن السخرية في عمل الأديب نقيصة لم ينفرد بها البهاء زهير فقد تسمو روح الأديب عن كثير من التفاهات التي اعتاد بعض الناس عليها، فيترفع عنها الأديب وهو يحمل عليها في قرارة نفسه ثم لا يجد لها منفساً ينفس عن خاطره، وهو يضيق بهذه التفاهات، إلا أنه يأتي بأسلوب السخرية اللاذعة فيبلغ من الحمقى ما يريده لهم من تقريع وتنكيل أكثر ما يكون بارزاً في أسلوبه الساخر اللاذع، وقد عرف في الغرب أدباء ساخرون ترجمت آثارهم إلينا وهم - أناتول فرانس - وبرنارد شو - والأول ظهر قبل عصرنا والآخر عاصرنا ومات قريباً، ولكل منهما أدبه الساخر اللاذع في ملح وطرائف حازت إعجاب قرائها. فإذا سخر البهاء زهير فإنما هو يسير على سنة من الأدب الرفيع والخلق المتين الذي يستطيع أن يفرق بين الجيد والرديء والغث والثمين والتافه والجليل ذلك خلق البهاء زهير في سخريته وأسلوبه الأدبي الساخر. والذي يرجح أنه لم تكن هناك امرأة يعاتبها ولا قضية قائمة يقصدها لهذه المرأة وإنما هو خلق شاع في مثل هذه النفس المريضة الذي أخذ منها البهاء زهير صورة لسخريته وشكلاً يصب عليه مرارة نقده ولاذع سخريته وقد شاعت هذه السخرية في غير هذه القصيدة من شعره مما يدل على علو كعبه في هذا المجال الأدبي، وهذه صورة أخرى يعرضها علينا في أسلوبه الساخر تصور لنا شخصاً يغش الناس بمظاهر التدين وهو لم يكن متديناً، الزهد المصطنع وهو لم يكن زاهداً ويبدي لباس التقشف ويلبس رداء الورع وهو من أرذلِ خلق الله خَلْقاً وخُلُقاً، ويرى البهاء زهير أن من يغش الناس بالمظاهر ويخدعهم بالتضليل أخطر ما يكون على حال الناس، فهو جدير بسخريته قمين بأن يلهو به وبمظاهره الخادعة: |
وأحمق ذي لحية |
كبيرة منتشرهْ |
طلبت فيها وجهـه . |
بشدة فلم أرهْ . |
|
ولا بدّ أن هذه اللحية أخذت حجماً كبيـراً من الوجه حتـى لا يرى منهـا صاحبها: |
تبّاً لها مـن لحيـة |
كبيرة محتقرهْ |
مضحكة ما كان قـ |
ـط مثلها لمسخرهْ |
|
وماذا ينتظر من لحية تغطي الوجه فلم تبق منه شيئاً إلا أن تكون مضحكة ومدعاة للسخرية ما دام أن صاحبها لا تتوفر فيه صفات الفضيلة: |
فلو مضى السوق بها |
وزفها بالمزمرهْ |
لحصلت له مغل |
ضيعة موفرهْ |
|
وهي نصيحة الساخر من المهازل يسديها إلى نفس مريضة قد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها. |
ألا نجد في هذه السخرية اللاذعة طرافة تنتزع إعجابنا وتمتلك إكبارنا لبراعة التصوير وقوة الأسلوب، هذه هي سخرية البهاء زهير شاعت في كثير من شعره الساخر، فقد قال في هذا عن خادع يخدع الناس بمظاهر التقوى وهو غير تقي، ويبدي للناس توبته وهو لا يزال على عصيانه وفسوقه ويظهر بملابس الصلاح وهو من رواد الفساد: |
قالوا فـلان قـد غـدا تائبـاً |
واليـوم قد صلـى مع النـاس |
قلت متى ذاك وأنَّى له |
وكيف ينسـى لـذة الكـاس |
|
ثم يعبر لنـا عن توبـة الكاذب بأنهـا توبة إفـلاس ولم تكن توبـة صدق وإخلاص: |
أمس بهذي العين أبصرته |
سكران بين الورد والآس |
|
والورد والآس تعريض لصحبه الفاسقين كما يبدو من معنـى البيت مؤكـداً هذا بقوله: |
ورحـت عن توبتـه سائـلاً |
وجدتها توبة إفلاس |
|
وتوبة الإفلاس في هذا التعبير منتهى السخرية بصاحبه المقصود بل بالشخص الخادع الذي يرتدي رياء رداء الفضيلة وهو منغمس في موطن الرذيلة. |
ويفضح عن هؤلاء الخادعين وعن خلق هؤلاء المرائين في هذه الأبيات: |
كم أناس أظهـروا الزهـد لنـا |
فتجافـوا عن حـلال وحـرام |
قللوا الأكـل وأبـدوا ورعـاً |
واجتهاداً في صيام وقيام |
ثم لما أمكنتهم فرصة |
أكلوا أكل الحزانـى في الظـلام |
|
وأكل الحزانى في الظلام يعتبر منتهى التصوير لجشع تلك النفوس وفتكها، وهي تتستر رياء الناس عن مقاصدها الدنيئة بمظاهرها الزائفة. |
وقال وهو يسخر بصاحب له أراد مشاركته في الطعام أو أراد هو أن يشاركه طعامه بمساهمة بسيطة على سبيل البركة كما نقول في حياتنا الجارية: |
أصبح عندي سمكة |
وكسرة مدرمكهْ |
أردت أن أحضرها |
على سبيل البركهْ |
تجعلها لما يجي |
من بعدها محركهْ |
|
وضاق البهاء زهير بالشيخ الإِمام وهو يحشر أنفه في مجلسه ومجلس صحبه ويدس نفسه في أمورهم فأراد أن يسخر به على تهاونه بمقامـه وخروجه عـن حد وقـاره: |
كلما قلت استرحنا |
جاءنا الشيخ الإِمام |
فاعترانا كلنا |
منه انقبـاض واحتشـام |
فهو في المجلس فدم |
ولنا فهو فدام |
وعلى الجملـة فالشيـخ |
ثقيل والسلام |
|
وليس في وسعنا أن نعرض لكل ما قاله البهاء زهير في هذا المجال وأن نأتي على كل ما وقع لنا من شعره في هذا الأسلوب الساخر البديع وإنما هو تلخيص نمر به في بحثنا لنكمل به ما بدأناه لدراسة هذا الشاعر الذي لم يكن إعجابنا به مقصوراً على حجازيته، وإنما هي دراسة تشمل كل اتجاه شاعريته المتدفقة بالحسن والجمال، ولنؤدي بذلك للدراسة حقها وللتاريخ أمانته، فإذا ما واصلنا دراسته وبحثنا شعره وفتشنا عن نواحي الجمال في أسلوبه وحسن الأداء في شعره فإنما نؤدي بهذا عملاً أدبياً نود أن نوفق فيه لنسهم بنصيبنا المتواضع في حركة أدبية تأخذ طريقها في بلادنا، وتتبوأ مركزها اللائق بجهود العاملين في مضمارها، وإذا عنينا البهاء زهيراً وخصصناه بقسط وافر في بحثنا فإننا نؤدي بهذا ما هو حق علينا في أدبنا الذي يرتبط ماضيه بحاضره ويأتي مستقبله حافلاً بإذن الله على ضوء حاضره، والبهاء زهير أحد أعلام أدبنا القديم فلم لا تكون لنا منه هذه العناية ولم لا نخصه بالبحث المتواصل والدراسة الوافية لنقف بهذا على معدن شخصيته الحجازية وعمقها وسمو أهدافها. |
|