المقَالة الرابعَة عَشرة |
وطال العتاب وطال انتظار البهاء زهير لمعشوقه الغادر كما وصفه في قصيدته التي أوردناها في الحلقة السابقة، وأخذ الآن يبثه الأشواق في لون آخر من الغزل فيه تلطف وتظرف ضمنه كتابه إلى محبوبه، وأبان له عن قصده النبيل وأنه لا يحبه إلا ليحفظ عهده، وأنه يعاني من آلام الفراق في ابتعاده عنه، وهو لا يعترض على قسوته ويرى نفسه جديراً بهذه الجفوة لأنها تأديب له إذا أخطأ في حقه، وختم هذا اللون من الغزل في شكوى معذب يهتف بحبيبه أن يعطف عليه، فقد أضحى حاله سيئاً فيقول: |
مولاي كن لي وحدي |
فإننـي لك وحـدك |
وكن بقلبك عندي |
فإن قلبي عندك |
|
ثم يؤكد عهده لمحبوبه وصدق وده فيقول: |
لي فيك قصد جميـل |
لا خيب الله قصـدك |
حاشاك تؤثر بعـدي |
ولست أؤثر بعـدك |
لا تنس عهدي فإني |
والله لم أنس عهـدك |
|
وهنا يبدو الرجاء في تلطف وتظرف إذ يقول: |
أضعت ود محب |
ما زال يحفظ ودك |
مالي عليك اعتراض |
أدب كما شئت عبدك |
|
ثم يهيب بمحبوبه أن لا يغيب عليه وإن غيابه يؤدي به إلى سوء حاله ويعلن هذا في نداء المستصرخ حين يقول في ختام هذه الأبيات: |
مولاي إن غبت عني |
واسوء حالي بعـدك |
|
وكلمة (عبدك) و(مولاي) خرجت عن خلق البهاء زهير فإنها لم تكن في مجمل شعره وقد تكون عادة أهل عصره فتمثلها لنفسه توكيداً لإِخلاصه نحو محبوبه وليبالغ في التأثير عليه. |
وكأن حبيبه قد أحس بقسوته على محبه وجوره في هجره وصده فلم يعد يغيب عنه إلا أياماً ويواصله حيناً. وتمضي أيام ثلاثة لا يراه في خلالها تحسب في حساب المحبين دهراً كاملاً، ويظل البهاء زهير ناظراً إلى طريق محبوبه يتطلع في تلهف وشوق إلى لقائه وبين جفونه والكرى معترك، ويسترسل في شكواه عن حبيب تغير في وده ويسائله من الذي أخره، وهو أسبق الناس إلى مودته وفي تعبير رقيق يقول: |
بالله قل لي خبرك |
فلي ثلاث لم أرك |
يا أسبق الناس إلى |
مودتي ما أخرك |
وناظري إلى الطريق |
لم يزل منتظرك |
بين جفوني والكرى |
مذ غبت عني معترك |
كيف تغيرت ومن |
هذا الذي قد غيرك |
|
وكأنه لا يحق في حسابه لمحبوبه أن يهجره أكثر من ثلاثة أيام، ويعتبر هذا تعذيباً له ولكن إخلاصه في حبه يجعله يحس أن من غرامه به أن قلبه لا يطاوعه على لومه فهو كلما لامه قلبه عذره فيقول في رقة وعذوبة: |
وكيف يـا معذبـي |
قطعت عني خبـرك |
وعن غرامـي كلمـا |
لامك قلبي عـذرك |
|
وكأني بالبهاء زهير وقد أراد توكيد عهده لمعشوقه فيقسم على هذا توكيداً لحبه: |
والله ما خنت الهوى |
لك الضمان والدرك |
وحق عينيـك لقـد |
نصبت عينيك شرك |
|
وتجد في غزل البهاء زهير مكاشفة علنية عن أسرار حبه وقصة مسلسلة عن غرامياته. لأنه يريد بهذا أن يشهد الناس ثورة هذا الحب العميق ومدى إخلاصه وتفانيه لمحبوبه، وما هو المثال العظيم الذي ينشده من حبه فهو لا يرى أن يبث محبوبه أشواقه خلسة ويعرب عن حنينه وأشواقه في الخفاء، يريد أن يشهد الناس في الحب صورة قوية لعراك قائم بين الرغبة والإِعراض، وبين الإِقبال والصدود، وبين محب يتفانى في هوى محبوبه وبين جفوة محبوب لا يريد المهادنة في هذا العراك، ولا يستجيب لشكوى محبه صورة عن عهد محب أخلص في حبه، ولم يكن متكلفاً ليقول في هذا شعراً وإنما هو يقول الشعر وقد تغزل في حبيبه ليطالعنا بلون من الغزل فيه كبرياء وفيه عزة وفيه كرامة، يعاتب في ترفع عن الهوان ويرجو بخالص الود لا بسؤال الذليل، ويداعب في لطف ويخاصم في هدوء لا غلظة ولا قسوة تخرجان به عن لغة الحب الرقيقة. |
هذه المثالية التي أخذ البهاء زهير طريقها في غزله تبرز لنا شاعراً بارزاً في فنه قوياً في أسلوبه رائعاً في غزله مجيداً في أدبه، يطالعك بصورة من الحب خالية من الخلاعة والمجون ودموع الأحزان والنوح والبكاء الذي يحيل العينين إلى عينين داميتين مقروحتين وقلب مجروح وتفاهات لا تعبر عن مثالية الحب الكبير وإنما عن ضعف وتخاذل وهوان. |
ولما كان البهاء زهير ينشد الحب الكبير، الحب العميق تنتظم في مثله الإِنسانية بأفرادها وهو يرى في محبوبه رمزاً عالياً ومعنى سامياً لهذا الحب ومثالاً بارزاً بأصدق التعابير في هذا الأمل الذي يجمع بالقلوب فيوحدها وبالعقول فيهذبها، والأفكار فيصقلها إنه حب الإِنسان لمحاسن أخيه الإِنسان... وتعشق الجمال يرفع بالنفس ويعليها ولا يخفضها، ويسمو بها ولا يذلها. |
وبعكس هذا الحب الحقيـر فهو يهدر بالكرامـات ويحط بالأخـلاق ويعصـف بالمثل ويستهـين بعزة النفس فيمرغهـا بالأعتـاب والطرقات وأبواب المنازل. |
وشاعرنا البهاء زهير مثالي في حبه، عزيز في نجواه، كبير في أمله وشوقه وحنينه. |
ويختتم البهاء زهير قصيدته في حبيبه برد كل التغيرات التي طرأت على حبهما، وكل ما يبدو على حبيبه من جفوة وإعراض وقسوة إلى حاسد لا يرضى بتآلف قلبين ولا وفاق حبيبين، ويسره أن يبدو بينهما الشقاق والقطيعة والجفاء شأن الحاسدين وطبع المبغضين لهذه المثالية التي تتمثل في حب البهاء زهير وغزل البهاء زهير، إنها فلسفة الحب الكبير فهو يقول في هذا الحاسد البغيض: |
وحاسد قـال فمـا |
أبقى لنـا ولا تـرك |
ما زال يسعى جهـده |
يا ظبي حتـى نفـرك |
|
وما أحلى هذا الوصف في حاسد قال كل شيء في بغضه، ولم يترك من قوله البغيض أي شيء نجد هذا التعبير يتفق فيما نقوله في حياتنا الجارية بأن فلاناً لم يترك شيئاً من الأسى إلا وقاله في حق فلان. |
وجميل جداً من البهاء زهير وهو يداعب محبوبه بكلمة يا ظبي، وكأن نفور حبيبه يشبه نفور الظبي، وهو نفور يطيب منظره وتلذ مشاهدته، وتشبيه يوافق ما يبدو من إعراض الظبي ونفوره. |
ويبدو أن محبوبه لم يشفق عليه من الهجر والإِمعـان فـي الصـد فهـو من أرباب الجمال الذين يطيب لهم تعذيب المحبين وشقاء العاشقين.. فقد عرفه لنا البهاء زهير تائهاً يسره شقاء محبه، ولكن محبه يرضى بهذا كله ويتقبله برضاء في سبيل حبه وإخلاصه فيقول في لطف ورقة: |
قد سرني هذا الذي |
بي من ضنى إن كان سرك |
إن كان ذلك عن رضا |
ك وقد علمت به فأمرك |
أو كان قصدك في الهوى |
قتلي يطيل الله عمرك |
مولاي ما أحلاك في |
قتل المحب وما أمرك |
ته كيف شئت من الجما |
ل فلست أجهل فيه قدرك |
|
ولقد برهن البهاء زهير بهذا على قوة عزمه وعظيم صبره وتجلده لدى القسوة ومر الجفاء، وهو يرى في كل هذا التعذيب رضاءً مكتسباً من رضاء حبيبه الذي اختار له هذا الطريق، فهو يرضى لنفسه هذا العذاب وتحمل هذا العناء في سبيل وفائه لمحبوبه وإخلاصه. وهو يدعو له بطول العمر وأن يتيه كيف شاء له الجمال أن يتيه فهو لا يغفل قدر الجميل ولا يجهل مكانة الجمال ومهابته. |
هذه صورة من غزل البهاء زهير تطالعنا بروعتها وجمالها، وروح تتحدث عن الحب في عزة وكبرياء... وتمجيد لمعنى الجمال في صورة محبوبه وبهائه وحسنه. |
ولابدّ لنا أن نعرض لهذه الصورة الجميلة في غزل البهاء زهير لنقف على مشاهد وروائع تعرضها علينا ريشة الفنان في إطارها الجذاب فلا يكاد النظر يملها ولا القلب يشغل عنها لأنها من نفثات قلب عظيم وحب كبير. |
|