المقَالة الحاديَة عشرَة |
للبهاء زهير مقابلات عنيفة مع فتاة أحلامه يصورها لنا في شعره كما يصور الرسام لقاء حبيبين وقد طال ترقب أحدهما لهذا اللقاء، وهو حين يتمثل لقاء محبوبته وقد زارته في غسق الليل بعد أن نامت الأعين إلا مقلته، وهي ترقب مطلع الحبيب على موعد، فإذا به ينتقل في خفة روح إلى وصف اللقاء بين قلبين جمعهما الحب العنيف، وهو يصغي لرخيم كلامها وهي تقول حباً وهو يجيب ترحيباً وتقبيلاً على الأقدام لأن قدميها لم تمشيا لغيره وعلى وجه مصون محجب عن سواه، ويشيد بحسن هذا اللقاء وليلته وسهره السعيد، ويروي لنا فضلها في هذا اللقاء، وأن هذه الحفاوة التي تغمره بها حبيبته تفوق أحلامه وآماله، هذه الصور الفنية الرائعة وهو يرددها لنا شعراً مطرباً تبرز لنا فن البهاء زهير وإبداعه وبراعته في التمثيل والتصوير، وكأننا أمام مسرحية شعرية يطيب فيها اللحن ويحلو بها الغناء: |
وزائرة زارت وقد هجم الدجى |
وكنت لميعادٍ لها مترقبا |
فما راعني إلا رخيم كلامها |
تقول حبيبي قلت أهلاً ومرحبا |
فقبلت أقداماً لغيري ما مشت |
ووجهاً مصوناً عن سواي محجبا |
ولم تر عيني ليلة مثل ليلتي |
فيا سهري فيها لقد كنت طيبا |
سأشكر كل الشكر إحسان محسن |
تحيل حتى زارني وتسببا |
حبيب لأجلي قد تعنى وزارني |
وما قيمتي حتى مشى وتعذبا |
|
وفي صورة أخرى نجد البهاء زهير يشكو خيانة حبيبه ونكثه للعهود، وكم يحلف أن لا يكلمه بعد غدره به، ولكنه لا يقوى على هذا الأمر ويحنث في يمينه، ويستصرخ بالناس ليسمعوا شكواه ويقولوا حكمهم في هذا الحبيب الغادر، ونستمع إليه وهو يرفع قضيته إلى الناس في حق محبوبه العابث حتى يفضل أخذ روحه بدلاً من البقاء على هذا العذاب المستمر في قسوة حبيبه وعبثه به. |
فهو يقول: |
يعاهدني لا خانني ثم ينكث |
وأحلف لا كلمته ثم أحنث |
وذلك دأبي لا يزال ودأبه |
فيـا معشر الناس اسمعوا وتحدثوا |
أقول له صلني، يقول نعم غداً |
ويكسر جفناً هازئاً بي ويعبث |
وما ضر بعض الناس لو كان زارنا |
وكنا خلونا ساعة نتحدث |
أمولاي إني في هواك معذب |
وحتام أبقى في العذاب وأمكث |
فخذ مرة روحي ترحني ولم أكن |
أموت مراراً في النهار وأبعث |
|
ويردد هذه الشكوى صارخة بالأمل العميق يعتلج به فؤاده، فقد ضاق ذرعاً بهذا الجفاء حتى ليعد أيام غيابه ويلذ له العتب، وهو ينم على صدق الوداد إذا عاتبه حبيبه وهو لا يجد داعياً لهذا العتب، ولكنه لذيذ من حبيبه ومحبب إلى نفسه فهو المجال الذي يمنحه الأمل في رضاه وحبه، قال في هذا شعراً موفقاً يترجم به عن شعوره الفياض ووده الصادق، يصوره بريشة الفنان ويزينه بجمال الألفاظ بترانيمها الموسيقية الأخاذة مصوغة في أدق المعاني: |
مولاي من سكر الدلال |
عبثت والسكران عابث |
ونكثت عهداً في الهوى |
ما خلت أنك فيه ناكث |
لك لا أشك قضية |
أنا سائل عنها وباحث |
عتـب الحبيب فلم أجد |
سبباً لذاك العتب حادث |
واليوم لي يومان لم |
أره وهذا اليوم ثالث |
مـا كنت أحسب أنه |
ممن تغيره الحوادث |
ويلذ لي العتب الذي |
صدق الوداد عليه باعث |
|
هذه الصورة الفنية الرائعة، بل هو هذا الشعر النابض بأصدق التعابير وأسماها تطالعنا به مسرحية البهاء زهير الشعرية في معان جذابة وألفاظ ترن موسيقاها بأعذب الألحان، لأنها صادرة عن قوة وجودة وإتقان، فهو يصف المقابلة وقد نعم فيها بقرب حبيبه، والمودة وهي تسمو بين قلبين ثم أتى بالفصل الثاني من المسرحية وقد أعرض حبيبه، وجفا واستبد في قسوته وتعذيبه. والفصل الثالث من المسرحية وقد ختمت به في تناسق وإبداع، شكوى وعتاب ومناقشة هادئة رقيقة واحتساب لعدة الأيام وطولها في غياب محبوبه، ولو أنها لم تزد على ثلاثة أيام لأنها كثيرة في حساب المحبين، وهكذا الشعر إذا صدر عن شعور صادق ودقة في المعاني هز النفس وأثار نشوتها، وفي هذا يقول الزهاوي شاعر العراق رحمه الله: |
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه |
فليس جديراً أن يقال له شعر |
|
والبهاء زهير شاعر مطبوع لا يتكلف القول ولا يتعمل في شعره، قد توفرت فيه جزالة اللفظ وحسن الأداء، يتجنب الغريب ويختار السهل وهو إذا أتى بالمعاني أتى بما يلائم بيئته وحياته، والشاعر عندما تصدر معاني شعره من بيئته وحياته يكون أكثر شاعرية فهو يحس بما حوله ويستطيع أن يترجم خواطره بل هو مترجم الشعور من حوله، فالأدب ترجمان الحياة، أما غزل البهاء زهير فإنك لا تجد فيه هجراً أو نكراً ولكنك تجد فيه رقة العاطفة وإيناس السامعين، وهذا ما أخذ عليه الحجازيون في مجالسهم للإِيناس والترويح عن النفس، والنفس إذا لم تجد ما يروحها ويسليها ضاقت وتعقدت طبيعتها وجمدت عاطفتها وخرجت عن إحساسها الإِنساني إلى وحشة وانقباض، وقد ورث البهاء زهير ذلك الانطلاق النفسي من قومه الحجازيين وهم يأنسون في مجالسهم ويروحون عن أنفسهم في غير خلاعة ولا مجون، فذلك لأن الحجازيين فطروا بطبيعتهم على هذا الانطلاق في حياء ووقار فليس بدعاً أن يكون البهاء زهير وليد هذه السجايا ونسيج تلك الطبيعة. |
وهذا صالح بن كيسان المدني الذي كان جامعاً للحديث والفقه وهو من فقهاء المدينة وكان ثبتاً حافظاً إماماً كثير الحديث ينقل إلينا هذه الرواية فيقول: أشهد لقد رأيت سعد بن أبي وقاص خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من نعرف ديناً وفضلاً، رأيته في منزلة بين مكة والمدينة وقد ألقيت له سجادة فاستلقى عليها، ووضع إحدى رجليه على الأخرى. وهو يتغنى: فقلت سبحان الله يا أبا إسحاق، أتفعل هذا وأنت محرم؟ فقال يا ابن أخي، وهل تسمعني أقول هجراً؟
(1)
. |
ومن شعر عروة بن أذينة، وهو من فقهاء المدينة وعبادها، وكان من أرق الناس تشبيهاً: |
قالت وأبثثتها وجدي وبحت به |
قد كنت عندي تحت الستر فاستتر |
أأنت تبصر من حولي؟ فقلت لها |
غطى هواك وما ألقى على بصري
(2)
|
|
فكان البهاء زهير يأتي في غزله بما يتقبله الذوق السليم على تلك السجية التي فطر عليها الحجازيون، يقصدون به الترويح عن النفس لا التأثم ولا الابتذال. |
ونجد في شعر البهاء زهير على بعد المقارنة بين عهده وعهد ابن أبي ربيعة توافقاً وتقارباً في حسن الوصف وجمال التصوير، فهي الطبيعة تأخذ سبيلها إلى النفس وإن بعدت بها العصور فهذا ابن أبي ربيعة يقول: |
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد |
وشفت أنفسنا مما نجد |
واستبدت مرة واحدة |
إنما العاجز من لا يستبد |
ولقد قالت لجارات لها |
ذات يوم وتعرت تبترد |
أكما ينعتني تبصرنني |
عمركن الله أم لا يقتصد؟ |
فتضاحَكْنَ وقد قلن لها |
حسن في كل عين من تود |
حسد حملته من أجلها |
وقديماً كان في الناس الحسد |
|
ثم يخلص من هذا العرض الموفق إلى حسن الوصف، كما يفعل البهاء زهير، وإلى قصة حبه في شعره القصصي فقد قال: |
غادة تفتر عن أشنبها |
حين تجلوه أقاح أو برد |
ولها عينان في طرفيهما |
حور منها، وفي الجيد غيد |
ولقد أذكر إذ قيل لها |
ودموعي فوق خدي تطرد |
قلت من أنت؟ فقالت أنا من |
شفه الوجد وأبلاه الكمد |
نحن أهل الخيف من أهل منى |
ما لمقتول قتلناه قود |
|
ويختتم هذه القطعة الرائعة أو قصة حبه في تلهف على موعد اللقاء وهي تسخر به وتضحك من لهفته وتشوقه ليوم اللقاء حيث قال: |
كلما قلت متى ميعادنا |
ضحكت هند وقالت بعد غد |
|
وهكذا نجد في الغزل الحجازي رقة ومرحاً وروحاً جذاباً، أنس الحجازيون به في مجالسهم، ورقت به عواطفهم، ولطفت به طبائعهم فمرحوا بأحسن القول وطربوا لأجمل التعبير وألطفه، وإذا كان الناس لا يطربون لأحسن القول فبأي حديث بعده يطربون؟. |
وإلى جولة أخرى في رياض الشعر الحجازي وأزهاره الفواحة وغزله البريء ورائدنا في هذا الشعر البهاء زهير وفنه في غزله وأناشيده، فهي مرآة الشعر الحجازي وفنه الأصيل. |
|