شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المقَالة العَاشرَة
عاش البهاء زهير في عصر الرفاعيين، أولئك الذين يمشون على النار كما يزعمون ولا يكتوون بجمرها ولا يؤذيهم لهيبها كما يؤذي سائر الناس، ووسعتهم أرض مصر ووسعت أوهامهم وصدقت ترهاتهم فَأَسْمَتْ تلك الشعوذات كرامات، وتلك الخرافات معجزات لأصحاب الكرامات، ولم يقف حد التصديق بتلك الخزعبلات عند الجماهير بل تعداه إلى تصديق الولاة وحمايتهم لأصحاب تلك السخافات.
وأراد البهاء زهير أن يسخر في غزله من تلك المزاعم وأصحابها، ويتمثل في حبه وأحبابه وقد أضحوا رفاعيين في وسعهم أن يخوضوا لظى نار لشوقه وأنهم لو صدقوا في حبهم الذي يدعونه وأخلصوا لمشوا على الماء كما يفعل الرفاعيون، أو بالأصح كما يزعم الرفاعيون، وهو حين يسخر من هذه المزاعم، وحين يتهكم من أصحابها إنما يقرر بذلك مبدأً حجازياً لا يصدق بالخرافات ولا يقبل هذه السخافات، وهي إذا وجدت في مصر فلن تجد رواجاً في الحجاز، وهي إن ساغت لدى المصريين بحكم اتسامهم في ذلك العصر بميول الفاطميين الذين أشاعوا هذه الأوهام وحضوا عليها ليلهوا بها الناس عن أغراضهم السياسية حين كانت السياسة تضطرب بين قصور بغداد وترد أثرها في قصور مصر وحين كان الناس يفتنون في دينهم وهم يتزلفون إلى أولئك الحكام لينالوا لديهم الحظوة ويستأثروا بمودتهم، وحينما كان الناس يتخبطون في أهوائهم بين مصر وبغداد فهي لم تجد رواجاً لدى الحجازيين، ولم يستسغها الحجازيون، كان الحجاز يقـف كالطود الشامخ بين هذه العواصف لا تزعزعه ولا تلين بها قناته، وكان فقهاؤه وعلماؤه وشعراؤه يترفعون عن هذه الأهواء ويسخرون من أهلها ويتهكمون ويتندرون بمزاعمهم الباطلة ومن أولئك الحجازيين البهاء زهير فقد دخل على مصر فتى مستكملاً، فلم يغيره عن مبدأ قومه الحجازيين ما شهده من أوهام وما عاش فيه من أباطيل، ولا أدل على ذلك ما نقله إلينا المؤرخون عن ذلك العهد.
(جلس أول الخلفاء الفاطميين إلى الناس في مصر، فسأله أحدهم لمن ينتسب فقال: سأعقد لهذا مجلساً، فاجتمع له علية القوم فخرج عليهم وفي يده سيفه، وقد حمل خدمه النقود بين يديه، فلما جلس بمجلسه من القوم قال وهو يشير إلى السيف: هذا نسبي، وإلى المال: وهذا حسبي! ثم نثر على الناس منه ما ألهج الألسنة بالشكر والثناء) لذلك كان الناس لا يناقشون ولا يردون كل ظاهرة من تلك الظواهر التي يتسم بها ذلك العهد، حتى كان عصر البهاء زهير في عهد الأيوبيين وقد ورث أهل ذلك العصر من الفاطميين ما ورثوه من شعوذة ودجل وأباطيل، ومما قاله البهاء زهير لأحبابه وهو يَسْتَحِثُّهم لوصاله وزيارته قوله:
لعلكم قد صدكم عن زيارتي
مخافة أمواه لدمعي وأنواء
فلو صدق الحب الذي تدعونه
وأخلصتم فيه مشيتم على الماء
وإن تك أنفاسي خشيتم لهيبها
وهالتكم نيران وجد بأحشائي
فكونوا رفاعيين في الحب مرة
وخوضوا لظى نار لشوقي حراء
حرمـت رضاكم إن رضيت بغيركم
أو اعتضت عنكم في الجنان بحوراء
فالوعي الحجازي المتفتح هو الذي صرف البهاء زهير عن الاتسام بطابع العصر والتأثر بما خلفه الفاطميون بين المصريين، فهو رمز إلى الرفاعيين في سخريته وقصد في ذلك تهكمه بأولئك المشعوذين.
بقي علينا أن نشير إلى ما في الغزل من لون فاتر لم يَعُدْ حديث المشوق إلى أحبابه عارياً عن جمال التعبير وحسن التصوير ودقة المعنى وعندما تقرأ للبهاء زهير جانباً من غزله أو أكثره نجد حباً عميقاً وروحاً خفيفاً وظرفاً بارزاً وتصويراً رائعاً لمعنى الحب، ولكنه في هذه الأبيات لم يخرج عن طلب ورجاء في صورة باهتة، وقد لا يحسب هذا من روائع الغزل التي عرفت للبهاء زهير، وإنما هو كلام عني فيه بالسخرية في صورة من الغزل الباهت واللون الفاتر، وقد سخر في هذا وتهكم في هذا ليضحك به من يحب أو ليوجع به من سخر منهم، وتسلى بأوهامهم فأنت إذا استمعت إلى قوله:
قلبي لديك فكيف أنـ
ـت على البعاد وكيف قلبي
تحس أن البهاء زهير استطاع أن يصور ولع المحب وشوقه وهيامه حتى إن قلبه ليثب من مكانه ليلحق بحبيبه، فهو يسأل حبيبه عنه وكأنه لم يظفر بجواب من حبيبه، ولم يفز منه برد فيقول في بيت آخر:
فيا صاحبي مالي أراك مفكراً
وحتام قل لي، لا تزال كئيباً
ثم يأتي دور العاذل فيمضي للبهاء زهير ناصحاً، وهي شيمة العاذلين فيطلب منه السلو ويأبى البهاء زهير أن يطيعه، وكأنه في دور عنيف من النضال في الحب والكفاح في الشوق فيرد على العاذل بقوله:
قـال لي العاذل تسلو
قلت للعاذل تتعب
أنا بالعاذل ألهو
أنا بالعاذل ألعب
ليس في العشاق إلا
مـن يغني لي وأشرب
فهو يتسلى بالغناء عن صد حبيبته ولا يسلو كما يريد العاذل، وهو لم يجهر بنوع الشراب ولا يعنينا تحقيق ذلك، وإنما الذي يعنينا براعة تصويره ودقة تعبيره، وها نحن نجده وهو يغافل الرقيب فيقول:
أحدثه إذا غفل الرقيب
وأسأله الجواب فلا يجيب
وأطمع حين أعطفه عساه
يلين لأنه غصن رطيب
ويخفق حين يبصره فؤادي
ولا عجب إذا رقص الطروب
فيا مولاي قل لي أي ذنب
جنيت لعلني منه أتوب
حبيب أنت قل لي أم عدو
ففعلك ليس يفعله حبيب
ولكن عذوله ما زال يتعتب، وما زال يلومه ويثنيه عن عزمه شأن العاذلين، ولكن العاشق لا يصغي لعذوله ومتى كان العاشق على وفاق مع عذوله وهو يتعتب؟ ومتى كان العاذل ناصحاً وهو يخفي وراء نصحه غرضاً خبيثاً؟ لذلك يقول البهاء زهير:
أنا فيما أنا فيه
وعذولي يتعقب
أنا لا أصغي لما قا
ل فيرضى أو فيغضب
يا حبيبي ونديمي
والليالي تتقلب
هـات فيما نحن فيه
ودع العاذل يتعب
هذه الصورة الفنية التي قدمها لنا البهاء زهير تفيض رقة في اللفظ وسمواً في المعنى، وبراعة في الوصف لما يلقاه المحب من جفاء محبوبه ودور العاذل في هذا الغرام، وثورة الحب وهي تطفي في نفس الشاعر فيرضى ويغضب ويثور ويهدأ، وفي غزل البهاء زهير رقة الغزل الحجازي وفي ألفاظه عذوبة وظرف الطبع الحجازي وخلوه من الفحش والتبذل فهو إذا قال (فيا مولاي قل لي أي ذنب) فهو الاستعطاف في أدق معانيه، وإذا قال مستفسراً (حبيب أنت قل لي أم عدو) يعبر عن ثورة فاضت بنفس المحب وأشرقت بعتاب رقيق (ففعلك ليس يفعله حبيب) وكأنه يفسر واجب المحب في منطق رائع وأسلوب طريف، ولكي نبلغ المزيد من فن البهاء زهير في قوله فإن لنا عوداً له ورجوعاً عليه، لنبرز بذلك روائع فنه ومزاياه وأسلوبه الحلو الظريف.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :900  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 11 من 21
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج