شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المقَالة التَاسعَة
غزل البهاء زهير ليس بكاء على الأطلال والدمن، ولا وصفاً لسفر الحبيب على ناقةٍ تجوب الصحراء، ولكنه حكاية تعبر في إبداع لما يجري بين الأحباب في الحياة وما يتبادلونه من حوار وعتاب وزفرات وأشواق وتصوير راق لمجالس ممتعة بين عاشقين، ووصف ساحر سعيد للقاء بين حبيبين حرما نعمة الوصل زمناً، وقاسيا من عذاب الحرمان والصدود وقسوة الجفاء عهداً بتسلط العاذل ووشايته، وهو إذا تحدث عن الحب سما بحديث الحب عن المتع الجنسية والشهوات الآثمة واعتبره حباً فيه من الفضيلة وفيه من التضحية وفيه من التفاني الشيء الكثير فهو إذا قال هذا أو أراد أن يقوله أرسله شعراً معبراً عن خلجاته ونفثاته أجمل تعبير، في إطار فني سكب عليه من إبداعه وتصويره ما يملك به زمام القلوب فهو يقول عن الحب:
لحى الله قلباً بات خلواً من الهوى
وعيناً على ذكر الهوى ليس تذرف
وإني لأهوى كل من قيل عاشق
ويزداد في عيني جلالاً ويشرف
وما العشق في الإِنسان إلا فضيلة
تدمث من أخلاقه وتلطف
ويعظم من يهوى ويطلب قربه
فتكثر آداب له وتظرف
ويفصح عن هذا الحب وقد سما بنفسه عن اللهو والعبث، ورفع به إلى مراتب العزة والكرامة فيقول:
أعشق الحسن والملاحة والظر
ف وأهوى مكارم الأخلاق
ثم يصف لنا هذا الحب وقد استهواه الحسن حتى ليهيم بالمنظر الجميل والغض الرشيق، فيعلن عن هذا فيقول في هذا قولاً رقيقاً يعبر عن طبيعة إنسانية ونفس مرهفة الإِحساس، شاعرة بجمال الوجود فهي تتعشق الجمال في ألوانه المتعددة:
إني لأهوى الحسن حيث وجدته
وأهيم بالغض الرشيق وأعشق
وهو يحمد للحب فضله عليه وهو يرى أن الحب مهذب للطبائع مكرم للنفس، يرفع بأخلاق الأحباب إلى مراتب السمو والكمال، ويدين بمجده وعليائه للحب لأن الحب صيره إنساناً كامل الصفات حسن الفعال ويقول:
جزى الله عني الحب خيراً فإنه
به ازداد مجدي في الأنام وعليائي
وصير لي ذكراً جميلاً لأنني
أحسن أفعالي لتسمع أسمائي
فالبهاء زهير بحبه صاحب نظر دقيق ومذهب رفيع، لا يميل بحبه إلى الميوعة والرقاعة ولا يجنح في هواه إلى التبذل والعبث، إنه يريد حباً يحفظ له كرامته ويصون له سمعته، فهو في الغزليين صاحب مذهب مستقل عن التهتك والإِباحة وارتكاب المجون.
والبهاء زهير بهذا الحب يعبر عن طبيعة حجازية تضيق بالتهتك والإِباحة وتمقت وتزدري غزل الخلاعة والمجون. حتى إذا ما انحرفت الطبيعة في أحد أبنائها لاقت لوماً وسخطاً وتقريعاً، ولهذا حديث يطول نقتضبه اقتضاباً ونأتي به بما يتناسب من شواهد وتدليل.
قدم الشاعر عمر بن أبي ربيعة على أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيـز أحد خلفاء بني أمية ليمتدحه وهو ابن عم أمير المؤمنين، فاستأذن للدخول عليه بواسطة أحد جلسائه واسمه عون بن عبد الله الهذلي فقال عون: يا أمير المؤمنين ابن عمك عمر بن أبي ربيعة يستأذن للدخول عليك كغيره من الشعراء، قال عمر بن عبد العزيز وكان يعرف في غزل ابن أبي ربيعة لهواً ومجوناً فقال:
ذلك الفاسق لا قرب الله قرابته، ولا حيا وجهه، أليس هو القائل:
ألا ليت أني يوم حانت منيتي
شممت الذي ما بين عينيك والفم
وليت طهوري كان ريقك كله
وليت حنوطي من مشاشك والدم
ويا ليت سلمى في القبور ضجيعتي
هنالك، أو في جنةٍ أو جهنم
واختتم أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز روايته لشعر عمر بن أبي ربيعة بقوله:
(فليته والله تمنى لقاءها على حل، ويعمل عملاً صالحاً والله لا يدخل عليّ).
نلمس من هذا مدى ترفع الحجازيين عن الفحش والمجون في غزلهم فهم لا يرضون أن يستمعوا إليه في مجالسهم، وينفرون من صاحبه ويضيقون به.
لذلك خلا الغزل من المجون والخلاعة في شعر الحجازيين، وترك لنـا أثراً فنياً زاهراً تبدو فيه روعة الفن وحسن التصوير والقدرة على الإِبداع والابتكار في أدق المعاني وأحسن الصياغات، حتى كان لهذا الأثر الأدبي شأنه الخالد في الأدب العربي بل إن الأدب العربي في جميع البلاد العربية، استمد روائعه من الفن الحجازي وروعته وجميل إبداعه وحسن ابتكاره في الغزل، وقد قال عن هذا الفن الدكتور طه حسين ما يكفينا حجة ودليلاً على صحة ما نقوله وصدق ما نذهب إليه، فقد قال وهو يذكر الغزل الحجازي الحلو الظريف كما سماه:
(فنحن مدينون لهم بالغزل، ونحن مدينون لهم بالغناء، ونحن مدينون لهم بكل هذه الناحية الحلوة الظريفة).
نسوق هذا دليلاً نستمد منه دراستنا لشعر البهاء زهير وغزله في شعره وانطباع أثر البيئة الحجازية والطبع الحجازي على فنه. وإذا كان الغزل البريء وقد افتتحت به قصائد الشعراء لإِيناس السامعين، وسلك فيه الشعر الحجازي هذا المسلك وطَلَبَ له المستمعون وهو يلقى عليهم، وإذا كان الغزل قد نحا نحواً فنياً طربت له النفوس، وتغنى به المطربون فذلك لأن الحجازيين لا يضيقون بهذا الغزل ولا ينفرون منه ولا يلومون عليه وهم من رقة الطبع وسمو النفس ما شهدت به آثارهم، أما أن يكون الغزل نداءً جنسياً ولهواً شهوانياً يعبر عن طبيعة منحرفة وميول فاسدة يمقتها الطبع الحجازي ويزدري أصحابها، فإن في هذا الغزل ضرراً على الأخلاق وانتهاكاً لحرمات الأعراض إذا ما تعرض لوصف مفاتن وإثارة الغرائز الجنسية والمتع الصبيانية كما يفعله أدباء الفراش في أدبهم الرخيص، وإن المجتمع الحجازي ليمقت هذا كل المقت، وإن الغزل في الشعر الحجازي يعف عن ذكره ويسمو عن تفاهته، وإذا ما انحرفت الطبيعة في أحد أبنائها كما قلت، وسلك هذا المسلك الفاحش، فلا بدّ أن يلقى نصيبه من اللوم والتقريع لما لمسنا هذا بقصة عمر بن أبي ربيعة الشاعر لدى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بحيث لم تشفع قرابته له في توجيه اللوم والسخط عليه. ومع هذا فإن الشاعر عمر بن أبي ربيعة أتى بروائع الغزل ومعجزات الفن، وفي هذا المعنى يقول الدكتور طه حسين عن الغزل في الشعر الحجازي: (أليس مما يلفتك أنك لا تكاد تظفر بشيء من الفحش في عبث هؤلاء الحجازيين ولهوهم) إلى أن قال الدكتور: (لم يوجد الغزل في الأدب العربي مرتين كما قلت، وإذا كان عمر بن أبي ربيعة زعيم الغزليين في العصر الأموي فيجب أن يكون زعيم الغزل في الأدب العربي كله فأنت مهما تقرأ من الغزل العربي فلن تجد في هذا الغزل ما تجده في الغزل الأموي من صدق اللهجة وصفاء الطبع، ومن التمثيل الصـادق الصحيح لنفس الشاعر بل لنفس الجماعة التي يعيش فيها، ومن إظهار هذه النفس على ما كانت عليه من سذاجة جذابة وسهولة محببة إلى القلوب لن تجد شيئاً من هذا كله في غزل العباسيين وأهل الأندلس، وغيرهم من شعراء البلاد العربية المختلفة) سقنا هذه الأدلة والشواهد اقتضاباً لنخلص منها إلى بحثنا عن البهاء زهير وغزل البهاء زهير، وفنه الذي هو قبس من تلك الشعلة التي أضاء نورها أجواء الأدب العربي في سائر أقطاره، فاقتبست منه نوراً أو تراثاً خالداً مع الزمن ازدهرت به تلك الأجواء وأعطت ثمارها، وتعطرت وزكت أغراسها، وإن الجزيرة العربية قد صدرت الرجال وبعثت الأمجاد وبسطتها بين الأمم فهي قمينة بأن تؤدي رسالة الأدب وتتصدر مكانه الأسمى.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1133  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 10 من 21
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج