المقَالة السَّادسَة |
ونرجع على هجاء البهاء زهير مرة ثانية لنجد أنه خلا من الشتم والسباب، ولا يزيد على وصف المهجو بالثقل ذلك أن الطبيعة الحجازية كما أسلفنا لا تميل إلى العبث بقيم الناس وأخلاقهم وتعف عن النيل من أعراضهم، ولا أدل على ذلك ما أوردناه في قولنا لما هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر واستعدى عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونورد هنا قولاً آخر يؤكد ما ذهبنا إليه في عفة الطبع الحجازي وسموه وارتقائه عن العبث واللهو بأقدار الناس وأعراضهم، لقد هجا الأخطل أحد الأنصار فقال: |
ذهبت قريش بالمكارم كلها |
واللؤم تحت عمائم الأنصار |
|
إلى أن قال: |
فدعوا المكارم لستم من أهلها |
وخذوا مساحيكم بني النجار |
|
وكان مع معاوية النعمان بن بشير الأنصاري فلما بلغه الشعر أقبل حتى دخل على معاوية، ثم حسر العمامة عن رأسه وقال: يا معاوية، هل ترى من لؤم؟ قال: ما أرى إلا كرماً قال فما الذي يقول فينا عبد الأراقم؟ قال: لقد حكمتك فيه. قال: والله لا رضيت إلا بقطع لسانه، فقال معاوية: قد وهبتك لسانه. وبلغ الأخطل فلجأ إلى يزيد بن معاوية فركب يزيد إلى النعمان فاستوهبه إياه فوهبه له. لذلك كان الهجاء المقذع الذي يخرج بالهاجين إلى انتهاك أعراض الناس وأقدارهم مرذولاً، وإذا كان التهاجي قد وقع في الرد على المشركين في عهد الرسالة فما كان إلا دفاعاً عن الإِسلام وجهاداً بألسنة المسلمين كما جاهدوا بأسلحتهم، ولم يكن تعدياً وإنما كان دفاعاً ورداً على المرجفين، وكان في حد الإِشادة بمبادىء الإِسلام وأمجادها. |
في رواية مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اُهجوا قريشاً، فإنه أشد عليها من رشق النبل فأرسل إلى ابن رواحة، فقال اُهجهم، فهجاهم فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه، ثم أدلع لسانه، فجعل يحركه، فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعجل. فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها، وإن لي فيهم نسباً، حتى يلخص لك نسبي، فأتاه حسان، ثم رجع، فقال: والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، قالت عائشة رضي الله عنها: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤيدك، ما نافحت عن الله ورسوله. وقالت رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلميقول: هجاهم حسان، فشفى واشتفى. قال حسان: |
ألا أبلغ أبا سفيان عني |
مغلغلة فقد برح الخفاء |
هجوت محمداً فأجبت عنه |
وعند الله في ذاك الجزاء |
هجوت محمداً براً تقياً |
رسول الله شيمته الوفاء |
فإن أبي ووالده وعرضي |
لعرض محمد منكم وقاء |
|
إلى أن قال: |
فمن يهجو رسول الله منكم |
ويمدحه وينصره سواء |
وجبريل رسول الله فينا |
وروح القدس أرسلَهُ كفاء |
|
وهكذا كان هجاء المسلمين لمن تعرض لهم دفاعاً عن الله ورسوله ورداً على المشركين، نكتفي بهذا القدر من التدليل لنرجع بذلك للإِفصاح عن البيئة الحجازية التي نشأ منها البهاء زهير، لقد قال في هجائه لجليس ثقيل: |
وجليس حديثه |
للمسرات طارد |
مثل ليل الشتاء فهـ |
ـو ثقيل وبارد |
|
والثقيل البارد تطلق على أشد الناس ثقلاً في المجتمع الحجازي حتى اليوم، تلك هي العبارات التي يوردها البهاء زهير تدلل على حجازيته الأصيلة، أما أن يكون هذا الثقيل طارداً للمسرات وشبيهاً بليل الشتاء فهو من أحسن التصوير والإِبداع في التعبير مما نجده شائعاً في شعر شاعرنا الحجازي الظريف. |
ويقول في آخر وقد عرفه صديقاً له، لكنه ثقيل عليه وعلى جلسائه ولا بدّ أن يكون مصدر هذا الثقل المضايقات التي قد تحدث من بعض الأصدقاء في أقوال أو أفعال فلا يسع البهاء زهير وقد وقع له مثل هذه المضايقات إلا أن يقول: |
لنا صديق سَيِّىءٌ فعله |
ليس له في الناس من حامد |
لو كان في الدنيا له قيمة |
بعناه بالناقص والزائد |
|
وهذه العبارة الأخيرة تنم عن تعبير حجازي مألوف وهي البيع بالناقص والزائد، ونستمع إليها كثيراً في مجتمعاتنا وكأنها درجت من عصر البهاء زهير أو قبله حتى اليوم وقد درج على ألسنة الناس قولهم كهذا القول بالضبط. |
ويشكو البهاء زهير من لؤم صديق آخر وخبثه وسـوء طويتـه، وكثيراً ما يقع الإِنسان في هذا النوع من الأصدقاء وهم يظهرون غير ما يبطنون ويضطر الإِنسان إلى صداقتهم مكرهاً لما تقتضيه الأحوال والظروف، حتى إن أحد الشعراء عبر عن هذا بقوله: |
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى |
عـدواً لـه ما من صداقته بد |
|
وفي هذا النوع قال البهاء زهير: |
صديق لي سأذكره بخير |
وأعرف كنه باطنه الخبيثا |
وحاشا السامعين يقال عنه |
وبالله اكتموا هذا الحديثا |
|
ما أظرف البهاء زهير وألطف أسلوبه في التعبير وهو يسدد الهجاء في حسن لفظ ومعنى دقيق ويجل السامعين لهذا الهجاء بقوله - حاشى السامعين– هذه العبارة وبالذات نسمعها في مجالسنا اليوم في الإِشارة إلى أمر بغيض أو مكروه.. |
ويقول في آخر آلى على نفسه أن لا يترك البهاء زهير حتى يكاد أن يخرج روحه فهو قد ضاق به ذرعاً فقال: |
وعائد هو سقم |
لكل جسم صحيح |
لا بالإِشارة يدري |
ولا بالكلام الصريح |
وليس يخرج حتى |
تكاد تخرج روحي |
|
لقد دعاني إعجابي بالبهاء زهير إلى أن لا أمر بشعر له إلا ويستوقفني منه لطف الروح وحسن الذوق وبراعة التصوير في كل ما يقصد إليه من أغراض الشعر وفنونه، فأنت لا تحكم على جمال صورة من صور شعره الرائعة إلا وتطالعك غيرها بأروع وأفتن من سابقتها، ويزيد إعجابي به في حجازياته التعبير وما يصدر عنه من كلمات تلصق بالطبع الحجازي، وهو لا يريد أن يخرج عنها قيد شعرة ليؤكد بهذا طبيعته الحجازية، وجميل من الشاعر أن يحس بإحساس أمته ويعتز ويفاخر بعادات بلاده وتقاليدها الفاضلة، والكلمات الدارجة إذا وردت في شعر البهاء زهير فهي مصوغة بالقواعد منمقة بحسن البيان، وهنا تتجلى قدرة شاعرنا وقوة شاعريته. |
ولنقف قليلاً عند هذه الصورة التالية التي تعبر عن وصف رائع لغافل لا تجدي فيه كثرة اللوم ولا التوبيخ فقد قال: |
أيها الغافل الذي ليس تجدي |
كثرة اللوم فيه والتوبيخ |
إنها غفلة لك الويل منها |
ما رواها الرواة في التاريخ |
وكما قيل هب بأنك أعمى |
كيف تخفى روائح البطيخ |
|
ولا أريد أن أعلق على قوله بشيء فهو قد أفصح فيه بما لا يحتاج إلى تعليق مع ترفعه عن الشتم والسباب شأنه في كل هجائه أنه يحتفظ في هذا القول بوقاره واحتشامه، يتجنب التبذل والبذاءة والقدح في عرض المهجو، ولكنه يوجعه توبيخاً ويبرزه في أشنع صور الغفلة وأرذلها. |
ويبدو لنا ظرف شاعرنا وخفة روحه وهو يصور لنا في فكاهة شر ثقيل قد ابتلي به، وعجز عن إبعاده بشتى الوسائل المنفرة فقد قال: |
بحق الله متعـ |
ـني من وجهك بالبعد |
فما أشوقني منك |
إلى الهجران والصد |
فما تصلح للهزل |
ولا تصلح للجد |
وماذا فيك من ثِقَلٍ |
وماذا فيك من برد |
فلا صبحت بالخير |
ولا مسيت بالسعد |
|
وتقع كثيراً هذه العبارات بيننا (متعني منك بالبعد) وفلان (لا يصلح لهزل ولا لجد) (ولا صبحت بالخير ولا مسيت بالسعد) كل هذا يؤكد حجازية شاعرنا والتزامه لطبيعته الحجازية في شعره، ونكتفي بهذا القدر من عرض شعره في الهجاء لنمضي معه في سائر الفنون التي طرقها وارتاد أجواءها. |
|