المقالة الرابعة |
وإذا كان البهاء زهير يؤدي المديح في جانب من جوانب الرغبة، ويدلل بمديحه على قصده وغايته، فإنه لا يخرج بهذا عن سنن الشعراء في تمجيد ممدوحيهم بما يستحقونه من تقدير وثناء. |
فقد قال البهاء زهير وهو يمدح هذا الأمير وقد انفصل عن خدمته: |
آيات مجدك ما لها تبديل |
وعلو قدرك ما إليه سبيل |
أسفي على زمن لديك قطعته |
وكأنني للفرقدين نزيل |
وإذا انتسبت بخدمتي لك سابقاً |
فكأنها لي معشر وقبيل |
هذا هو الأدب الذي أنشأته |
فاهتز منه روضه المطلول |
|
وهو بهذا لا يأتي بالتكلف في المديح، بل يذكر نواحي إنسانية تكاد تكون لازمة لممدوحه لا إغراق فيه ولا اغتراب. وهو لا يترك في مديحه الإِشارة إلى غرضه فهو يبدي أسفه لانفصاله ويعبر عن هذا بأسمى تعبير، فيشبه الزمن الذي قطعه لدى سيده وانفصاله عنه كأنما هو انفصل عن منزله بالفرقدين ويحسن الاختتام في أبياته بأن هذا الشرف الذي ناله يماثل اهتزاز الروض المطلول، وهذا التصوير الرائع وحسن التشبيه واكتمال المعنى يبرز لنا قدرة البهاء زهير وسمو مكانته الأدبية. |
وهو في عتبه لا يكاد يفارق جانب التدليل على إخلاصه وتفانيه في حبه لأميره فقد قال في قصيدة مطلعها: |
أعلمتم أن النسيم إذا سرى |
نقل الحديث إلى الرقيب كما جرى |
|
ومنها: |
مـولاي مجد الدين عطفاً إن لي |
لمحبة في مثلها لا يمترى |
يا مـن عرفت الناس حين عرفته |
وجهلتهم لما نأى وتنكرا |
خلق كماء المزن منك عهدته |
ويعز عندي أن يقال تغيرا |
مولاي لم أهجـر جنابك عن قلى |
حاشاي من هذا الحديث المفترى |
وكفرت بالرحمن إن كنت امرأً |
أرضَى لما أوليته أن يكفرا |
|
وهو بهذا العتب لم يبالغ ولم يجاوز الحد، فهو كان مجهولاً وعرف بين الناس بفضل أميره، وهو لا يزال يؤكد إخلاصه وولاءه، لصاحب الفضل. |
نمضي مع البهاء زهير في رياض شعره، وننتقل بين أزهار رياضه الفواحة بالفن الحجازي الأصيل، الفن الذي يعبر عن طبيعة متأثرة بكل ما حولها من مثل ومبادىء وقيم في محيطه الذي صنع أكبر حدث في تاريخ الأمم والأجيال، لغة وثقافة وأمجاداً، ورجالاً وجهوا التاريخ من وراء السدود المنيعة، صنع هذا المحيط الشعراء والعلماء والفقهاء، قدم شعراً ينبعث من القلوب المتوثبة للمجد والأحاسيس المرهفة، تتأثر بالجمال وتتغنى بالحسن وهي في صراعها مع العواصف ونضالها مع الأحداث، ذلك أن البهاء زهيراً عاش بأحاسيس قومه وطباع عشيرته حتى ولو أنه نزح عنها وفارقها، طباع تستمد عزمها من تراث الأجداد وتنبع أفكارها من ينابيع البطولة التي نشرت مهابتها وجلالها بين السهول والبقاع وعلى الكثبان والرمال، وتلاقت مع الجبال الجرداء وحرارة الصحاري والرمضاء، فكانت بطولة منصهرة بأحداث الزمن وطبيعة مناخها وما ورثته من قيم ومبادىء عليا وتراث مجيد، فأمدت العالم بروائعها وأخرجت إلـى الناس ما بقي خالداً بمر الأيام والدهور. |
فالشاعر الحجازي إذا عبر عن آلامه فإنما يعبر بذلك عن آلام أمة بأسرها وإذا فاخر فإنما يفاخر بمجد عريض بسط نفوذه إلى ما وراء حدوده في سماحة وتعاون ووئام، وإذا امتدح فإنما يمتدح خصالاً يعتز بها ومحامد يذود عنها، وإذا تغنى فإنما يتغنى بالأمجاد ويطرب لها ويشدو بالحسن فيطرب بأغانيه وأناشيده الأحاسيس ويهز بها المشاعر التي تعتلج بالأشواق وتضطرم بالهيام في صدق وفي قوة وحسن أداء، لأنها صادرة من الأعماق، ولدت مع طبيعتها، وفطرت على سليقتها، لا تكلّف ولا تصنّع ولا رياء. |
ولا نغالي إذا ما قلنا إن الشعر العربي قد استمد قوته من روائع الشعر الحجازي، وإذا لم تصدر الخواطر من أحاسيس مرهفة ومشاعر صادقة فلا ثمة كيان يعبر عن مثال كامل من مثل الإِنسان الكاملة. |
وإذا كان الدكتور طه حسين وصف هذا الشعر بقوله: |
(أتجد في هذا الشعر لفظاً حوشياً أو مبتذلاً؟ |
أتجد فيه معنى جافاً أو سخيفاً؟. |
ألست تحس في لفظه جلالاً، وفي معناه رقة وليناً، وفي روحه ألماً ولوعة؟). |
فهو لم يصفه بهذا الوصف جزافاً ولم يقله عبثاً، وإنما قاله عن خبرة ودراسة ونقد وتحليل وترجيح واقتناع، وهو قد شاهد في هذا الشعر جمالاً وأحس بجماله وأعجب بروائعه، ونحن لا نمضي في هذه الخاطرة وقد حثنا لها شعر البهاء زهير إلا لندلل على مدى تأثير البيئة وانفعالات الشاعر بتلك المؤثرات، وما تركتهُ في فنه وفي شعره وفي نفسه من انطباعات واتجاهات. |
ويطيب لنا أن نمضي مع البهاء زهير في عرض آخر لمديحه الذي ظهر فيه بمظهر الترفع عن الحاجة وصون الكرامة وإعزاز النفس، وهو يشتد بالملك الصالح عند اتصاله بخدمته وانفصاله عن خدمة اللمطي وأول هذه القصيدة: |
لكم أينما كنتم مكان وإمكان |
وملك له تعنو الملوك وسلطان |
|
ومنها: |
هـو الملك المسعود رأياً وراية |
له سطوة ذلت لها الإِنس والجان |
غـدا ناهضاً بالملك يحمل عبئه |
وأقرانه ملء المكاتب ولدان |
وتهتز أعواد المنابر باسمه |
فهل ذكرت أيامها وهي قضبان |
|
أما أن تهتز أعواد المنابر باسمه فهو يريد بهذا إطراء ممدوحه وتعظيمه، وقد سبقه البحتري في هذا الإِطراء لممدوحه حين قال: |
فلو أن مشتاقاً تكلف فوق ما |
في وسعه لسعى إليك المنبر |
|
ولكن البهاء زهيراً قد حذا هذا الحذو لأنه وجد فيه تعبيراً شيقاً لمقام ممدوحه، وهو تماثل في الإِطراء وإن اختلف في لون التصوير. |
ومنها: |
أعلل نفسي بالمواعيد والمنى |
وقـد مـر أزمان لذاك وأزمان |
أرى أن عـزي مـن سواك مذلة |
وأن حياتي من سواك لحرمان |
وليس غريباً مـن إليـك اغترابه |
لـه منه أهل حيث كان وأوطان |
وقد قرب الله المسافة بيننا |
فها أنا يحويني وإياه إيوان |
|
لقد ترفع البهاء زهير في هذا المديح عن التعريض بالحاجة والقصد وهو قد أحس أن ذلك لا يليق بمقام الملوك، ولا يحسن به أن يعرض بهذا أو بعضه كما كان يفعل في مدح الأمير اللمطي. |
وفي مدح آخر يمدح فيه الملك الصالح بعد رجوعه من اليمن: |
أتتك ولم تبعد على عاشق مصر |
ووافاك مشتاقاً لك المدح والشعر |
إلى الملك المسعود ذي البأس والندى |
فأسيافه حمر وساحاته خضر |
|
|