أقوال في صاحب الديوان |
... يُقارن ويُقوّم الشكل الفني "لنور ونار" بأصوات شعراء من مدرستك لا تزال الطرق القديمة تتمادى في نتاجهم ولكنهم يخلقون. والخلاّقون يترقون عبر المذاهب والمدارس والأزمنة من غير أن ينفي خلقٌ خلقاً آخر. أعني بهؤلاء بدوي الجبل والجواهري والشاعر القروي وشفيق معلوف وغيرهم من فرسان المدرسة القديمة، كيما تكون المقارنة من نوعها. وحين يُنظر إلى التعبير الفني لشعرك من هذه الزاوية أي ضمن إطار مدرسته، لا بد من أن نعده من هذه الأصوات العالية المتميزة التي لا تزال تبدع بطريقتها الخاصة كما يبدع الشاعر الحديث الأصيل بطريقته الخاصة. وتبقى عملية النقد راضعة أبدأ من ذات الناقد. وأنا أعدها تحليلأ للناقد أكثر من المنقود. وبيقى الميزان الذاتي النقدي الذي يحسم كل جدل هو: إن الشعر الصحيح الحق هو ما خلق شيئاَ حياً يؤثر في النفس والفكر ويملأ العصر مع أكبر مساحة من الحياة... وفي شعرك الحشد الكبير من هذه التأثيرات. |
|
* |
... يمتاز شعر زكي قنصل بصفاء ديباجته ورقتها ونصاعتها وحلاوتها، فشعره سلس فخم فيه أناقة الكلمة وإشراقها وترفها وعذوبتها. وهو قادر على اقتناص المعاني البكر من مكانها الحصين وحشد الخيالات الوضيئة والصور المشعّة والأفكار الجديدة من غير تعمّل أو تصنّع أو فوضى. ومن عيوبه أنه لا ينقى حنطته من الزؤان، فكأنه أبو تمام يحرص على شوائب شعره مثلما يحرص على محاسنه. ومع هذا فلو أردت أن أصنّف شعراء الجيل لوضعته في الصف الأول بينهم، ولا مجاملة. |
|
* |
... والشعر -توأم الحياة- إن لم يكن هجرة حياة وغربة، إن لم يكن صهر معطيات العالم الراهن في ذات الإنسان الشاعرة وإعادة خلقها وصياغتها معطيات جديدة لعالم جديد، كان أقرب إلى طبيعة الموت منه إلى حقيقة الحياة. مثل هذه الهجرة هي التي يفتقدها الناظر في ديوان زكي قنصل. لقد أدخل الشاعر إلى ذاته قضايا عالمه العربي وانفعل بها أيما انفعال، ولكنه إذ عاد فأخرجها شعراً وجدنا أنها لم تُصهر في أتون الذات ولم تتحول. لم تهاجر بل رجعت إلينا مألوفة معادة مكرورة جماهيرية خطابية كما هي. |
|
* |
أخي زكي: ما عرفت سعاد
(1)
التي خلقها الله من لحم ودم، ولكني عرفت سعاد التي خلقها خيالُك فأحببتُها حتى شعرت كما لو كانت بعضاً مني. وما أحببتها إلاَّ لأن القلب الذي يحدثني قلب صادق الإحساس عميقه، فهو يكوي القارئ بلوعته وينقل إليه نبضاته المضطربة ونبراته الحزينة في منتهى الذوق. ألا ألف رحمة على ثرى سعاد التي ألهمتك يا أخي هذه الطرفة من الشعر الوجداني الذي قلما طالَعْتُ ما يدانيه في لغة الضاد من قديم وحديث. |
|
* |
... عشت أسبوعاً مع شعرك في "نور ونار" وانتهيت إلى الإقرار بأنك من الشعراء القلائل الكبار الذين يحلّقون دونما كلفة، ويبسّطون دونما إسفاف، ويمتحون الأنغام والإلهام من موهبة طبيعية فيهم . فأنت في الأرجنتين حامل المشعل الذي حمله أبو ماضي في أميركا الشمالية وشفيق معلوف في البرازيل، وهيهات أن تجد المَهَاجِر من يتناوله من يدك منى شُلَّ ساعدك بعد عمر طويل. |
|
* |
... إن شعرك يمثل الشعر العربي الأصيل في ديباجته ورونقه ومعانيه، وإنه ليدخل السرور على قلب كل شغوف بلغة الضاد، متلذذ بمآثرها، منفعل ببيانها. وإنك واحد من أعلام المهاجر الباقين بشعرك وبيانك وحياتك الوطنية. |
|
* |
... ليس في شعر زكي قنصل تجربة عميقة الجذور، ولا شبه تجربة. يكاد يكون مجموعة خواطر وآراء بدائية لا ينتظمها سلك ولا يربط بينها سبب. هل هذا هو الشعر؟ هل هذه هي الرسالة التي يحميلها الشاعر؟. لكم تساءلت وسألت: أين هي العلاقة بين زكي قنصل والحياة. أين هو الطريق الذي يقودنا إلى نفس الشاعر ومنها إلى ما يحيط به من هموم ومشاكل ومشاغل؟. في يقيني أن زكي قنصل من القائلين بالفن للفن، وهذا هو سر انفصاله عن المجتمع وبقائه بعيداً عن حركة الشعر النضالي الجديد. |
|
* |
... في شعرك عذوبة تشد النفس بخيوط غير مرئية يرتاح إليها القلب والذهن معاً، وفيه فخامة تملك على القارئ مذاهب الطريق، وقلما اجتمعت العذوبة والفخامة. وأنا أتتبع أخبارك وآثارك بشغف وعناية |
وأتغنى بشاعريتك في كل مجلس. أما عيوبك فكثيرة أعياني حصرها فجمعتها في عيب واحد: هو أن لا عيب فيك. |
|
* |
... لقد قرأت لزكي قنصل عدداً غير قليل من منظوماته فاستخلصت منها أن الشاعر لا يزال يركب الناقة في عهد الصاروخ ويغني على غلوائه في عصر الثورات الاجتماعية والانقلابات الفكرية. وإذا صح أنه تفاعل مع الأحداث ونوّع في الأغراض فإن سيطرة الشعر التقليدي الذي ابتعثته الردة من مثواه ظاهرة الأثر في شعره، وقد نترفق فنقول في أكثر شعره. ونحن نستغرب أن يرتفع هذا الصوت من المهجر وفيه ظهرت أول محاولة لتحرير الشعر من قيوده وأصفاده. |
|
* |
... إن أسلوبك الشعري يتميز بصفاء النبرة وجزالة الكلمة وعذوبة الجرس، ولا تعوزه العاطفة الصادقة والتجربة العميقة والخيال المرهف الشفاف، وقد أصبحت هذه المزايا من سماتك البارزة وعلاماتك القارقة. وأشهد علناَ أنك من الشعراء الذين أطرب لما في أوتارهم من شجو وحنان وما في حناجره من حلاوة نغم ونعومة هديل. |
|
* |
.... ولا أكتمك يا زكي أني أطرب لشعرك الشجي ينساب طوراً كالجدول الرقراق ويهدر تارة كالسيل الجارف، وإني لأراك نسراً من نسور الشعر العربي تبسط جناجيك على السحب وتبني أوكارك في القمم العاليات. |
|
* |
... زكي قنصل شاعر حساس بارع الخيال، ومصوّر حاذق تنطق بين يديه الجوامد الصم بعدما ينفح فيها نسمته الشعرية. |
|
* |
... ويغلب على شعر زكي قنصل طابع الشعر العمودي فهو يرسف في الأغلال والقيود ويعتز بأنه يرسف في الأغلال والقيود. لقد حبس نفسه في صومعة الألفاظ والبهارج وارتبط بأساليب الأولين. زكي قنصل لم يفتح رئتيه لنسمات الشعر الجديد، ولعلها هبّت عليه فأوصد دونها منافذ برجه. الشعر عنده غاية لا وسيلة، أي أنه للمتعة لا للفائدة. |
|
* |
.... وعلى ضوء هذا الفهم للشعر أفتح ديوانك فأرأك أميناً مع نفسك صادقاً مع مشاعرك، لا تتعبد للأصنام ولا تسير في ركاب الطغيان، بل تجاهر بالقول الصراح وتقول الحق ورزقك على الله. وشعرك معمد بالفن، مشرب بالروح، فيه العذوبة المنشودة والرقة التي تستهام، وفيه فوق ذلك صورة واضحة لضمير حي هو للشاعر عاصم من الانزلاق. |
|
* |
... ومن الظواهر التي تستلفت النظر، أن المهجريين يبدؤون متحررين، ثم ينتهون محافظين، وزكي قنصل من أعلام هذه المدرسة يتميز شعره بعذوبة الكلمة وأناقة التعبير وبراعة الأداء، ولكنه يزخر بآفات الشعر التقليدي من حفاظ على نهج الأولين وتمسك بأساليبهم. فهو يعتمد على اللفظة الراقصة البراقة أكثر بما وراءها، وهو – على ما يبدو – يطرب لجلجلة القافية وانسيابها أكثر مما يطرب للمعنى الذي يجب أن تُسخّر له القافية. وتلك سمة الشعر الذي دالت دولته ولم يبق له مكان في هذه المرحلة من تاريخنا. |
|
* |
... وإذا كان جيل الخلق والتكوين المهجري قد قضى، فإن زكي قنصل لا يزال من أعذب عنادل المهجر تغريداً. إن شعره هو شعر الشباب والعنقوان، ولا يزال يفوح منه شذا المدرسة المهجرية إبان زهوتها. بل إن زكي واحد من الندرة النادرة من شعراء المهجر الذين لم يذبل العنفوان في شعرهم ولا باخ لون شاعريتهم. |
|
* |
.... كانت يومئذٍ مدرسة الشاعر القروي جرس اليقظة العاصف الذي يفتتح عيون العرب على أوضاعهم المؤسفة، وكان من بناة هذه المدرسة إلياس فرحات وأمين مشرق ونسيب عريضة وغيرهم من شعراء المهجر. ولما قرأت ديوانك الملتهب "نور ونار" أحسستُ أنه غرفة جديدة في بناء هذه المدرسة التي تتلاقى فيها نعومة الصبا بعزم الأعاصير. |
|
* |
... وهكذا عرفت في زكي قنصل الأديب الذي ينسجم مع نفسه، والشاعر الذي يغرد على كل فنن ويطلق كلمته شعراً ساحراً فإذا بها تنتفض وتثور، وإذا بها تتحدّى وهي تهزج وتغني وتزغرد. وزكي واحد من الذين حملوا الحرف بأمانة وشمخوا بالكلمة العربية المغتربة وجعلوها بعد ذلك تطوي المحيطات فيتلقفها الوطن بغبطة ويضمها باعتزاز ويتبناها بفخر. |
|
* |
.... والحق أني لم أجد في ديوانك ما يسترعي النظر، فهو من الشعر العامودي الغث، ويبدو أن هذا المرض يشمل معظم شعراء المهجر فأنتم لا تزالون تعيشون للوزن والقافية والرنة الموسيقية. ومن الخير أن تعلموا أن الشعر قد تخطى هذا الترف الفكري وصار أداة لمعالجة مشاكل العصر. وهذه المشاكل لا تعالج إلاَّ بالشعر الحر، المتفلت من قيود الخليل وسلاسل القواعد اللغوية والبيانية، ويبدو أن حركة الشعر الجديد لم تخترق النطاق المهجري الحديدي فظللتم حيث أنتم تجترون أدب شوقي والأخطل والبدوي وأضرابهم من سدنة الشعر الكلاسيكي المتزمت الجامد. |
|
* |
.... إنك لم تنس في شعرك الأصيل وطنك ولا رجالات هذا الوطن، على أنك قد وسّعت آفاق شعرك فانتقلت فيه من أفق إلى أفق، فكان حديقة غناء تشتمل على مختلف الأزاهير. |
|
* |
.... ولنا مع كل قصيدة (لزكي قنصل) موعد جديد يفتح في صدورنا جنات الورد، ويوقظ في أعماقنا عذوبة اللحن المشبع بصدق نابض الحرارة، جارف بالحنين، والديوان لا يدع مجالاً نتوق للوقوف عنده إلاَّ حملنا إليه على مركب أخاذ، في أداء لا يتوقف عند خصوبة معانيه ونضوج قدرته على الإيحاء والتأثير، وإنما يتسع إلى آفاق جمالية فنية ترقى به إلى المراتب العالية الشامخة. |
|
* |
... وعهدي قديم بزكي قنصل، فهو من وراء البحار يرسل شعره مثل خطرات النسيم على مهاد الشواطئ. إنه نفحة عربية أصيلة، بل هو قنصل أدبنا في ديار الهجرة الأميركية. |
|
* |
... وبالرغم من كل ما في قصيدة زكي قنصل من جمال فإن لنا عليها بعض المآخذ، منها أنه بناها بناءً تبعياً بحيث جعل الوحدة هي البيت، وتلك سمة الشعر الجاهلي وما جاء على نهجه ولكن العصر الحاضر جعل القصيدة وحدة، وذلك أوقع في النفس وأعمل للذهن، فهو يربط القارئ والسامع بأول بيت للقصيدة حتى يصل به إلى نهايتها. |
|
* |
... إن شعرك يا زكي، هو بالتأكيد من ذلك المعدن الجمالي الذي يظل له، مهما تنوعت الأساليب، مكان الصدارة في القلب وفي تاريخ أدبنا المعاصر. |
|
• • • |
|