شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
صرخة من بعيد
بقلم : الدكتور شاكر مصطفى
في هذه الكلمات، لا أقدِّم الشاعر ولا الشِّعْر، دنيا الأدب العربي كلها تعرفهما، وتعرف أين مكانهما من هذا الأدب، تعرف من العازف القديم، وتعرف القيثارة ولونَ اللحن المجنَّح، وإنما هي فقط خواطر رَمادية، كسحب الشتاء في جبيني وأنا أقرأ وأعيد قوافي هذه السداسية الوطنية، ومَنْ ذا الذي لا تفعم الخواطر الرمادية كل جمجمته في هذه الأيام السوداء؟ وبخاصة حين تحك القوافي على الجرح النافر وتستثير الشجون؟...
لقد عودنا المَهْجَر أن ينظر من عَلٍ إلى آلامنا الكبرى، عودنا أن يعيش مآسينا، بأعصابه، شعراء المهجر كانوا – وما يزالون دوماً – أصواتنا تأتي من بعيد مع الأشرعة العائدة...
وزكي قُنْصل أحد هذه الأصوات المميزة، مُعْظَم شعره ثورة وطنية، ورَفْض متكبر كتلك القوافي التي تستيقظ أصداؤها في أعماقنا من أيام الشباب الأولى، فمن شاء أن يسترد ذاته من هذا المستنقع النتن الذي يغمرنا وفي هذا البحر المكفهر الأغبر، من شاء أن يقرأ عروبة العشرينات والأربعينات، من شاء أن يرجع القهقرى – للسلوى والنسيان – إلى عهد العروبة الصافية والآمال بعرض أجنحة النسور وبسمة الثقة بالذات وبالمستقبل، فليتناول ديواناً من شعر ذلك الزمان، وليقرأ معي هذه المعلَّقات الست، روح غريبة كأنها تأتيك من غير هذا العالم، مع أننا نحن أجيال الخمسين والستين عشناها سنوات طويلة، تعود فتشعُّ في الحنايا كأصداء الأعراس، هزجٌ من قاع النفس يضج، وقواف تُلهب الأكف بالتصفيق والرصاص، وحماسة تفور من الشرايين حتى لتتفجر منها الشرايين .
وهذه السداسية تدور حول موضوع واحد، حول الانتفاضة التي ما تنفك ترمي الصهاينة على أمتار منا بشواظ من نار وأحجار وغضب أسود، أطفال الحجارة الذين قفزنا من النوم نهلِّل فرحاً وشكراناً أصبحوا شباباً بعد أربع سنوات من الدم المبصوق .. نيف وأربعون شهراً وهم يعضون على الحجارة صامدين، هدم المنازل، جنازات القتلى، المنافي، السجون، قنابل الغاز، الرصاص، المصفحات، الإرهاب النازي، منع التجول، المذابح، دَوْس المقدسات، تدمير المؤن، كل جبروت الطغاة السفاكين لم تستطع أن تمنع طفلاً من أن يرفع أصبعيه بشارة النصر، النصر لنا!!
لقد عرفوا وما يزالون في زهرة العمر بعد، أن الجبروت الطاغي أفقدهم كل شيء وأنهم لن يفقدوا بعد سوى المذلة الامبريالية والصهيونية مع الانهيارات العربية دفعت بظهورهم إلى الحائط الأخير، فلم يبق لهم سوى حجارة الأرض – يستمدون منها القوة – بعفويتهم الصادقة، كذَّبوا كل السياسيين وكل الثوار الزائفين وكل الحلول، بالحجر فقط أثبتوا أنهم أوعَى من الجميع، وأكبر من الجميع، التصدي، المفاوضات، الصلح، السلام، الصمود، الحروب الكاذبة ... كلها أسقطوا أقنعتها وأعادوا القضية إلى مفاهيمها المبسطة وإلى أصلها الأول البدائي: ثم ينتصبون كواسر وثوّاراً ينبعون من الأرض، لا شيء غير ذلك..
عن هؤلاء الأطفال العمالقة تتحدث هذه القصائد.
ولكن!!.. لماذا كان لها طعم الرماد؟ لماذا تأتيينا وكأن بُعدها الزمني أكثر بكثير من بُعدها الجغرافي؟ لماذا نحسبها آتية من أيام شبابنا أو آتية من أقصى الأرض على جدتها، وعلى أن ما تتحدث عنه ما يزال يعيش في أعصابنا والشرايين؟
أطفال الحجارة تغزلنا بهم أشهراً ثم هانت علينا أخبارهم وهانت ثم هانت حتى عادت كالماء لا لون ولا رائحة ولا طعم، ولا ما تهز من الحمية وما تستثير من النخوة في الرؤوس، إنهم يموتون في اليوم ألف ميتة، فواجعُهم تتمثل لنا وكأنها تَجْري في القرون الخالية وعلى أرض واق الواق؟... الحجر الذي كان يطوي الأرض قبل أن يقع في رأس الصهيوني عاد حجراً من الحجر، لم يعد أمل أمة.. حتى الحشود التي كانت تنفر من أقصى جبال الأطلسي إلى أعماق الخليج لمصرع رجل في مظاهرة عادت صماء بكماء و18 ألف طن من القنابل في ليلة واحدة تنقض على بعض مدنها، حتى أناشيد الوحدة العربية ماتت على الشفاء فما يهمس بها هامس.. فما لهؤلاء القوم لا يفقهون حديثاً ولا يدركون أعماق المستنقع الذي فيه يغرقون؟ ..
أعترف أني خجلت من نفسي حين قرأت هذه المجموعة الشعرية، خجلت لقومي وأمجادهم أن نكون نحن الأحفاد.. خجلت من الخجل نفسه، كل العطر الشرس الذي يضوع منها افترس أعصابي عاراً ومذلة.. و "جهاداً" زائفاً.. مزيفاً..!!
ولقد يجادلونك في هذا الشعر وقيمته الفنية، وقد يدعونه جلاجل وإيقاع صخور في الهواء... وما فرغت الكلمات من معانيها ولا القوافي وإنما فرغت القلوب التي في الصدور، سقطت فيها حتى القيم الكبرى، فالناس صَرْعى كأعجاز نخل خاوية، فهل ترى لهم من باقية؟ الكوارث النارية المتلاحقة على الرؤوس كحجارة الجحيم لا تكاد تترك من نيران هذه القصائد ولا الذبالة الخافتة للقابسين...
ولا أجادل المجادلين، ولا أطلب من هذه القصائد أن تحمل القيم "الفنية" التي يرضى بها جميع أهل الشعر، ولكن أقول: صوغوا كلمة الثورة، قولوها بأي شكل، بأي لغة، بأي شعر ولكن قولوها...
هل في ضمير الغيب صرخة من الصور توقظ المارد الخَدِر؟
أم أنها صرخة في واد؟ ويا خوفي أن تكون..
* * *
وبعد فشَكْراً لزكي قنصل، وبوركت القافية التي صاغ...
لقد أعاد وضع الحصان أمام العربة، وأعاد المركب إلى الصراط المستقيم، فهل من معتبر؟...
شاكر مصطفى
 
طباعة

تعليق

 القراءات :939  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 622 من 665
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.