لم يَغب، رَغْـم بُعْـده، عـن عَيانـي |
إنه بينَ مُقْلتي وجَناني |
كيف أنساه وهَـوْ بعـضُ وجـودي |
وأنا بعضُه، فهل يَنساني؟ |
لستُ أبكيه، فهْوَ عِنْديَ حيٌّ |
وسيبقَى… فكيف يبكيه فانِ؟ |
لم يَزَلْ بَسْمـةً علـى شَفَـةِ الشعـرِ |
وعِطْراً على فم الريحانِ |
لم يَزَلْ صوتُه يَرِنّ بأذني |
وصداهُ يجولُ في وِجْداني |
لم يزل ظله يفيّئ دربي |
وشذاه يموج في أرداني |
لم تَزَلْ كفُه تَلَمَّس كَفي |
أينَ في الناس مثلُنا أخَوانِ؟ |
لكأنَّا لَمْ نَفْترِقْ، وكأنَّا |
لم نَئِدْ في التراب بيضَ الأماني |
قد نَشَأنا معاً رفيقَيْ طريقٍ |
وَجَنينا أزْكَى وأنكَى المجاني |
واقتَسَمْنا حلاوةَ العيشِ حيناً |
وَعَرفْنا مرارةَ الحِرْمانِ |
لم نَغُصْ في الحريرِ، لكنْ رَضِينا |
بقليلٍ مِنْ نِعْمةِ الرحمانِ |
ليسَ مَـنْ يسكـنُ القصـورَ سَعيـداً |
رُبّ كوخٍ أعزُّ من إيوانِ |
ما إختلفنا في الرأي إلاّ حَسَمْنا |
تُرّهات الخلافِ بعد ثَوانِ |
كلُّ ما بيننا مُزاحٌ بريءٌ |
حينَ في الساح يلتقي البَطَلانِ |
قادَ في زَحْمة الحوادث خَطْوي |
وَبجَفْنيه في الخطوب حَمَاني |
إن يَطِبْ للنفوس شَذْوي فمنه |
هذه الطيّبات مِنْ ألحاني |
وإذا استعذبَ النَّدَامى شَرابي |
فلأني أصُبُّ مما سَقاني |
وإذا صَفَّقتْ لشعري قلوبٌ |
فلأني اقتبستُ من بياني |
بتعاليمه اهتدَيْتُ، وماجَتْ |
مِنْ معانيه في قريضي مَعاني |
إن يَعِبْني على اعترافي دَخيلٌ |
قلتُ يا صاحبي رَفَعْتَ مكاني |
هَبْ تَجَنّى على أخيه هزارٌ |
أيّ شأنٍ للبوم والغِرْبانِ؟ |
جَمَعَتْنا الأرحامُ قَلْباً ورُوحاً |
ما عَراه من الزمان عَراني |
أتحدّاكِ يا رَزايا، فثُوري |
إن دِرْعي صَلابة الإيمانِ |
هاكِ صَدْرِي، فأمطريهِ نبالاً |
لن تنالَ النبالُ مِنْ عُنْفواني |
ما تعوّدتُ أن أُعفّر هذا - |
الوجهَ إلاّ للواحدِ الدَّيانِ |
سقط النسر من علاه ولكن |
سوف تبقـى ذكـراه مـلء الزمـانِ |
سألَتْني محافلُ الشعرِ عنه |
فاحتبستُ الجوابَ في أجفاني |
يعجزُ النطقُ أن يصوّر جُرْحي |
أين أين الكلامُ من أحزاني؟ |
كيف أنعَى لها أخي وحبيبي |
ليتَه قبلَ نَعْيه قد نَعاني |
كيف أنعَى إلى الرياضِ شَذاها |
كيفَ أنعَى الهَزار للأغْصانِ؟ |
كيف أنعَى إلى السماءِ الثريَّا |
كيفَ أنعَـى النـدى إلى الأُقحـوانِ؟ |
كيف أنعَى إلى القَريض فَتاه |
وإلى الفِكْر توأمَ "الريحاني"؟ |
خذَلَتْني الدموعُ، لكنَّ قَلْبي |
قد بَكاه بكلِّ أحمرَ قانِ |
كم عيونٍ تبكي بغَيْر دُموعٍ |
وعيونٍ تَبْكي بلا أشجانِ |
عفواً ذكراك يا أخـي إن تلجلجـتُ |
بقولي، فقد قطعتَ لساني |
لفَّني الليلُ بالدخان، فأنّى |
يَنْفـذُ النـورُ من خِـلال الدُّخـانِ؟ |
كان ظَنِّي أنَّ الحياةَ ربيعٌ |
فيه ِمْن كل نِعْمةٍ زوجانِ |
فإذا بالرياح تَقْصفُ أغصاني |
ويمشي الفناءُ في ريْعاني |
كلُّ ألحاني استحالتْ نَشيجاً |
داوِ جُرْحي ببَلْسم السُّلوانِ |
كلُّ ألواني استحالت سواداً |
هل يعود البهاء للألوانِ؟ |
كلُّ أزهاري استحالت هشيماً |
كيف عاثَ الشتاءُ في بستاني؟ |
كلُّ أنواري استحالتْ ظلاماً |
كيف جاء الظلامُ قبل الأوانِ؟ |
سوف يلقاك في الخلود رفاقٌ |
سبقونا فصف لهم ما نعاني |
مزّقت شَمْلَنا صروفُ الليالي |
عَبَثًا يأمن النَّوى تَوْأمانِ |
البروجُ التي بَنوها تهاوَت |
لم يَدُم مِنْ بُناتها فاعلانِ |
واللواءُ الذي حَمَوه طواه |
غائلٌ مِنْ طَوارق الحَدَثانِ |
هانَ شأنُ البيان بَعْدَ ازدهارِ |
حين راجتْ بضاعة الهَذَيانِ |
وَغزَتْنا مِـنْ كـل حَـدْبٍ وَصـوبٍ |
تُرَّهاتُ الأفكار والأوْزانِ |
كان للشعر دَوْلَةٌ، ثم مالَت |
شمسُها للغروب مَعْ "جبرانِ" |
* * * |
يا أخا الروح قـد تركْـتَ نـوادي- |
القوم وَلْهَى منهارةَ الأركانِ |
فقدَت "قُسَّها" فهل من بديلٍ |
كلما أقبلتْ على مَهْرجانِ |
كنتَ تسقي النفـوسَ خَمْـراً حَـلالاً |
هي بنـتُ السمـاءِ لا بنـتُ حـانِ |
تعتلي منبرَ الكلام فتَسْري |
كهرباءُ الحماس في الأبدانِ |
نَبرَاتٌ كأنهنَّ هديرُ الرعد- |
يأتي بالعارض الهَتَّانِ |
واندفاعٌ في الـذَّود عـن حُرُمـات- |
الحقِّ يُقذي بصائرَ الطُّغيانِ |
وهجومٌ على الخيانة يُصْمي |
سهمُه كل مارقٍ خوّانِ |
ومعانٍ تميس في حُلَل الوَحْي- |
وتختالُ في بَديع المباني |
تارةً كالعُقاب توغل في الجوّ - |
وطَوْراً تنسابُ كالكَرَوانِ |
تسمعُ الأذن من كلامك سِحْراً |
وتَرَى العينُ ثَوْرة البُرْكانِ |
سِرْت في الشعر تحت ظـل "المَعـرّي" |
وأخذتَ البيان عن "لُقمانِ" |
لَم تَثُرْ بالجديد لو لَمْ يشوّه |
كلَّ ما ينتمي إلى عَدنانِ |
ليس يعلو بغير سعيٍ بناءٌ |
أحسنَ اللهُ أجرَ ساعٍ وبانِ! |
* * * |
قيل زِدْنا فقلتُ إني لأخشَى |
كَبْوة الفِكْر أو عَثار اللِّسانِ |
لم يكن في الرجـال ضَخْمـاً ولكـن |
كان بالروح فارسَ الفرسانِ |
كان طُوْداً من الجهاد رَفيعاً |
وكتاباً مُذَهَّب العُنوانِ |
ضمّ في نفسه النقائضَ شتّى |
أدبٌ في قساوةٍ في حَنانِ |
فهو بـين الصحـاب طِفْـلٌ بـريءٌ |
طاهـرُ القلـبِ من هَـوَى وهَـوَانِ |
وهو بين الذئاب لَيْثٌ جَرِيءٌ |
نابُه في قِراعهم نابانِ |
لم يكن ليلُه لقصفٍ ولَهْوٍ |
كان سَعْيًا لخدمةِ الأوطانِ |
يعلمُ اللهُ كم بَكَى لأساها |
وشَكا وجَدْه، وكم أبكاني |
وطنياتُه عُصارة نُفْسٍ |
أَنِفَت من عبادة الأوثانِ |
من عظـات الإنجيـل فيهـا سِمـاتٌ |
وسماتٌ من دَعوة القرآنِ |
لم يُميّز في حبه بين مِصْرٍ |
وعِرَاقٍ وجُلّقٍ وعُمانِ |
كلُّ دارٍ للضادِ، مهما تناءت |
دارُه، أو ملاذُه الرُّوحاني |
كرّس العمـرَ لليراعـة والحَـرْف – |
فـأدَّى رِسالـة العِرفـانِ |
لا يَلُمْهُ على العزوبة ناعٍ |
ناءَ بالغلّ كاهلُ الفنّانِ |
كُتْبُهُ وُلْدُه، سيَخْلُد فيها |
إنها حِنْطةٌ بغير زُؤانِ |
أنشدَ الشام ألفَ بيتٍ وبيتٍ |
كلُّ بيتٍ أعزّ مِنْ نِيشانِ |
كم ولودٍ منَ الرجال تمنّى |
لو قَضَى عمرَه بلا وِلْدان |
* * * |
يا شقيقي، وما ذَكَرتُك إلاّ |
دار وَجْدي، ودَمْدَمت أحزاني |
حارَ بالموت والحياة ضميري |
فأغِثْني برأيِك النُّوراني |
أنا في حَيْرةٍ، فيا ربِّ عفواً |
نَجّنِي مِنْ خطيئة الكُفرانِ |
هذه يا أخي قصيدةُ عُمْري |
مِنْ عيوني اعتَصَرْتُها وَجِناني |
لن تراني أقولُ بعدَك شَعْراً |
مَرِحَ الـروح ضاحكـاً، لـن تَرانـي |
القوافي ماتَتْ على زَفَراتي |
أيَعودُ الجوادُ للميدانِ؟… |
* * * |
يا رفـاقَ الطريـق هاضَـت جَناحـي |
غائلاتُ الرَّدَى، وهدَّت كياني |
كلَّ يومٍ يَطْوي الترابُ حَبيباً |
طالما قد رَعيتُه ورَعاني |
النَّوَى والحِمامُ عاثا بقلبي |
كيـفَ أنجو مـن حَمْلـةَ الطوفـانِ؟ |
كلما نمتُ هاجماني بأحلامي- |
وإن مجّني الكَرَى هاجماني |
ما تكاد الدموعُ تنشفُ من- |
جَفنيّ حتى تعودَ للجَرَيانِ |
يا رفاقي إن لم تُداوُوا جراحي |
مِتُّ في غُربَتي وفي تحناني |
أتأسّى بكم، فلا تَتْركوني |
أنتمُ مَفْزَعي، وأنتم سناني |
لستُ أرجو الصديقَ في فَرْحةِ- |
النصر، ولكن في كُرْبة الخُذْلانِ |
قد خَسِرنا أخاً عزيزاً علينا |
ورَبِحْنَا جَيْشاً مِن الإِخوانِ |