كان في سالِف الأزمان كوخٌ أخْضَرُ |
مُنْذُ ألفٍ أو تزيدْ |
عَنْ ضَجيج المُدْن مَعْزولُ بَعيدْ |
وعلى باعَيْنِ مِنْهُ الكَوْثرُ |
يَتَهَادَى بِخَجلْ |
ويُغَنّي للدُّجَى شِعْرَ الزَّجَلْ |
كان بالزَّهْر وبالشَّوْكِ مُطَوّقْ |
وعلى مَدْخَلِهِ نَقْشٌ مُزَوَّقْ |
وعلى البابِ كلامٌ لابن موسى الحَنْظليِ |
"أيُّها الطارقُ أهلاً، أنْتَ رَبُّ المَنْزِلِ" |
لم يَجُرْ شَوْكٌ على زَهْرٍ فعاشا بسَلامْ |
قال كلّ منهما لأخيه باختصار |
لا تسُمْني الضَّيْم يَسْلَمْ بيننا حُسْنُ الجِوار |
واحْتَرمْني فتنالَ الاحترامْ |
* * * |
كان في عُبِّ الجَبَلْ |
رُبَّما مُنْذ الأزلْ |
عِشْتُ فيه ناعِمَ البال سَعيدْ |
قُوتي اليَوْميُّ يأتيني بمَجْهودٍ زَهيدْ |
فلْيغُصْ في المال غَيْري وَيَنَلْ منه المَزيدْ |
لا أرَى أفقَر ممَّن كلَّما أثْرَى استَزادا |
لا ولا أخسَرَ ممَّن في مخازيه تَمادى |
* * * |
كان جِسْراً يَرْبِطُ الماضي بما سوفَ يَلي |
وَطريقاً يصِلُ الأعلى بما في الأسفلِ |
تَلْثُم الشمسُ صباحاً كلَّ يوم وَجْنَتَيْهِ |
وإذا غابَتْ بكَتْ شَوْقاً وتَحْناناً إليْه |
مَنْ رأى أعجَبَ منه، أو رأى أعْجَبَ منها؟ |
هِيَ لم تَسْتَغْنِ عنه، وهوَ لم يَسْتَغْنِ عنها |
هكذا فلْيكُنِ الحُبُّ، وإلاّ فَهْوَ كاذبْ |
ليسَ في الحُبِّ – كما في الحَرْب – مَغْلوبٌ وغالِبْ |
* * * |
لَسْتُ أدري مَنْ بَناهْ |
إنَّ سَرَّ الغَيْب مِنْ عِنْد الإلهْ |
قيل شادَتْهُ مِنْ الجِنّ أميرَهْ |
تُؤثرُ العُزْلَة مُذْ كانَتْ صَغيرهْ |
زَوَّجوها بأميرٍ ذي عِيالِ |
فنأتْ عنه إلى هذي الجِبالِ |
وأقامَتْ فيه أياماً قَصيرهْ |
ثم غابَتْ عنه في شَرْخِ الحَياهْ |
* * * |
قاسَمَتْني العَيْشَ فيه حُلْوَةٌ بنتُ حَلالِ |
تَتَثَنّى كلما مَرّتْ بها ريحُ الشَّمالِ |
هكذا يَخْتَلج الوَرْدُ وتَفْتَرّ اللآلي |
لم تُفَاخرْني بعَمِّ، أو تُغالبْني بِخَالِ |
إنْ أجُعْ جاعَتْ وإنْ غالَيْتُ في أمرٍ تُغالي |
أبداً لَمْ تَعْيَ في الردّ على أعْصَى سُؤالِ |
تَعْرِف العالي من الشعر وما ليسَ بعالي |
صَوْتُها؟ ما بُحَّةُ النايِ، وما خَمْر الدَّوالي؟ |
يَشْرئبُّ الليلُ مَذْهولاً إذا غنّتْ "ليالي" |
كلُّ ما فيها جميلٌ، بل فَريدُ في الجمالِ |
* * * |
هذه الفِتْنةُ ليستْ بَشَرا |
إنها جنّيةٌ مِنْ عَبْقرِ |
نشَأتْ بين الثُّرَيّا والثَّرَى |
وتربّتْ في قصورِ "المشترى" |
* * * |
كيف شمّتْ خَبَري؟ |
واقتفتْ بين البراري أثَري؟… |
دّلَّها – لا شكَّ – كوخي الأخْضرُ |
ودواليه التي لا تُثْمرُ |
وسِراجي الأصفَرُ |
والطُّيورُ الرائحاتُ الغادِيَهْ |
وطريقٌ يَنْتهي في الرابيَهْ |
وأقاحِيَّ، وضَوْءُ القمرِ |
* * * |
وأتى طوفانُ نُوحٍ فأزالْ |
كلَّ شيءٍ في سُوَيْعاتٍ قِلالْ |
الجبالُ الشمُّ صارَت أوْدِيَةْ |
والسُّهولُ الجُرْدُ أصْبَحْنَ جِبالْ |
وامَّحَتْ حتى رسومُ الأبْنيَةْ |
* * * |
وَلَدُنْ عادتْ إلى الأرض السَّكينهْ |
واستقرّتْ في "أراراط" السَّفينهْ |
لم يَلُحْ للعَيْن في الأفْقِ البَعيدْ |
غَيْرُ كوخٍ في بقايا جَبَلِ |
أدْرَكَتْهُ عادِياتُ الأجَلِ |
حَمَلَ الدَّهرَ على أكتافِهِ |
مُنذُ أنْ كان وَليدْ |
والسُّهَى فاءت إلى أكْتافِهِِ |
هَرَباً من غَضَب الله الشَّديدْ… |
* * * |
لم أعُدْ للكوخ، لم أشْتَقْ… ولا القلبُ التَفتْ |
حاوَلَتْ رِجْليَ أن تخطو ولكن وَجَفَتْ |
صُوَرُ الماضي – عليه رحمةُ الله – اخْتَفَتْ |
قد صَرَفْتُ الطَّرْفَ عنهُ |
ونَفَضْتُ الكفَّ منهُ |
لم يَعُدْ في الذهن منه غَيْرُ حُلْوهْ |
شدَّها مِنْ شعرها الطوفانُ عَنْوَهْ |
فمضَتْ تَطْرُقُ أبوابَ السَّماءِ |
وتُغنّي تحتَ جُنحِ الغَلَسِ |
أنا يا رَبّاهُ مَنْ طينٍ وماءِ |
فاكْتَنِفْني بجَناحِ القُدُسِ!.. |