| الحمدُ لله استجابَ لمَطْلبي |
| فعَقَلْتُ في أرض الرسالة مَرْكَبي |
| جاء البريدُ مُضَمَّخاً بولائكم |
| فسَكرْتُ منه بالأريجِ الأطْيَبِ |
| ما كنتُ أحْلُمُ أنْ سأبلـغُ عندَكـم |
| شَأواً يعـزُّ علـى النَّسـورِ الجُـوَّبِ |
| يا إخوتي لا تَعْذِلوني إنْ أمِسْ |
| طَرَباً، فمنذ طُفولتي لم أَطْربِ |
| طالَت مراحـلُ غُرْبـتي، يـا ربِّ لا |
| تَجْعلْ ضَريحي في تُرابٍ أجنبي |
| لم يَكْبُ لي أملٌ ببابِك، فَلْيكُنْ |
| أمَلي لَدَيكَ الآن غيرَ مًخَيَّبِ |
| إني اغتسلْـتُ من الذنـوب فلُفَّـني |
| بجميل عَفْوِكَ واْرضَ عـن مُتِقـرّبِ |
| لم يِبْقِ لي نابٌ أذودُ بِه العِدَى |
| أو مِخْلبٌ، فَلقد تقطَّعَ مِخْلَبي |
| سبعونَ من عمري مَضَـتْ في حُرْقَـةٍ |
| أوَ لَيس لي مِنْ مَخْـرَجٍ أو مَهْـرَبِ؟ |
| هَيْهات يُدْرِكُ ما النَّـوى وشُجونُهـا |
| مَنْ لم يَغِبْ عـن مَنْـزلٍ أو مَلْعـبِ |
| مَهْما يَـكُ البلـد الغريـبُ مُحَبَّبـاً |
| فالشَرقُ غير الغَرْبِ للمُتَغرِّبِ |
| قالوا تعصَّبَ، قلـتٌ ليـس تَعَصُّبـا |
| شَتَّان بين مَحَبةٍ وتَعَصُّبِ |
| وهَبُوا تَعَصَّبَ شاعرٌ لبلادِه |
| فلقَدْ عَجِبْتُ لمنطِقِ المتعجِّبِ |
| إني أحبُّ الناسَ دونَ تفاوتٍ |
| لكنّ أقربَهم إلى قَلْبي أبي |
| والماءُ أعذبُه الذي في مَنْهلي |
| والنورُ أسناه الذي في كَوْكبي |
| لا حـدَّ عنـدي بين مَصْـرَ وجِلَّـقٍ |
| أو بين عاصمـة الرشيـدِ ويَثْـرِبِ |
| العُرْبُ عائلةٌ، وإن يَتَنافروا |
| لا فَرْقَ بين مُشَرِّقٍ ومُغرِّبِ |
| لم أختَرِ الفُصْحـى لِحُسْـنِ بيانِهـا |
| لكن لأني يَعْرُبيُّ المَذْهَبِ |
| يأبى لساني أن يدورَ بغَيْرها |
| ما حيلتي بالشامِسِ المترهِّبِ؟ |
| لم تُغْرِهِ لُغةٌ برغمِ ثوائهِ |
| في مَخْصَـبٍ بالأرض أو في مَجْـدَبِ |
| لولا فَراخٌ يَفْرحونَ لعَوْدتي |
| وابْنٌ أكـادُ أقـولُ غَيْـرُ مُهَـذَّبِ |
| أُخْفي تباريحي كرامةَ عيْنهم |
| وأغلُّ غصّاتِ الفؤادِ المُتْعَبِ |
| لأنَخْتُ في بَلَـدِ الرسـولِ مطيّـتي |
| وحَلَفْتُ أني لن أعودَ لمكتبي |
| ولقُلْتُ للأيامِ لَسْتُ بخائفٍ |
| ما تُضْمريـن، فسالمـي أو فاغضَـبي |
| أنا مِنْ قلـوبِ عَشيرتـي في مَأمـنٍ |
| مَنْ كان في كنَفِ الشَّـرى لم يُطْلَـب |
| الآن ألقَى وَجْهَ ربِّي راضياً |
| فَرِحاً، وأنسَى كل ضَيْـم حَـلَّ بـي |
| هَيْهات تَخْدَعُني النُّعوتُ وإن سَمَـتْ |
| عمّي نِزارِيٌّ وخالي تَغْلِبي |
| وَيحَ الغريبِ يعيشُ مُضْطرِبَ الخُطَـى |
| كدَجَاجةٍ شَمّتْ روائح ثَعْلبِ |
| حَمَلتْ رسائلُه الرجاءِ لأهلِهِ |
| ثم انقَطَعْنَ، فَلَيْتَه لم يَكْتُبِ |
| * * * |
| يا فَهْـدُ يـا فَهْـدُ المـروءة إنَّـني |
| أُزجي إليك تحيّةَ الشَّعْبِ الأبي |
| تُنْسَى حَزازاتُ النفـوسِ إذا كَبَـتْ |
| فَرَسُ الشقيقِ على مواطـئِ أجنـبي |
| العِرْقُ دَسّاسٌ، ورُبَّ إساءةٍ |
| غُفِرَت لقاء تحيّةٍ من مُذْنِبِ |
| أبكي لِداهيـةِ الغريـبِ فكيـفَ لا |
| أبكي لداهيةِ النسيبِ الأقربِ |
| مهما يَجُرْ أهلي عليَّ فإنهم |
| أهْلي… ومَهْما يَغْضَبـوا لم أعْتَـب |
| مِنْ خبزِهـمْ زادي ومِـنْ يُنبوعِهـمْ |
| مائي، فَهُـمْ في مأكلـي أو مَشْربـي |
| منْ آخـرِ الدنيـا أتيـتُ مُجَـدِّداً |
| عَهْدَ الولاءِ لأريحيٍّ أغلَبِ |
| صُلْبِ العقيـدةِ مَـنْ تجـاوزَ حـدَّهُ |
| يمشي إليـه علـى الغَضَـا المُتَلَهّـبِ |
| مُتَمَنْطِقٍ بالحزمِ يَستهدي به |
| في حالكات زَمانه المُتَقَلّبِ |
| حامي حِمَى الحَرَمَيْنِ تَسْطَعُ شَمْسُـه |
| إنْ تَلْتَفعْ شمسُ النهار بَغَيْهَبِ |
| يبني على الإيمان قبّةَ مُلْكِهِ |
| ويحوطُه باسمِ الجلالةِ والنبي |
| لِلْبرّ والإِحسان غُرَّةُ يَوْمِه |
| ومساؤه لِتَعَبّدٍ وتَقَرُّبِ |
| جَمَعَ الفخار تَليدَه وطَريفَهُ |
| مَنْ يَنْتَسبْ للشمس يُـرْجَ ويُرهَـبِ |
| هامَت رعيّتُه به وأحبَّها |
| تَزْكو القَرابةُ بالشُّعورِ الطيّبِ |
| صانَ البلادَ مِنَ الذِّئـاب ولم يَخُـنْ |
| عَهْداً، ولم يِكْفرْ بجيرةِ عِقْربِ |
| ظَفِرَ الفقيرُ بحقِّه في ظِلّهِ |
| ومَشَى الغنيُّ علـى بِسـاطٍ مُذْهَـبِ |
| فكلاهما مُتَفاهمٌ مَعْ جاره |
| مُتَعايِشٌ رغـم اختـلافِ المَنْصِـبِ |
| لا حِقْدَ بينهما ولا مِنْ حاقدٍ |
| الحِقْدُ يَخْـرِبُ كـلَ غَيْـرِ مخـرَّبِ |
| * * * |
| مِنْ هذه الأرض السَّخِيةِ أشْرقتْ |
| شَمْسُ الهُدَى، شَمْسُ الرسول اليَعْرُبي |
| طَافتْ علـى الدنْيـا فهَلَّـلْ أهلُهـا |
| إلاّ وُجوهَ الأنبياءِ الكذَّبِ |
| وتهادَتِ الأصنامُ بَعْدَ تِشامُخٍ |
| وتفرّقَ الأتباعُ بعدَ تألُّبِ |
| وتآلَفَتْ باسم الحَنيفةِ أمّةٌ |
| كانت شَراذمَ لا تَدينُ بمَذْهَبِ |
| عزّتْ فعـزَّ الشـرقُ تحـت لِوائهـا |
| والغَرْبُ منهـا في ربيـعٍ مَخْصِـب |
| فَتَحَتْ، ولكن أمّنتْ أعداءَها |
| وغَزَتْ، ولكـن لم تَجُـرْ أو تَنْهَـبِ |
| تاريخُها قبلَ الرسالةِ ظُلْمةٌ |
| لولاَ بَصيـصٌ مِـنْ رَجـاءٍ لاحِـبِ |
| أنّى تُقَلّبُه تجدْهُ رَوْضةً |
| لم تَزْدَهِرْ أو حَقْلةً لم تُعشبِ |
| يَسْطو القويُّ على الضعيف وتُشتَرى |
| بنْتُ الفَقير بنَعْجةٍ أو أرْنبِ |
| وأتَى الكِتابُ فـزالَ كـلُّ تفَـاوتٍ |
| بَيْنَ العِبادِ وما كلُّ تحزُّبِ |
| وحَمَى مِن الوأدِ البنـاتِ، ولم يَكُـنْ |
| وأدُ البناتِ مثارَ أمٍّ أو أبِ |
| من كان يَخْبطُ في دياجيـه اْهتـدَى |
| وبَدَا صراطُ الحَقِّ للمتريّبِ |
| وسِعَتْ شَرائِعُهُ الشُّعـوبَ وألَّفَـتْ |
| بَيْنَ القُلوبِ على اختلاف المَشْـربِ |
| لم يَبْقَ لابن الأكرمينَ مَزّيةٌ |
| يُزهَى بها عُجْبـاً علـى المُسْتَغْـرِبِ |
| * * * |
| يـا إخوتي عابُـوا علـيَّ صَراحـتي |
| يا لَيْتَهم عابوا عليَّ تَذَبْذُبي |
| ما حيلتي والصِّدْقُ فيَّ سَجيّةٌ |
| مَوْروثةٌ لا تَختفي أو تَخْتَبي؟ |
| عَبَثاً أقاومها وأخْنُقُ صَوْتها |
| لَيْسَتْ معانـدَة الخِضَـمِّ بأصْعَـب |
| إنَّي أحبُّ من البيان نقيَّه |
| ومنَ الصَّديق أحـبُّ كـل مُجَـرّب |
| الشعرُ عندي ما تألّق لَفْظُه |
| واختال في المعـنى الأنيـق المُطْـرب |
| الشعرُ عاطفةٌ وفَيْض قَريحةٍ |
| مهما استمرَّ عطاؤها لم تَتْعَب |
| الشعرُ غانيةٌ تناهَى حُسْنها |
| وَتَرَفَّعَتْ عن واغلٍ مُتكِسب |
| أو رَوْضةٌ غنّاءٌ دانيةُ الجَنَى |
| يُغْني شَذَاها عن دواءٍ مُطْبب |
| قالوا الحداثـةُ قُلْـتُ لسـتُ بهائـم |
| فيها ولا أنا عندها بمُحَبَّب |
| إنَّ الطلاسمَ لا تُعَدُّ حداثة |
| إلا لَدَى المتَعَنِّتِ المُتَعَصِّبِ |
| خَرَجوا على ميراثِهم لكنَّهمْ |
| يتهافتون على خوان الأجْنبي |
| يتعيَّشون على فُتات رَغيفِهِ |
| وعلى بقيةِ مائِه المتسرّب |
| إنْ يَعْطُس الغربيُّ في لَشبونةٍ |
| مَرضوا بمصرَ ورشّحوا في غَبْغَـب
(1)
|
| لا أنبذُ المَعْنى الشريفَ إذا أتى |
| في لَهجةٍ أحلَى وثَوْبٍ أعجبِ |
| لكنْ إذا استَعْصـى وراوَغَ والتـوَى |
| لم يَلْقَ غيرَ تَهَرُّبٍ وتجنُّبِ |
| كمْ شاعـرٍ نـالَ العُـلا بقصيـدةٍ |
| ما أكثـرَ الشِّعْـرَ الـذي لم يُكتَـبِ |
| إني معَ التجديد، لكـنْ لسـتُ مَـعْ |
| تهديم ماضٍ بالجلالِ مُقَبَّبِ |
| أخْلَصْتُ لِلفُصْحـى ولم أخْفـرْ لهـا |
| عَهْداً وعن أسلوبها لم أرْغَبِ |
| قد أنجَبَتْ شَوْقـي، فـلا يتغامَـزوا |
| شَوْقي أميرُ الشِّعْـر غَيْـرُ مُكَـذَّبِ |
| تمضي القُرونُ وذِكْرُه متألٌّق |
| مُتَجدِّدٌ مَعْ كـل مَطْلَـعِ كَوْكـبِ |
| * * * |
| يا إخْوَتي لا تَستطيعُ عَزيمتي |
| أن تَشْرَئبَّ إلى البيان الأعذَبِ |
| عَبَثَتْ بي السبعونَ بل جَـارَتْ علـى |
| رُوحي وعافِيَتي، فأنَ تَوَثُّبي؟ |
| لَوْمي علـى غَلْـواءَ فهـيَ نجيَّـتي |
| في الشِّعْر، وَهْي رفيقـتي في المَلْعَـب |
| قَطَعتْ منابعَ وَحْيهـا عنِّـي، فهَـل |
| يُجدي اعتـذاري أو يُفيـدُ تهرُّبـي؟ |
| لا تُنكروا دّمْعي، فإني فاتحٌ |
| قَلْبي لَدَى أهلي فيـا عَيْـنُ اسْكـبي |
| ذَهَبَ الرَّدَى برفـاق دَرْبي وانطـوَى |
| مُلْكٌ رَفَعْنا بندَهُ في المَغْرب
(2)
|
| حَمَل الجديدَ ولم يَعُقَّ قديمَهُ |
| لَيستْ مناجـزةُ القديـم بِمَكْسَـبِ |
| دَرَسَتْ معالِمُهم فلا خبرٌ ولا |
| أثَرٌ يجيـبُ علـى سـؤال مُنَقِّـبِ |
| لكأنهمْ لم يَخْدموا الفُصْحى ولم |
| تُخْصِب مزارعُهمْ ولم تَعْشوْشبِ |
| أبكي لهـم فلَقَـدْ تناثَـر شَمْلُهـمْ |
| يا لَهْـفَ نَفْسـي للنُّسـورِ الغُيَّـبِ |
| أنا حَقْلةٌ يَبِسَتْ ولكنْ أنْتُمُ |
| أوْهَمْتُموني أنني لم أجْدِبِ |
| أنا جَدْول لا ماءَ فيه وأنتُم |
| أقْنَعْتموني أنني لم أنْضُبِ |
| أنا طائـرٌ هـاضَ الخريـفُ جناحَـهُ |
| لكنْ جَبَرْتُم بالمحبةِ مَنْكبي؟ |
| فإذَا ذَكَرْتُكمُ تَلَجْلَجَ مَنْطِقي |
| هل تأخذونَ علـى رَطانَتِـهِ غَـبي؟ |
| وإذا شَكَرْتكُم فلستُ ببالغٍ |
| أدْنَى مراتبِ مُحْتَفٍ ومُرَحِّبِ |
| أَحْبَبْتُكُمْ قَبْلَ التلاقي فاكتفوا |
| مني بدَمْعَةٍ واجِفٍ مُتِهيّبِ |
| إني اجترأْتُ علـى الخِضـمِّ فهالَـني |
| أنِّي على الشاطـي غَرِقْـتُ بمِرْكـبي |
| بالأمس كنتمْ دَفْتراً في مكتبي |
| واليومَ أنْتُمْ بـين سِرْبـي الأقـربِ |