شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المتنبي
في ذكراه الأربعين بعد الألف زفرة الشعر في محنـة لبنـان
وُلد أبو الطيّب المتنبي بالكوفة سنة 303 هجرية، وامسه أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الكوفي. وقد رحل اإلى الشام يافعاً وفيها نشأ وتأدب وصاحب العلماء والشعراء فانتفع بعلمهم واكتسب من أدبهم. وكان ذا حافظة قوية وذكاء خارق فخرج آية العصور وعبقري الدهور في صناعة الشعر والبيان. ويذهب بعض المؤرخين إلى أنه ينتسب إلى أشراف العلويين ويزعم آخرون أن أباه كان سقّاء يبيع الماء في أسواق الكوفة وكذلك كان جده. وغلب عليه لقب المتنبي لأنه في شبابه ادّعى النبوة فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص وقاتله ثم اعتقله وزجه في السجن، فاستعطفه المتنبي فرقّ له وأطلقه. وجعل يتنقل في أقطار الشام إلى أن اتصل بأمير حلب سيف الدولة علي بن حمدان العدوي ويُعرف كذلك بابن أبي الهيجاء. وكان هذا الأمير فارساً شجاعاً وأديباً شاعراً، وكانت له مع الروم حرب متواصلة عُقدت له في معظمها رايات النصر والغلبة. وتوثقت روابط الثقة والمودة بين المتنبي والأمير فكان لا ينشده الشعر إلاَّ قاعداً - على خلاف عادة الشعراء في مجالس الأمراء - وكان سيف الدولة يترنح له ويجزل عليه الخلع والهدايا. وأثارت هذه الحَظْوة حفيظة رجال الحاشية وليس فيها إلاَّ الأديب والعالم والشاعر، وما زالوا حتى أوغروا صدر الأمير على شاعره، وأوقعوا بينهما الوحشة، فخرج المتنبي ساخطاً وهام على وجهه. وكان على مصر في ذلك الحين حاكم اسمه كافور، وهو عبد أسود، فأرسل في طلب المتنبي وخلع عليه الجوائز السنية، فمدحه ولكنه كان يضمّن شعره حنيناً إلى أيامه عند سيف الدولة. ثم ما لبث أن وقعت بينهما جفوة فبرح مصر إلى بغداد ومنها إلى بلاد فارس، ثم توجه ثانية إلى بغداد يصحبه ابنه مُحَسَّد وغلامه، وفي الطريق تعرّض لهم فاتك الأسدي بجماعة من أصحابه وقتلهم جميعاً، وكان ذلك سنة 354 هجرية.
هزَزتَ بَعدَ سُبَاتٍ أُمةَ العَرَبِ
هل يَستفيقُ فتَى الفِتيَانِ في حَلَبِ؟
هل يَشْرَئِبُّ لِواءٌ كانَ مَسرَحُهُ
بين السُّيوفِ ومَرسَاهُ على الشُّهُبِ؟
يا شَاعرَ الدَّهرِ ضَيَّعْنا حَمِيَّتَنَا
واسودَّ ما ابْيضَّ مِن تاريِخنَا الذَّهَبي
لا تعجبنَّ لِدمعي واعجبنَّ إِذا
ضَحِكتُ في مأتمِ العَلياءِ من طَرَبِ
هُنَّا وَهَانتْ على البَاغي كَرامَتُنَا
وأَصبحتْ أرضُنا نَهباً لِمُنتَهِبِ
تَقاذَفتْنَا حُثَالاتُ الوَرى أُكراً
ونَحنُ في غَفلةٍ عَنهُمْ وفي شَغَبِ
كأنَّنَا لم نَكُنْ بالأمسِ نَاصيةً
في سَاحةِ الحَربِ أو في حَوْمَةِ الأَدَبِ
أَشكو هُمومي ولَكنْ لم يَمُتْ أَملي
كم فرَّجَ البثُّ ما استعصى من الكُرَبِ
إنِّي لأَلمَحُ في الآفاقِ بَارِقَةً
سُبحانَكَ اللهُ أَكرِمْهَا عَنِ الرِّيَبِ
يا مَن يَعِيبُ عَلينَا أَنَّنَا حطبٌ
النارُ والنورُ -لو فكَّرتَ- من حَطَبِ
* * *
لم تَهدأ الحرْبُ بينَ العُربِ والرُّومِ
يا سيدَ الشِّعرِ مُذْ قاولا لهَا قُومي
حقُ العُروبةِ مهضومٌ فواعجباً
أكلُّ حَقٍّ سِواه غيرُ مَهضُومِ؟
ما شانَ سِيرتَها خَسفٌ ولا صَلَفٌ
فكيف تَقسو عليها أَلسُنُ الشُّومِ؟
آمنتُ كمْ أحيتْ سَحائِبُهَا
حَقلاً وكم أنعشتْ آمالَ محرومِ
وكم تَفيَّأَ مَظلومٌ بِرحْمَتِهَا
فهل تَناهى إِليهَا شُكرُ مظلُومِ؟
جَنى اليَمينُ عليهَا واليَسارُ معاً
كاللَّيلِ يَجمعُ بينَ الغُربِ والبُومِ
هَذي المبَادئُ للواعينَ مَهزلةٌ
لا فَرقَ ما بَينَ مَنهُومٍ ومَنهُومِ
سيَّان في نَظَري مَن مَاتَ من سَغَبٍ
ومَن تُوفِّيَ مِن سُمٍّ وَزُقُّومِ
إِنِّي لأَعجبُ ممنْ لا يَبَرُّ أخاً
وقد يُؤاسي غريباً غيرَ مهمُومِ
ويستثيرُ شُؤوني، زَعْمُ بعضِهِمُ
أنَّ الحضارةَ جاءتْنا مِن الرُّومِ
* * *
ذِكراكَ هاجتْ إلى الأَوطانِ أَشواقي
هل تَنشفُ الدَّمعةُ الحَرَّى بآمَاقي؟
يا شاعرَ الدَّهرِ هَاضَ البيْنُ أجنِحَتي
فإنْ شَكوتُ فمِن أعماقِ أَعماقي
مُصيبتي أنَّ قَلبي لمْ يَعُقَّ يداً
تُسدى إِليه، ولمْ يَحنَثْ بِمِيثَاقِ
لم أبتهِجْ بشقيقٍ عَادَ من سَفَرٍ
إلاَّ ذكرتُ – فأبكاني – أَخي البَاقي
الشَّوقُ يَزرعُني والشَّوقُ يَحصِدُني
ويحي أليسَ لداءِ الشَّوقِ من رَاقِ؟
واهاً لو اجتمعَ الأحْبابُ في بلدٍ
لَمَا توزَّع قلبي بينَ آفاقِ
سَقانِي الدَّهرُ سُمَّ الهَمِّ من صِغَري
يا سَاترَ الحالِ أدرِكْني بِتِرْيَاقِ
قضيتُ عُمريَ أَسعى في مَناكِبِهَا
والحظُّ يَسعى مَعي، لَكِنْ بِلا سَاقِ
يا مَن يُسائِلُني عَمَّا جَنَيتُ وَمَا
جَمَّعتُ مِن تُحَفٍ عزَّتْ، وأعلاقِ
لمْ أبنِ بيتي عَلى طِينٍ ولا حَجَرٍ
لكنْ على أدبٍ صَافٍ وأَخلاقِ
* * *
أَرغى خُصُومُكَ فاستأصلتَ شأْفتَهُمْ
باثنين: شعرِكَ والمَجدِ الذي حَسدوا
من يزرعِ الرِّيحَ يحصِدْ ألفَ عَاصفةٍ
ومن يَنَمْ في الشَّرى يبطِشْ بهِ الأَسدُ
لمْ تُلقِ بالاً لا دسُّوا وما اختلقوا
من الأباطِيلِ أو تعبأْ بما حَشَدوا
زَهِدتَ في هَجْوِهِمْ كَيلا تُخَلِّدَهُمْ
فأَحرجُوكَ، فنالوا بَعضَ ما قَصدُوا
سَعى إِليك الغِنى سَعياً فقُلتَ له
للحرِ أمنيتانِ؛ العزُّ والولدُ
إنْ لم تَصُنْ ماءَ وجهي لا لمستَ يَدي
فطالما اتَّسختْ – إِذ لامَسَتْكَ – يَدُ
هَيهاتَ يَشغَلُني عمَّا خُلقتُ له
مِن العظائمِ إلاَّ الوَاحدُ الصَّمدُ
فلْنتحرْ خِدعُ الدُّنيَا على قَدمي
سيَّان عندي كنوزُ الأَرضِ والوَتَدُ
أنا الغَنيُّ بإِيماني وعَاطِفَتِي
فلنْ يُنافِسَني في ثَروتي أَحَدُ!
* * *
أبا مُحسَّد هَلْ تَعنيكَ شَكوايا
فأستَمرُّ، وهَلْ تُضنيكَ بَلوايا؟
أصِخْ إليَّ فإِنَّ الصَّدْرَ في حَرَجٍ
تكادُ تَعثُر بالغصَّاتِ نَجوايا
حَظِّي كحَظِكَ لكنْ دَربَنا اختلفتْ
وخَابَ مسعاكَ في الدُّنيَا ومَسعَايا
لمْ تجْنِ من حَقلِهَا إِلاَّ سَفاسِفَهُ
ولمْ أمدَّ لغيرِ الشَّوكِ يُمنَايَا
مَسراكَ فيها على نَارٍ مُسعَّرَةٍ
ومِثلُ مَسراكَ في الآفاق مَسْرَايَا
وجدتَ في الشَّعرِ سَلوى فاستَعنْتَ بهِ
على الزَّمانِ وغَالَ الشِّعرُ سَلوايا
لا يَستطيعُ جَناحي أن يَطيرَ إِلى
أدنى مَراقِيكَ، فاصْفحْ عن خَطايَايَا
ذِكراكَ كالشَّمسِ لا يَخبو لَها أَلقٌ
فمن تُراهُ غَداً يُعنى بِذكرايا؟
لَولاكَ لمْ تسْتقمْ للشِّعرِ مَملكةٌ
فلا يَقُلْ أحدٌ إِلاَّك لَولايا
ما زلتَ ناراً عَلى نَارٍ عَلى عَلمٍ
فهل تَعَفُّ اللَّيالي عَن بقَايَايَا؟
* * *
ناشدتُكَ الله حَرِّكْ رِيشتي، فَأَنا
كالميِتِ، بلْ أنا ميْتٌ مَزَّقَ الكَفَنَا
أحببتُ أَهلي ولكنْ ضَاقَ بي وَطني
فقُلتُ أَجعَلُ دنيا اللهِ لي وَطَنا
وسَامني زمني مَا لا يُطاقُ فَلمْ
أملأْ فمي زَبداً أَو ألعنِ الزَّمَنا
قَبسْتُ مِنكَ أماثيلاً غَلَتْ ثَمناً
إِن كانَ غَيريَ لَمْ يَعْرِفْ لها ثَمنا
حُرِّيَّةُ المرءِ كنزٌ ليسَ يَعدِلُهُ
ما حَزَ قارونُ من مَالٍ وما اختزنا
رَكبتَ من أجلِهَا ما هَالَ من خطرٍ
وعِفتَ ما لانَ من عَيشٍ وما حَسُنَا
دَجا صَباحُكَ واعتلَّتْ بشَاشَتُه
فكيفَ تَرجو مِنَ اللَّيلِ البَهيمِ سَنا
وكيف يُفلِحُ سَيفٌ نَصلُهُ خَشبٌ
لا خيرَ فيه، إِذا سيفُ السُّيوفِ وَنى؟
أوسعتَ كافورَ هجواً لا لِبَشرَتِهِ (1)
لكنْ لأنَّ على أخلاقِهِ دَرَنا
وليسَ كُلُّ بياضٍ للنَّقا مثلاً
فَرُبَّ سُمٍ زُعافٍ خالطَ اللَّبنَا
* * *
يا شاغلَ الناسِ إنَّ الصَّبرَ قد عِيلا
مُذْ أصبحَ الشِّعرُ تَهريجاً وتَدْجِيلا
جَنى البُغَاتُ عليهِ واستهانَ بِهِ
رَهطٌ يَرَوْنَ فُضُولَ القَوْلِ تَنزِيلا
لا يُحسِنُونَ سِوى مَضغِ الكَلامَ فَلا
تَعجَبْ إِذا أَمعنوا في الشِّعرِ تَنكِيلا
هَاموا بِسَفْسَطَةِ الأَلغَازِ واصْطنعوا
للهزْلِ والهَذْرِ تِمثالاً وإِكليلا
من بُرجِ بَابلَ قد جَاءتْ بِضَاعَتُهُمْ
فأَنت تَفهمُ منها غيرَ مَا قيلا
لا ينتمونَ إِلى شَرقٍ بشعرِهِمُ
والغَربُ يَنْبذُهُمُ جَمعاً وتَفْصِيلا
تَحنو عَليهم من النُّقادِ شِرذِمَةٌ
تَعَلَّموا النَّقدَ تَزميراً وتَطْبِيلا
عُمْيٌ يَسيرونَ خلفَ الدّيكِ عن عَمَهٍ
ويَعلِكُونَ أَحاجي الشّعرِ تأْويلا
لم يُجْدِ في رَدعِهِم نُصْجٌ ولا كَرَمٌ
بل زَادهُمُ كَرمُ القُرَّاءِ تَضلِيلا
حلفتُ باسمِكَ إِنْ لجُّوا بباطِلِهِمْ
لَسوفَ نَجتاحُهم طَيراً أَبابيلا
* * *
اللهُ أَكبرُ كمْ شَنُّوا على الضَّادِ
حَرباً، وكمْ شَرَّدوا عن نهجِهَا الهَادي
طَاروا بأجنِحَةٍ مَشلولَةٍ فَهَوَوْا
إِلى الحضيضِ بل انكبُّوا إِلى الوادي
أخافُ يقضُونَ من جُوعٍ ومن عَطشٍ
إِذا استمرُّوا بلا مَاءٍ ولا زادِ
عابوا على بنْتِ عَدنانٍ فَصاحَتَهَا
هل أصبحَ البُومُ قوَّاماً على الشَّادي؟
هذا التُّراثُ الذي عَاثوا بِهِ حَرَمٌ
يَحوي جَماجِمَ آباءٍ وأَجدادِ
لنْ يَهدِمُوهُ فإنَّ اللهَ حَارِسُهُ
على الأَداهِرِ من عَاتٍ وَمِنْ عَادِ
لَيجرحَ النَّفسَ أنَّ العائثينَ بِهِ
ليسوا من الصِّينِ، بل من قلبِ بغدادِ (2)
يَا قومُ لا تَمسخوا تاريخَ أمَّتِكُمْ
بل عَزِّزوا مَجدَها الماضي بأَمْجادِ
عارٌ علينا – ونَحنُ الأَكرمُونَ أباً -
أَنْ يُصبِحَ الشِّعرُ بُوقاً عندَ قرَّادِ
ألمْ يَكُنْ حِليةَ النَّادي وزِينتَهُ؟!
يا قومُ لا تَجعلُوهُ سُخرةَ النَّادي!
* * *
يا شاعرَ الدَّهرِ أَضنى مُهجتي الأَرَقُ
متى تُفارِقُني الآلامُ والحُرقُ؟
أنا هزارٌ صَفا رُوحاً وحَنجرةً
لكنَّني عندَ قَومي الشاعرُ الحَمِقُ
لا يفهَمونَ - إِذا حَدَّثتُهُمْ – لُغتي
ولستُ أفهمُ حَرفاً إِنْ هُمُ نَطقوا
في عَالَمِ الغَيْبِ لي دُنيا مُزخْرَفةٌ
بالشِّعرِ يَرقَصُ فيها العِطرُ والأَلَقُ
إِنْ هَامَ جاريَ بالدِّينارِ يَجمعُهُ
أَعرضْتُ عَنه وقلتُ اليومَ نَفترِقُ
لا تِبرَ يَشْغَلُ أنظاري ولا وَرِقٌ
أخسُّ شيئينِ عِندي التِبرُ والوَرِقُ
عيني على الأُفْقِ تَستجلي عَجَائِبَهُ
لا تُخْفِ وجهَكَ عن عينيَّ يا أُفُقُ
تذَابحَ النَّاسُ من أجلِ الحُطامِ فلمْ
أَبِلَّ رجليَ بالبحرِ الذي اخترقُوا
سَابقتُهمْ فَكَبَا مُهري بِحَلْبَتِهِمْ
وسَابقونيَ في دُنياي فاحترقوا
إِني رَضِيتُ بِحَظِّي لا على مضَضٍ
لغيريَ الرَّوضُ أَغراساً ولي العَبَقُ
* * *
يا مَنْ فتحتُ على ديِوانِهِ بَصَري
ولمْ أُفارِقْهُ في حَلٍ وفي سَفَرِ
لكَمْ سَهِرنا معاً حتى الصَّباحِ فلمْ
تَملَّ مِنِّي، ولم أتعبْ من السَّهرِ
أُفضِي إِليكَ بأشْجاني فتُؤْنِسني
بِلا تَعالٍ وتأسُوني بلا هَذَرِ
إِذا استزدتُك لم تبخلْ عليَّ بما
يردُّ عني عَوادي الشَّكِ والحَذَرِ
تُحيي بِعطفِكَ آمالي وتُنقِذُني
من عَثرةِ الفِكرِ أو مِن عَثرةِ النَّظرِ
رسمتَ في الشِّعرِ درباً فاهتديتُ بِمن
يُغني المسافرَ عن شَمسٍ وعن قَمَرِ
زكا بيانُك صَهباءً وفَاكهةً
فلستُ في حاجةٍ للخمرِ والثمرِ
الشِّعرُ نبضٌ وإِلْهَامٌ وعاطفةٌ
فمن يَكُنْ عَاطِلاً منهنَّ فَليذَرِ
لا خَيرَ في القَولِ تِهذَاراً وشَعوذَةً
شَتّانَ بين بَريقِ الآلِ والمَطَرِ
جريتَ في حَلَبَاتِ الشِّعرِ مُنفرداً
ومَنْ سِواكَ فقد دَبُّوا على الأَثرِ
* * *
أستغفرُ اللهَ، بل جَاراكَ عملاقٌ
فَذُّ الجَّناحينِ لا تَعصيهِ آفاقُ
لم ينْمُ في العِزِّ لولا صدفةٌ طرأتْ
ولمْ يُفارقْهُ لَولا الحظُ إملاقُ
رَعى خُطاه أميرُ النِّيلِ من صِغرٍ
وردَّ عَنه عوادي الجوعِ رَزَّاقُ
فسبَّحَ اللهَ لم يَكْفُرْ بنعمَتِهِ
وقدْ تَدومُ على الشُّكرانِ أَرزاقُ
ولم يَخُنْ عهدَ مَنْ أسدى إِليهِ يداً
ولإِنْ تحاملَ نعَّابٌ ونعَّاقُ
ثَاروا عليه فلمْ يعبأْ بثورتِهِمْ
وطَالما استسلمتْ للنَّطعِ أَعنَاقُ
شوقي! تطيرُ إِليك الروحُ من طَربٍ
وتستريحُ إِلى نَجواكَ أَشواقُ
بنى سَميُّك مَجداً فاقتديتَ بِهِ
ويقتفي آثَرَ السباقِ سبَّاقُ
كلاكُما كوكبٌ للمجدِ مُؤتلِقٌ
كلاكُما عَلَمٌ في الشِّعرِ خَفَّاقُ
يا نسرَ كندَة لا تَعجبْ لمنقَلَبي
تأبى عليَّ جحودَ الحقِّ أخلاقُ
يا سَيِّدِ الشِّعرِ ضاقَتْ فُسحَةُ الأملِ
فكيفَ يحلو لأطيارِ الرُّبى زَجَلي
قستْ عليَّ بناتُ الدَّهرِ واجتمعتْ
على فُؤادي عَوادي الوَجدِ والوَجَلِ
فَتحتُ عيني على الحِرمَانِ ينْهشُني
ولمْ أَزلْ بين نَابيْهِ ولمْ يَزَلِ...
كَأَنَّ دَهريَ ذئبٌ يقتفي حَمَلاً
هل يُدركُ الذِّبُ معَنى نَظرةِ الحَمَلِ؟
بلَوْتُ، مُنذُ استوى عُودي، حَوادِثَهُ
فقلّبتْني على أدمي مِنَ الأَسلِ
أنا الغَريبُ ولي أَهلٌ أَلوذُ بِهمْ
إنَّ الغريبَ غريبُ الرُّوحِ والأَملِ
ما قيمةُالتِّبرِ لم يعلقْ به نَظرٌ
ما قيمةُ الزهرةِ الريّا على طَللِ؟
إنْ الصداحَ الذي لا أَيك يَسمعُه
لَكالنعيبِ إِلى الآذانِ لمْ يَصلِ
طُوباك تَدْفعُ كَيداً أو تصدُّ أذىً
السُّمُّ في الصَّابِ مثلُ السُّمِّ في العَسَلِ
إنْ كانَ في أَجَلي إِصلاحُ آخِرتي
فليسَ أشهى على قَلبي من الأَجلِ
* * *
أشرفْ علينا وحَدَّثْنَا بإسهابِ
عما تجرَّعتَ من شهدٍ ومِنْ صَابِ
شَهِدتَ في نِصفِ قَرنٍ ألفَ مَعرَكةٍ
وخُضْتَ ألفَ عُبَابٍ غيرَ هَيَّابِ
فلمْ تُسَجِّلْ لِغيرِ العُربِ مَفخرةً
يا شاعرَ الدَّهرِ هلْ كانوا بِلا عَابِ؟
أدْنَاكَ منه فتى حَمدان فاشتعلتْ
بالحِقدِ أكبادُ أَعداءٍ وأَصْحابِ
ولم تَكُنْ دُونَه شأناً ومرتَبةً
وإنْ تَكُنْ دُون أَلقابٍ وأَحْسابِ
سَعى الأَراذلُ والأقزامُ بينكُما
فانقادَ... وازورَّ قرضابٌ لقرضَابِ
فَعِفْتَ صُحبتَه، لكنْ على مَضضٍ
وغبتَ عنه وما كشَّرتَ عنْ نَابِ
لا يشربُ الحُرُّ من بئرٍ ويرجُمُها
ولا يُعفِّرُ خَدّيهِ على بَابِ
إنْ كانَ أَعطاكَ مما في يَديْهِ فقدْ
غمرتَه بعطايا قلبِكَ الصَّابي
مضتْ هَدَايَاهُ... أمَّا ما بذلتَ له
فسوفَ يبقى لأَحقابٍ وأَحْقابِ!
* * *
 
رحلتَ عنهُ فما أغناهُ مدَّاحُ
عمن أضاعَ ولا استهواهُ صدَّاحُ
كانت قوافِيكَ في الحزَّات عاصفةٍ
وكُنَّ كالرّاحِ حيناً أو هي الرَّاحُ
ما خَاضَ مَعْركةً إِلاَّ وكَانَ لها
منهُنَّ – إِن عَجِزَ الشُرَّاحُ – شُرَّاحُ
لولاكَ لا ندثَرَ اسماً وانطوى خَبراً
فليسَ يَخلُدُ لولا الشعرُ جَحجَاحُ
وَصَلْتَ باسمِك ذكراهُ فليس لها
- إلاَّ إِذا سُفحتْ ذكراكَ – سَفَّاحُ
نَضحتَ باليدِ واللسانِ فهَلْ
لاقى سِوى خيبةِ الآمالِ نَضَّاحُ؟
يكفيكَ أَنَّكَ لم تَخفِضْ جناحَك أو
يخنقْ هُتافَك في نادِيهِ فَحَّاحُ
تواطأَ الذِّئبُ والأَفعى عليك فلمْ
تجرِفْ شِراعَك أنواءٌ وأرياحُ
لئن نَبا بِكَ في الشَّهباءِ مُضْطَجَعٌ
فالأَرضُ واسعةٌ والأُفْقُ مُنداحُ
قد يَأْكُل الحرُّ مِن صَخرٍ ويَهضِمُه
إِذا تأبّى على جَانيه تُفاحُ
* * *
يا شَاعِرَ الدَّهرِ إِنَّ النَّاسَ مَا زَالوا
كما عهدتَ، فما يُجديكَ غربالُ؟
مهما تَدارسْتَ أَقوالَ الرِّجالِ فلنْ
يَعنو لفهْمِكَ إلاَّ بعضُ مَا قَالوا
لو شفَّ صَدْرُ الذي يفترُّ عن زَغَلٍ
لما تَخطَّر بينَ النًّاسِ دَجَّالُ
مُصيبةُ العَقلِ أنَّ القَلبَ قائِدُهُ
والقلبُ يخدَعُهُ التزييفُ والآلُ
كم خابَ فأْلُك فيمن كنتَ تَحْسَبُهُ
فوقَ الظُّنونِ وكمْ صَافَاكَ خَتَّالُ
قد يَنْطوي البُخْلُ أحياناً على كَرَمٍ
كما انطوى في ضَميرِ الأرضِ سَلسَالُ
وقدْ يكونُ سَخاءُ الكَفِّ تَغطيةً
للبُخلِ إنْ يَستطعْ تمويهَهُ المالُ
أصلاكَ لؤلؤُ ناراً لو صَبرتَ لها
لعِشتَ جيلاً ولم تذكرْكَ أجيالُ (3)
سُبحانَ ربِّكَ لولا فَيضُ حكمتِهِ
لَشَدَّ أَزْرَكَ حتى ساءتِ الحالُ
* * *
عَابوا عليكَ، وقد أعيتهم الحِيَلُ
إنَّ انتسابَكَ للأشرافِ مُنْتَحَلُ
هبْ كانَ جَدُّك سَقَّاءً كما زَعموا
أليسَ بالماءِ يَحيا الرُّوحُ والأَملُ؟
إنْ لم تَكُنْ من ذُؤاباتِ الورَى نَسباً
فما شَآك – على غَلوائِه – زُحَلُ
بنيتَ بالشِّعرِ مَجداً لا يُطاوِلُهُ
بانٍ، فيا أَولياءَ الشِّعرِ ما العَمَلُ؟
حَسْبُ الذين جَروا في الشَّوطِ أَنَّهمُ
على بَقايا بَقايا خُبزِكَ اقتتلوا
أكرمتَ شِعرَكَ عَمَّنْ لا وَفاءَ لَهُمْ
ولم تورِّطْه فيما يَشتَهي الجَدَلُ
لوْ لمْ يكُ ابنُ أبي الهَيجَاءِ (4) مفخرةً
للعُربِ كان سواهُ عِندَكَ البطلُ
مدحتَه لمزاياه، ولو صَغُرتْ
لما ثَناكَ عن استصغارِه وَجَلُ
تُبّاً لعينٍ ترى حُسناً فتُنِكرُهُ
ولا تُمَيِّزُ ما صَابٌ ومَا عسلُ
أَقسمْتُ ليسَ عَمى العيْنينِ فاجعةً
عمى البصيرةِ في شَرعي هُوَ الجَللُ
* * *
دارَ الزَّمانُ فهلْ أَنباكَ إِنسانُ
بما يُعاني من الأرزاءِ لبنانُ؟
تناهشتْه نُيُوبُ الغَدرِ واجتمعتْ
على بقايَاه ذُؤبانٌ وعُقبانُ
هذا الذي وهب الدُّنيا حضارتُه
لم يبق مِنه ومِن ماضيِهِ عُنوانُ
ماتْت – ولمْ يَبكهَا باكٍ – رسالتُهُ
فليسَ فيه لغيرِ الموتِ مِيدانُ
تبَّتْ يدٌ زَرَعتْ بالحِقدِ تُربتَهُ
فصارَ من نَبتِهَا صَلُّ وثُعبانُ
تحوَّلَ النُّورُ فيه ظُلمةً وَذَوَتْ
رياضُهُ، وانطوى حُسنٌ وإحسانُ
فلا الجَداوِلُ وَاديِهِ راقصةٌ
ولا البلابلُ ألحانٌ وألوانُ
يا مَنْ يَرُدُّ إِلى الفِردَوسِ بسَمَتَهُ
ويُخْمِدُ النَّارَ!... فالشطرانِ إِخوانُ
حامتْ على فُرقِ الإِطفاءِ تحرسُها
قلوبُنا، ومشىَ في الرَّكبِ عَدنانُ
إِنْ لمْ تَعُدْ لشتيتِ الصَّفِ وحدَتُهُ
فكُلُّ ربحٍ لِمن يَجنِيهِ خُسرانُ!
* * *
ما ضَرَّ لو نَبذُوا الأضْغَانَ وائتلَفوا
فليسَ يَعمُرُ بيتٌ أهلُه اختلفوا
يا سيِّدَ الشِّعرِ هلاَّ هِجتَ نَخوتَهُمْ
فقد يَفِيقَ على صَيحاتِكَ الأَنِفُ
تَوارثوا جَنةً طابتْ مراتعُهَا
يا قومُ لا تَهدِموا ما شَيَّدَ السَّلفُ
ما بالُهُمْ عَبدوا الشَّيطانَ وانصرفُوا؟
إِلى المَعاصي، وفي تَيَّارِهِ وانجرفوا؟
روابطُ الدَّمِ والتاريخِ تَجمعُهُمْ
فلا تُفرِّقْهُمُ الأحزابُ والصحفُ
كم في الجرائد من أَفعى إِذا نَفَثتْ
سُمُومَها راحتِ الأصْلالُ تَرْتَجفُ
أبوابُهُمْ لِوُحُوشِ الغابِ مُشرعةٌ
فكيفَ يُؤمَنُ جَارٌ مَا له شَرَفٌ (5)
أقولُ واللَّوعةُ الخَرْساءُ تَنْهَشُني
يَا لَهْفَ نَفسي... ومَاذا يَنفَعُ اللهف؟
لبنانُ جُرحُكَ في قلبي، فما ذَرَفتْ
عيناك إلاَّ دَماً من مُهجتي يَكِفُ
لكُلِ قَومٍ إِذا ما قَاتلوا هدفٌ
إلاَّ اقتتالُك لم يُعرف له هَدَفُ!
* * *
يا شَاعِرَ الدَّهرِ بُثَّ الرُّوحَ في وَتَري
يَعْذُبْ هَديلي ويستَحْلِ الوَرى ثَمري
الشامُ مَدَّتْ إِلى لبنانَ رَاحَتَها
بالزَّهرِ، فانتعشَ الإِحسانُ في الحجرِ
لَبَّتْ نداءَ الوفا يقتادُها بطلٌ
نجدٌ تعوَّدَ لا يختالُ من بَطَرِ
هيَّا نُغَنِّ لَها: لا عكَّرتْ بَردى
رِيحٌ ولا اختلجتْ عَيناكَ من كَدَرِ
يا حَافِظَ الشامِ من شرٍّ يُرادُ بِها
أراكَ من ظَفَرٍ تمشي إِلى ظَفَرِ
طارتْ إِليكَ على بُعدٍ جَوانِحُنَا
ترعى دروبَك من كيدٍ ومِن خَطَرِ
لأَنتَ قُرَّةُ عَينِ المجْدِ، ما وقَعَتْ
لولاكَ إِلاَّ على ليلٍ بِلا قَمَرِ
مَا دُمتَ تزأَرُ في بابِ الشَّرى أَسداً
فقد تبخَّرَ حُلمُ الغَاصِبِ التَتَري
إِني لأَرْفَعُ رأْسي فيكَ مُفتخِراً
فلتنخفض هامةُ الدُّنيا لمفتخرِ!
* * *
لم تعرِف الشامُ أصفى مِنكَ وجُدَانا
لا أشدَّ على الطُّغيانِ طغيانا
جمعتَ حَولَكَ فِتياناً جَحَاجِحَةً
ضَاهُوك – أَو أَوشكوا – عزماً وإِيمانا
غَسَّانُ أنجبَهُم للمجدِ فارتفعوا
إلى النُّجُومِ الزَّواهي باسمِ غَسَّانا
إِذا تَنَادَوْا إلى الجُلَّى فقُلْ أُسُدٌ
يَقُودُهُمُ أَسَدٌ مَا لاَن أَوْ هَانا
شمُّ الأُنُوفِ سَخوا بذْلاً وتَضْحِيةً
بِيضُ الوجُوهِ سَموا حُسناً وإحسانا
تَلاّتُ جولانَ يومَ الرُّوعِ تعرِفُهُم
يا جَاهِلِيهِمْ سَلوا تلاّتِ جَولانا
غسلتَ عارَ حزيرانٍ بوقفتِهم
لولا نسورُ العُلى طالتْ بَلايَانا
يا جَامعَ المجدِ من شتَّى جَوانِبِهِ
نثرتُ شِعري على نَاديِك رَيْحَانا
تاهتْ حُروفيَ زهْواً وانتشتْ طرباً
لما ذكرتُك للأخَلاقِ عُنوانا
ما كنتَ أهلاً لتقديري وتَكرُمتي
لوْ لمْ تَكُنْ يا أبا الأَحرارِ إِنسانا
* * *
بالرُّوحِ أَفدي مَغاني الأَرزِ والشَّامِ
فهُنَّ مَسرحُ آمَالي وأَحْلامي
حَلفتُ لولاهُمَا لمْ تَحْلُ قَافيتي
لَولاهُمَا أو تَطِبْ للِناسِ أَنغامي
لي فيهمَا إخوةٌ، لي فيهِمَا رَحِمٌ
فكيف أُنكِرُ أَحبَابي وأَرحَامي؟
لا تُعجبوا لشُيُوعِ الحُزنِ في وَتَري
فليسَ يَرقُصُ طيرٌ قلبُه دامِ
لَيبرأ الوَطنُ المفجُوعُ من نَفَرٍ
صَاموا وصَلُّوا لأَنصابٍ وأَصنَامِ
بِاسمِ المسيحِ وبِاسمِ المُصطَفى اقتتلوا
والدينُ يَربأُ عن قَتْلٍ وإِجرامِ
لا يُؤمنونَ بِمنْ طَابتْ سَرائرُهُمْ
ويؤمنونَ بِدجَّالٍ وهدَّامِ
يا قَومُ لا تفتَحوا للخُلْفِ بابَكُمُ
فلا نَجاةَ لكم مِن شَرِّهِ الطَّامِي
ثُوبوا إِلى رُشدِكُمْ يَسلَمْ لَكُمْ وَطَنٌ
لا خَيرَ في العَقْلِ يَستهدي بأَوهَامِ
إِنْ لم يَكُن غيرَ شاةٍ في حَظيرتِكمْ
حَذارِ لا تَتركُوهَا عند ضِرغَامِ!
* * *
يا سيِّدَ الشِّعرِ إِِنْ أعجمتُ لا تَلُمِ
جَارتْ عَوادي الأَسى الطَّاغي على قَلَمي
كانتْ لنا دَولةٌ زَهراءُ وارفةٌ
شَرقيةُ الرُّوحِ قَحطانيَّةُ العلمِ (6)
سيوفُها – إنِ تَباهى النَّاسُ – مِن قَصَبٍ
وجيشُهَا أدبٌ يسمو عن التُّهَمِ
غزتْ بآياتِهَا الفَيْحاءَ وافتتحتْ
شِبهَ الجَّزيرةِ واستولتْ على الهَرَمِ
واليومَ ماذا تَرى؟ دُكَّتْ مَعاقِلُنا
وحَلَّلوا دَمَنا في الأَشهُرِ الحُرُمِ
وارحمَتا لِغريبِ الدَّارِ تَقذِقُهُ
هُوجُ العواصِفِ بين البِيدِ والأُجُمِ
نهارُه تَعَبٌ يقتاتُ من تعبٍ
وليلُهُ ألمٌ يَشتقُّ مِنْ أَلمِ
يا شَاعِرَ الدَّهرِ غابتْ شمسُ دَولَتِنا
ماذا تَفيدُ المُعَنَّى آهةُ النَّدَمِ؟
لم يبقْ للضادِ من يَحمي كَرامتَها
إلاَّ عليٌّ (7) يَقيها غَزوةَ العَجَمِ؟
إذا الْلِسانُ كَبا أودَى بِصَاحِبِهِ
ولمْ يَمُتْ أحدٌ من كَبوةِ القَدمِ
تموز 1976
 
طباعة

تعليق

 القراءات :486  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 181 من 665
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.